مبدعون سوريون يتحدثون لـ"المجلة" عن المتوقع والمأمول في سوريا الجديدة

الحرية شرط أساس لبناء المستقبل

AlMajalla
AlMajalla

مبدعون سوريون يتحدثون لـ"المجلة" عن المتوقع والمأمول في سوريا الجديدة

لا ترسم تحولات المشهد السوري، مستقبلا سياسيا جديدا فحسب، بل تعد بمشهد ثقافي يؤمل بأن يكون مختلفا جذريا عما ظل سائدا طوال أكثر من نصف قرن، في ظل النظام القمعي، الذي قيد الحريات، وكمّ الأفواه، وطارد المثقفين، ومنع الكتب، فخنق الإبداع والقائمين عليه.

تستطلع "المجلة" في هذا التقرير الموسع، كيف ينظر مثقفون ومبدعون سوريون إلى أفق هذه التغيرات، وما آمالهم ومخاوفهم تجاه مستقبل بلادهم.

مراحل وأولويات

بداية، ترى الفنانة والروائية واحة الراهب، في حديثها الى "المجلة" أن المشهد الثقافي السوري شهد ثلاث مراحل: "ما قبل ثورة 2011 وكانت سمتها الرئيسة قمع الرقابة الأمنية لجميع أشكال الإبداع والثقافات، والثانية المرتبطة باندلاع الثورة، وقد كشفت الكثير من الطاقات الإبداعية السورية، أما المرحلة الثالثة الواقعة حاليا بعد إسقاط هذا النظام الغاشم، وتحررنا من قبضته الفتاكة، فمن المبكر الحديث عنها أو تبين ملامحها. إذ لم تفعل بعد أي إنتاجات أو توجهات توضح سير تدفق الطاقات الإبداعية سوى بوعود وبعض المحاسبات التي تبشر بالخير. وهناك مؤشرات مهمة لمستها، كإتاحة المجال للأعمال الدرامية التي كانت تصور بأن تستكمل، وكذلك السماح برواياتنا التي كانت ممنوعة تماما في العصر البائد بالتداول مجددا. فقد طلبت رواياتي الممنوعة سابقا، مثل أفلامي السينمائية، للمشاركة في معرض ثقافي بحمص لأول مرة أمام القراء السوريين، الذين كتبت لهم أولا تلك الروايات. ولا أعلم إن كان هذا السماح حالة دائمة أم أنه مؤقت وسيطاله المنع قريبا، فحرية الفكر والثقافة مؤشر أساسي على حدوث التغيير وإطلاق الحريات في أي مجتمع".

أما الروائي فواز حداد فيرى أن هذه المرحلة الجديدة تفرض أولويات على جميع المستويات، بما في ذلك على الساحة الثقافية. يقول لـ"المجلة": "الأولوية هي الحفاظ على هذا الانتصار الذي يعيد إلينا كسوريين ما افتقدناه طوال عقود، لذلك ينبغي عدم التفريط به، هذا هو المفترض والمأمول. الفشل يعني ذهابنا إلى الفوضى، وربما إلى حرب أهلية، مع نصف قرن آخر من الموت والخراب. إن الإحساس بالمسؤولية، يفضي إلى طرح مسائل ضرورية ومواجهتها بشجاعة، وعدم إضاعة الوقت الثمين، بالتشبث بنماذج موجودة في مخيلاتنا، وإنما التعرف إلى الواقع، لا يمكن استبعاد أننا شعوب متدينة. عندما استخدم الأسدان القمع لتطويع الشعب، وضع رجال الدين تحت سطوته، إلى حد انعكاسه على تحلل الدين وتطرفه. إذن، مسألة العلمانية ضرورية ليس بنسختها المتشددة، وذلك بعدم استعارة فوبيا الإسلام، الذي وجدت فيه الدول الديكتاتورية غايتها في مطاردة مجموعات من البشر واستئصالهم".

لا أعلم إن كان هذا السماح حالة دائمة أم أنه مؤقت وسيطاله المنع قريبا، فحرية الفكر والثقافة مؤشر أساسي الى حدوث التغيير

واحة الراهب

وحول توقعاته للمرحلة المقبلة يقول حداد: "ليس الأدباء السوريون خارج العالم، إنهم في قلبه، أتاحه لهم الفضاء الإلكتروني، ما يلزمهم هو الحرية، حسنا سيتعرفون الى الحرية، بعد حرمان طويل، وهم لا تنقصهم الثقافة ولا الجرأة ولا البلاغة في التعبير عن أنفسهم ومجتمعاتهم وما يرفضونه أو يرغبون فيه.

أمامهم قضايا كثيرة، أهمها مواجهة واقع من الخراب، لن يعجزوا عن رفع سقف حرياتهم، سيكتشفونها ويتعاملون معها. لا أدب حقيقيا من دون حرية. أما الإبداع، فليسوا قاصرين عنه، سينطلقون في مجاهله. المفترض ألا يكونوا أسرى الممنوع ولا المحظور ولا الخطوط الحمراء، الرقيب الداخلي انتهى، وسيف الرقابة غير مسلط عليهم، لكن ليس من دون حرية مسؤولة، نعم حرية مسؤولة، وليس تمييعها وتسيبها، وحدها ستأخذهم إلى النظر من جديد إلى الحياة. أؤمن بسوريا وأؤمن بالسوريين، وأؤمن بفاعلية الأدب والفن في استعادة ثقافة حقيقية".

أنصار ومهاجرون

مغادرة سوريا وطرح المبدعين إنتاجاتهم في الخارج، في ظل بيئات يرتفع فيها سقف الحريات وتدعم الإبداع، تطرح تساؤلا حول ما إذا كنا سنشهد حالة "أنصار ومهاجرين" في المشهد الثقافي.

واحة الراهب

الناقد الأدبي مفيد نجم ينفي لـ"المجلة" إمكان حصول هذه الحالة: "لا وجود لما يمكن أن نسميه ثقافة المهاجرين والأنصار لسبب بسيط، وهو أن غالبية المثقفين السوريين تحولوا إلى لاجئين ومنفيين في شتى أصقاع الأرض خلال سنوات الثورة، وأن المثقفين السوريين في هذه المنافي لم يستطيعوا التخلص من موروثهم القديم الأيديولوجي والشللي، وبالتالي فقد عجزوا طوال أكثر من عشر سنوات، عن إنتاج حالة ثقافية أو صيغة عمل ثقافي جامعة، تتيح لهم تقديم البديل الثقافي من جهة، ومن جهة أخرى التأثير في الحياة الثقافية للبلدان التي يعيشون فيها، إلا في حالات قليلة جدا. قد يكون هذا التوصيف قاسيا بعض الشيء، لكن لا بد من الاعتراف بالواقع، حتى نستطيع تجاوز أخطائنا".

الإحساس بالمسؤولية، يفضي إلى طرح مسائل ضرورية ومواجهتها بشجاعة، وعدم إضاعة الوقت الثمين، بالتشبث بنماذج موجودة في مخيلاتنا

فواز حداد

ويرى نجم أن المسألة التي يمكن أن تواجهها الثقافة السورية "تتصل بعلاقة أجيال الثقافة السورية الجديدة مع الأجيال الأكبر سنا، لأن بعض المثقفين الجدد، قد يرى في قتل الأب ضرورة للانطلاق في بناء الثقافة الجديدة، باعتبار الجيل الأكبر فشل في تحقيق هذه المهمة، أو أن بعض المثقفين ساهموا بشكل أو بآخر قبل الثورة في تحريك عجلة ثقافة السلطة بهذا القدر أو ذاك. لكن التحدي الأخطر يتمثل في فرض السلطة الجديدة قيمها ومفاهيمها الخاصة، على الثقافة التي يجب أن تعبر عن وعي متجدد بمفاهيم الحياة الجديدة، في ضوء المتغيرات المهولة التي يمكن أن تطرأ على مفهوم المثقف، وأهمية دوره الذي كان يلعبه في الماضي".

مفيد نجم

المهمات الملقاة على عاتق الثقافية ستكون كبيرة جدا، "وتحتاج إلى اتفاق الجميع على ثقافة جامعة بروافد كثيرة، تعكس تنوع المجتمع السوري وتفاعل مكوناته الفكرية والسياسية المختلفة، لكي تستعيد الثقافة حيويتها وعوامل قوتها التي تجعل منها القاطرة التي تقود تحولات الحياة والمجتمع، برؤية عصرية تخرجنا من قمقم الاستبداد وأحادية الفكرة، لكيلا تتحول الثقافة ثانية مرة أخرى، إلى وسيلة لإنتاج الاستبداد". حول هذه الثنائية نفسها، بين المثقفين السوريين، يجيب الروائي نبيل الملحم، مستبعدا نفسه عن حالة كهذه.

Reuters
لقطة درون تظهر محتفلين يلوّحون بأعلام تبنّاها الحكّام الجدد لسوريا في ساحة الأمويين بدمشق، 20 ديسمبر 2024

يقول لـ"المجلة": "اثنان يحسنان الإجابة عن هذا السؤال: شاب في مقتبل العمر، هاجر ليشكل ذاكرة، وشيخ عجوز يبحث عن مستشفى مريح أو دار عجزة تستضيفه خارج بلاده، وتحديدا في دول الغرب، ثمة ثالث هو المعضلة، فلا هو جاهز ليشكل ذاكرة جديدة، ولا هو مستغن عن الذاكرة ويعيش وفق مقتضيات البيولوجيا وقد تآكلت قواه... هذا الثالث راكم ما يكفي من الذاكرة لإعادة إنتاجها، وتحديدا في النص المكتوب، مما يعني أن استبدال المكان لن يشكل تجديدا، وكل الخوف من أن يتحول إلى قطع مع الماضي.

بعض المثقفين الجدد، قد يرى في قتل الأب ضرورة للانطلاق في بناء الثقافة الجديدة، باعتبار الجيل الأكبر فشل في تحقيق هذه المهمة

مفيد نجم

بالنسبة إلي لم أنتم إلى المكان الذي هاجرت إليه، ولم آخذ منه سوى مفردات ضئيلة، لا تسعف في تشكيل ذاكرة، كأن أتعرف الى خطوط القطارات ولكنني لا أتعلم قيادتها... مكان المهجر هو هجرة بلا استضافة. يعني كان الوقت الضائع بالنسبة إلي، بالنسبة إلى غيري لا أدري، فلم أتابع نتاجاتهم بما يكفي، ولكن كل ما شاهدته هو مجموعات مهاجرة استبدلت الوطن بـ"الغيتو"، غيتو المثقفين الذين يبوحون بيومياتهم، لم أعثر على ما يؤصل التجربة، على العكس من حال الذين مكثوا في البلد على أوجاعها وأجاعهم، هؤلاء عاشوا في المكان المفتوح، لا ضمن غيتو المثقفين، وأتيحت لهم المراكمة على ما راكموه، وهو لا بد مادة منتجة لقيمة ما...

نبيل الملحم

صحيح أنهم عانوا بؤس التدفئة، ولكنهم لم يعانوا العزلة. العزلة هنا ليس بالمعنى الخلاق، بل أقصد العزلة القسرية، التي تعني الهذيان. ما اطلعت عليه من منتجات الهجرة، لا يدفعني للتصفيق له والبناء عليه، ربما يدفعني للتضامن مع قسوته".

الداخل والخارج

ما بين البقاء في الداخل والاضطرار إلى الخروج والتوزع في دول الشتات، ربما انعكس في صورة انقسام على الساحة الثقافية، في ظل اختلاف الموقف من النظام. يقول الشاعر آرام الذي اختار البقاء في الداخل السوري وعدم المغادرة: "لا أعلم بالضبط ما المقصود بالانقسام بين الداخل والخارج في ما يتعلق بالشأن الثقافي، فبعض المثقفين زاولوا أعمالهم في الخارج بحكم أن حياتهم بكاملها انتقلت إلى الخارج، لا سيما أن قسما كبيرا منهم كان خروجه من الوطن السوري إما نفيا أو هروبا من القبضة الأمنية التي لا ترحم، وإما تهجيرا قسريا، وطبعا ذلك حدث لمن تيسر له السفر أو سنحت له الفرصة بذلك. ولا شك أن الصوت يكون أكثر وضوحا كلما ابتعد عن الخطر وكان الشعور بالأمان مرتفعا، في المقابل خفت كثير من الأصوات في الداخل، خوفا من البطش والملاحقة لا سيما في السنوات الأخيرة، والجميع في تلك الحقبة كان يعيش في ظروف حياتية في منتهى القسوة".

آرام

ويضيف آرام: "أما إذا كان لا بد من الحديث عن انقسام فلم يكن الانقسام في جوهره العميق سوى انقسام سياسي وإنساني أو أخلاقي بشكل أدق، لأن المسألة كانت تتعلق في الدرجة الأولى بالحالة الأخلاقية لدى المثقف أو الكاتب أو الفنان. لم تكن الخلافات فكرية أو ثقافية بحتة بل كانت في مجملها تدور بين من ساند الطغيان وبين من كان يحاول العمل بأي طريقة لاسترداد الحرية المسلوبة، سواء على الصعيد الفردي أو العام".

الذين مكثوا في البلاد على أوجاعها وأوجاعهم، هؤلاء عاشوا في المكان المفتوح، لا ضمن غيتو المثقفين، وأتيحت لهم المراكمة على ما راكموه

نبيل الملحم

ظروف الحرب العالمية الأولى، التي أنتجت الدادئية، لم تماثلها السنوات العجاف التي مرت بها سوريا، ورغم قسوتها، إلا أنها لم تبلور حركة فنية متكاملة طرحت صيغا إبداعية جديدة، بل بقي الفن السوري، ضمن التجارب الفردية، يحدثنا الفنان التشكيلي أسعد فرزات عن تلك الحركة وتأثرها بالحدث السوري، وامتداد أثره عليها: "إن كان على المستوى التقني والأسلوب والطرح الفكري بالنسبة إلى المواضيع، المسألة ليست قرارا، بل إلى أي مدى نستطيع إخراج كل الوجوه التي غادرتنا من ذاكرتنا وملوحة البحر من أجسادنا، إلى آخر زنزانات صيدنايا وأحواض الأسيد التي شاهدناها في الواقع، والتي كنا نسمع عنها. تلك المشاهد بما فيها المنفى المتجذر فينا طوال أكثر من 14 عاما لا تزول بسهولة متى أردنا. هناك فنانون لا يزالون يرسمون مواضيع الحرب وتأثيرها على النفس البشرية كما يفعل أنسليم كيفر وبعض الفنانين اليابانيين، تلك القنبلة الراسخة بأذهانهم وهيروشيما التي لا تغادر ذاكرتهم حتى الآن. ربما هي حالة صحية إنسانية بحتة، ربما الصدمة القوية تؤدي إلى الشفاء لكسر الصورة والهوة بين الكارثة والأمل، عملا بمبدأ أن الفن هو أداة حقيقية لتخفيف التوتر والمساهمة الإيجابية بمعالجة الصدمة، لأن الفن يتيح لنا رؤية أنفسنا من الداخل بوضوح أكبر، ويمنحنا مناعة قوية أمام الصدمات.

AFP
صبي يرفع علم المعارضة في إحدى نواعير حماة بعد سيطرة الفصائل على المدينة، 6 كانون الأول 2024

الغربة أضافت لي أفقا أوسع، من خلال المتاحف والصالات المختصة وقراءة الأعمال الفنية وملامستها واقعيا وقراءتها بصريا بشكل أفضل. كما أن هناك ثقافة مختلفة عن عالمنا التشكيلي أتمنى أن تسود ببلدي، بأن مقتني اللوحة يعتمد بشكل أساسي على ثقافته وليس على مزاج صاحب الصالة، وليس هناك محسوبيات وشللية. أتمنى بالفعل على المهتمين وأصحاب الصالات وبمن يكلفون أشخاصا بالكتابة عن تجارب الفنانين، الابتعاد عن المزاجيات والمحسوبيات، أتمنى المناخ الصحي والحقيقي من الآن وصاعدا في بلدي".

هوية أم هويات؟

الهوية الكردية، ومدى انفتاحها على مسارات الهوية السورية، واحتواء الأخيرة لها كمكون يغني ويثري، لا كهامش مستثنى، ستعكس وينعكس من خلالها النتاج الإبداعي ومستقبل الكتابة الكردية.

هيثم حسين

احتمالات هذه الصورة وارتباطاتها، يوجزها لـ"المجلة" الروائي والناقد هيثم حسين: "إذا افترضنا أن سوريا الجديدة ستكون دولة المواطنة الحقيقية، فإن ذلك سيعني تحرير الأدب الكردي، ومعه الأدب السوري بكل تنوعاته، من الإقصاء والتهميش. سيكون في إمكان الكتاب الكرد الكتابة بلغتهم من دون خوف، وأن تكون كتاباتهم جزءا من المشهد الثقافي العام، وليس هامشا أو استثناء. الأدب الكردي المكتوب بالكردية أو بالعربية أو بأي لغة أخرى سيعامل بوصفه تعبيرا عن تجربة إنسانية، لا كصوت خافت لمكون محدد".

لم تكن الخلافات فكرية أو ثقافية بحتة بل كانت في مجملها تدور بين من ساند الطغيان وبين من كان يحاول العمل بأي طريقة لاسترداد الحرية المسلوبة

آرام

لكن حسين يرى أن المسألة ليست بهذه البساطة، فـ"التحولات السياسية والاجتماعية لا تحدث بقرارات فوقية، بل تحتاج إلى إرادة مجتمعية وسياسية تتجاوز إرث القمع والتهميش. في سوريا المواطنة، لن يكون على الكاتب الكردي أن يبرر لغته أو هويته، بل سيكون قادرا على تقديم أدبه كما هو، دون الحاجة إلى الدفاع عن شرعيته. وهنا يبرز التحدي الحقيقي: هل ستتمكن سوريا الجديدة من تفكيك البنية الذهنية التي ربطت الهوية بالمركزية العروبية – بمعناها الإقصائي الذي مورس في سوريا، والتي همشت كل ما هو خارجها؟ هل ستتمكن من استيعاب التعددية اللغوية والثقافية باعتبارها ثراء لا تهديدا؟ إذا كان هناك أمل، فهو في الأجيال الجديدة التي لم تتورط في أحقاد الماضي، والتي قد ترى في المواطنة معيارا حقيقيا، لا شعارا سياسيا توظيفيا. حينها، لن يكون الحديث عن الأدب الكردي في سوريا الجديدة حديثا عن أقلية أدبية، بل سيكون حديثا عن جزء طبيعي من الأدب السوري، الذي يعكس تعدديته وثراءه من دون الحاجة إلى تبرير أو تأطير".

AFP
احتفالات ورفع علم ضخم للمعارضة في ساحة الأمويين بدمشق، 9 ديسمبر 2024

ويرى حسين في هذا السياق أنه "ليس هناك حاجة إلى اختراع نموذج من العدم، فالتجارب البشرية تزخر بأمثلة لدول ومجتمعات نجحت في تحويل تنوعها إلى عنصر ثراء بدل أن يكون عامل صراع. دول مثل بريطانيا وكندا وبلجيكا وسويسرا وغيرها، أثبتت أن التعددية اللغوية والثقافية ليست عائقا أمام بناء الهوية الوطنية، بل على العكس، يمكن أن تصبح أساسا متينا لأي مجتمع ديمقراطي متماسك. والسؤال الذي يبقى ملحا هو هل ستكون سوريا الجديدة قادرة على استلهام هذه الدروس، أم ستظل أسيرة صراعات الهويات المتنازعة؟".

فارس الذهبي

الشباب والقطيعة

تطلعات الشباب الروائي السوري تتجه إلى قطيعة تامة مع ما كان سائدا خلال عقود الأسدين، ونهجها في تكريس الكتابة الأمنية لا الإبداعية، عن تلك التطلعات، يقول الروائي فارس الذهبي لـ"المجلة": "ما نحتاج إليه اليوم هو تغيير العقلية الاستقبالية للنص، أي عقلية المستقبل الأول للنص الأدبي، وهذه الطبقة من المستقبلين تتضمن كل النقاد والصحافيين وعمداء الجامعات والكليات الأدبية والمحررين ومدريري المعارض وحتى بعض الناشرين، الذين يلوكون النصوص مثلما يلوكون مغازل القطن إلى ما لا نهاية، دون عملية بحث عن الجديد، بل ينحصر بحثهم ضمن نطاق المناسب والرائج.

تلك المشاهد بما فيها المنفى المتجذر فينا طوال أكثر من 14 عاما لا تزول بسهولة متى أردنا

أسعد فرزات

ما نحتاج إليه في هذه المرحلة هو الابتكار والجرأة في خوض المواضيع الأدبية الجديدة التي تفكك المجتمع ومن ثم تعيد تركيبه، لغاية فهم علله ومشاكله وتفاصيل تراكبية طبقاته عبر القرون، هذه مهمة الأدب التي لا تخيب، تعرية الواقع، لا فرض اللثام عليه، كشف العيوب التي تضعف المجتمع لا التستر عليها. لقد درج القائمون على الأدب السوري طوال نصف قرن على فرض وصاية على العقل البشري عبر سلسلة لا متناهية من القيود والشروط والضوابط، حتى نجحوا في خلق الرقيب الداخلي الذي يبدأ عمله ذاتيا بمجرد وعي الإنسان ضمن ذلك المجتمع، فيبدأ الكاتب بتجنب ما يثير المشاكل، وما يزعج الأجهزة الأمنية، إلا من قرر دفع الثمن مضاعفا ومغادرة البلاد بحثا عن قارئ خارجي غريب لا منتم الى الموضوعة الأدبية، أو أن يعيش في غربة داخلية مستمرة في الصراع مع النظام وتحمل نتائج قراره".

AFP
رجل يرفع علما وسط حشود في إدلب، 28 آذار 2025

ويرى الذهبي أن "البوابة اليوم مفتوحة على مصراعيها جهة المستحيل، سوريا عامرة بحكايا لا تكفيها جيوش من الكتاب والروائيين والشعراء. الأقلام متأهبة، ما نحتاج إليه قبل ملء الصفحات البيضاء هو نقاء الذهن ووضوح الرؤيا بعد سقوط الوهم، وهم الخوف والكراهية. فنحن نحتاج إلى أن نكتب كي نكون موجودين في المستقبل الذي يرانا اليوم كماض يحتاج أن يسجل".

أدب نسائي؟

البعض يرى أهمية وضرورة التركيز على بلورة أدب نسائي في هذه المرحلة، أو قد يراها آخرون دخيلة على هذه اللحظة العامة بامتياز. لواحة الراهب وجهة نظر في ذلك:  "بغض النظر عن أن اللحظة عامة حقيقة، تفترض تضافر كل جهود مكونات الوطن رجالا ونساء وأديانا وطوائف وأعراقا دون تفرقة أو تمييز، للنهضة بالبلد.

في سوريا المواطنة، لن يكون على الكاتب الكردي أن يبرر لغته أو هويته، بل سيكون قادرا على تقديم أدبه كما هو، دون الحاجة إلى الدفاع عن شرعيته

هيثم حسين

إلا أني لا أجد أن التمييز في الإبداع بين أدب نسائي ورجالي أمر طبيعي، إلا في حدود الحاجة إلى دعم قضية اضطهاد ما، كما درج من تسميات في فترات المقاومة ودعم للقضايا الإنسانية، فيطلق تسميات على تظاهرات سينمائية مثل سينما القارة السوداء أو السينما أو الأدب الفلسطيني أو سينما أو أدب المرأة، وكلها تسميات تزول بزوال قضية الاضطهاد والحاجة إلى دعمها. وإن تحققت المساواة والعدالة تجاه المرأة وتمثيلها وأنصفت قضاياها، سنكتشف حينها أن الإبداع إنساني واحد، لا يفرق قيمة وتميزا أحدهما عن الآخر إلا بمقدار قدرته الإبداعية على التعبير بجمالية خاصة عن قضايا مجتمعه وعن الإنسانية عموما. قد نجد بصمة خاصة عند بعض الروائيات تساهم في قدرتهن على تجسيد هموم بني جنسها من النساء أكثر من الرجل، على مبدأ من يأكل العصي ليس كمن يعدها".

أسعد فرزات

لغة الآخر

الحدث السوري منذ العام 2011 وآثاره، كان محور إبداعات السوريين على اختلاف الفنون منذ ذاك الوقت، من رواية وقصة وشعر وتشكيل ونحت. الهجرة مثلا والمهاجرون، شكلوا مركز أعمال الروائي والقاص يوسف وقاص، الذي اتجه الى الكتابة باللغة الإيطالية، لغة المكان الذي يقيم فيه، أما عن مستقبل هذا التمحور وفكرة العودة الى اللغة الأم، يقول وقاص: "منذ البداية، أي منذ أن بدأت الكتابة مصادفة في عام 1995، كان تركيزي موجها نحو حياة المهاجرين في إيطاليا، بغض النظر عن أصولهم ومعتقداتهم. لقد ولد الأدب من الحاجة إلى البقاء، وفي حالتنا نحن الذين أجبروا على الغربة، كانت الكلمة حاجة ملحة كونها الملجأ الوحيد لفهم هويتنا وأصولنا والوجهة التي نتجه إليها. إن الكتابة تعكس الرغبة في الخروج من حالة العزلة والطموح لتوفير صوت للمهاجرين، بهدف تفنيد الأحكام المسبقة التي توجه إليهم. كما تسعى إلى دعم وتعزيز الجسر الذي يربط بين الحضارات، ومع ذلك، في حالتي وحالة العديد من الكتاب المنتشرين في أوروبا، كان علينا اختيار لغة المجتمع المضيف للتعبير عن أنفسنا وتسليط الضوء على واقع المغتربين المهمشين وظروفهم المعيشية والإنسانية الصعبة.

ما نحتاج إليه قبل ملء الصفحات البيضاء هو نقاء الذهن ووضوح الرؤيا بعد سقوط الوهم، وهم الخوف والكراهية

فارس الذهبي

تعتبر اللغة مكونا أساسيا في الثقافة، فالكلمات والتعبيرات التي نستخدمها، حتى وإن كانت بلغة غير لغتنا الأم، تعكس قيمنا وأولوياتنا الثقافية. يمكن القارئ أن يجد هذه القيم متجسدة في كل القصص التي كتبتها عن المهاجرين في إيطاليا. كنا نهدف، من خلال اعتماد لغة المضيف، إلى إيصال أصواتهم وما يعانونه من آلام وأحلام إلى الطرف الآخر الذي غالبا ما يغفل وجودهم، حيث ينظر إليهم كأيد عاملة فحسب أو كائنات غامضة تحوم حولها الكثير من الشكوك. من خلال الأدب، نتمكن من استكشاف عوالم ووجهات نظر متنوعة وكيفية التعامل معها. إنه أداة حيوية لتطوير المهارات اللغوية والقدرة على التحليل والتركيب، ولتعميق الفهم حول القضايا المعقدة التي نواجهها في وضعنا الراهن. حتما، ستكون عودة موفقة إلى لغتنا الرائعة والثرية بعد انقطاع طويل، مع الاستمرار طبعا في التفاعل مع اللغة، أو اللغات المكتسبة، لمزيد من الفائدة لكلا الثقافتين".

خالد الساعي

الجدارية الكبرى

الجدارية الكبرى للفن في سوريا المستقبل، ما زالت خطوطها مجهولة، يتطلع كثر لرسمها. التشكيلي خالد الساعي، الذي وثق في جدارية مهمة في العام 2016 المأساة السورية، وهي جدارية معروضة في أحد المتاحف الألمانية، يطرح عبر "المجلة" تصوراته عنها، من خلال الأعمال التي قدمها، والأعمال التي ينظر إليها: "أعمالي، كانت بمثابة أرشفة دقيقة للثورة منذ الشرارة الأولى إلى تاريخه. وقد تمت وبشكل فني وتسلسلي أرشفة كل المجازر والاختراقات التي قامت بها عصابات النظام من تجويع السوريين وترويعهم إلى تفاصيل ما جرى، مشفوعا بصور وكلام بأكثر من لغة يفضح بشاعة ما جرى من أهوال متلازما مع الصمت والتآمر الدوليين.

ستكون عودة موفقة إلى لغتنا الرائعة والثرية بعد انقطاع طويل، مع الاستمرار طبعا في التفاعل مع اللغة، أو اللغات المكتسبة

يوسف وقاص

كما تمت الإضاءة على دروب الهجرة وأهوالها ومصاعبها، لكن، كانت أيادي الأطفال ترفع شارة النصر وكانت بعض القصص المضيئة لنجاحات السوريين في الاغتراب وكان كل ذلك جزءا من النضال. كان اتفاقي مع المتحف أن نقيم حفلا خاصا عندما تنتصر الثورة، لكن بإضافة العمل الثاني، وهو لوحة سوريا الواحدة المتعددة الحرة التي ستكون في دمشق. الجزء الثاني من الجدارية لا يزال قيد التأسيس، لأن التحديات كبيرة، ومنها الحفاظ على وحدة البلد وتكريس الأمن والحرية للسوريين وبعد ذلك التحديات الأخرى من البناء والنمو والازدهار، لنصل إلى بلد واحد حر متعدد. الأكيد أنه لدي أمل بالسوري، فالسوري أثبت تميزه وقدرته على الخلق والابتكار".

خلدون الشمعة

عقم الشعارات

عن تبلور ملامح هوية سورية جامعة، بعد سقوط دولة القمع، والأمل بارتفاع سقف الحريات، وفتح الفضاء لابتكار صيغ جديدة للحياة الثقافية، يطرح الناقد الأدبي خلدون الشمعة رؤيته عبر "المجلة": "هذا طرح يفترض تجاهل الدور الذي لعبته أفكار سادت الحياة الثقافية في سوريا، وانحرفت بها غالبا بعيدا عن المسارات التي أسست لها حركات التجديد التي ظهرت مع بزوغ الاستقلال. من هذه الأفكار على سبيل المثل أطروحات تقوم على النظر إلى التجديد بوصفه فعلا يستهدف تغيير اتجاه البوصلة بحيث تتأسس الحداثية العربية، خلافا لحقيقتها، على تطييف ثلاث نقاط، الأولى تجاهل سطوة الأصولية الإيرانية، والثانية الاستيلاء على العقل النقدي العربي بدعوى فقدان الأمل بالتغيير، والثالثة اعتبار الأمر الواقع نتيجة نهائية يقاس في ضوئها الشعر العربي الجديد على سبيل المثل".

التحديات كبيرة، ومنها الحفاظ على وحدة البلد وتكريس الأمن والحرية للسوريين وبعد ذلك التحديات الأخرى في البناء والنمو والازدهار

خالد الساعي

ويضيف الشمعة: "أنطلق من نقاط التطييف هذه، لتأكيد مجددا أن فعالية هذه النقاط ليست مغلقة أو مؤجلة الآن في ضوء ارتفاع سقف الحريات، بل ما زالت في تقديري بعيدة عن مرحلة الغلق. في عبارة أخرى يمكن القول إن عقم هذه الشعارية المتحولة إلى شعائرية، يذكرني بساعة حائط، يشير الفيلسوف كيركيكارد في معرض سخريته من القرن التاسع عشر إلى أن بندولها يقرع عاليا، لكن عقربيها كانا عاجزين عن تحديد الوقت. وهي تبدو اليوم أشد انطباقا على المفهوم التطييفي المضاد، الذي ساد الثقافة السورية في ظل دولة الاستبداد الأسدي، منها على الفكر الأوروبي في القرن الماضي".

يوسف وقاص

هواجس العودة

رغم انتظار الكثيرين لهذه اللحظة، إلا أن فكرة العودة إلى سوريا لا تزال ضبابية، يكتسيها الخوف لدى البعض، خوف من المواجهة، مواجهة الذاكرة، مواجهة الواقع. يعبر نبيل الملحم عن ذلك: "الأمر شخصي، ولكن شخصي هنا تعني الأمس، مواجهة الزمن تتطلب شجاعة، ومجازفة، وأنا كسول، ومدمن هزيمة، مهزوم حتى لا أجد ما يدعوني إلى القتال، وسوريا اليوم في زمن جديد، مفتوح على المواجهة... المواجهة تتطلب التنافس بالإضافة إلى الشجاعة، أنا لا أنافس، ولو عدت إلى سوريا فسأكون في هذه الدائرة التي تغريني ولا أقدر عليها. إذن، ما الحل؟ الحل في الهزيمة، في ديمومة الهجرة، الهجرة لا تستلزم منك وعدا، أما البلد فهو في حاجة إلى وعد، فمن لا يحمل وعدا ليس من سبب لعودته إليه".

أطروحات تقوم على النظر إلى التجديد بوصفه فعلا يستهدف تغيير اتجاه البوصلة بحيث تتأسس الحداثية العربية، خلافا لحقيقتها

خلدون الشمعة

الجميع يتطلع لعودة دمشق إلى الساحة، كمعلم من المعالم الثقافية في المنطقة العربية والعالم، إلا أنه من المدرك كذلك، وعورة الطريق وطوله. يربط الشاعر آرام تلك العودة بـ"مستقبل الثقافة في سوريا، وهو مرهون ومرتبط ارتباطا وثيقا بمستقبل الحرية، وهذا ما نعمل من أجله جميعا، كل بطريقته وكل بوسيلته ولا نستطيع أن ننسى من يعمل بشكل جماعي من خلال منتديات وتجمعات وتيارات، فلا يمكن الحديث عن الثقافة دون الحديث عن مستوى الحرية، وإلا سندور في الحلقة المفرغة التي كنا ندور داخلها طوال العقود الماضية، فنحن لا نريد إكسسوارات ثقافية تزين نظاما سياسيا مستبدا، مثلما كان في العهد البائد. وآمل بشكل كبير بعودة المهرجانات المسرحية والفنية وان تأخذ دمشق وبقية المدن السورية المكانة التي تستحق ثقافيا وفنيا على مستوى المنطقة والعالم. ربما من المبكر أن نحكم الآن، ونحن منذ الأمس القريب خرجنا من حفرة كبيرة اسمها الطغيان، لا يزال أثر غبارها على وجوهنا جميعا".

AFP
مقاتلون يمرّون أمام لافتة "I Love Hama" بعد طلاءها بألوان علم المعارضة

إذا اختلفت الرؤى حول مستقبل هذا المشهد، فإنها تتفق على أنه بقدر ما سوف يكون انعكاسا لمشهد سياسي، فسيكون أساس التحولات السورية. هذا ما يؤكده الناقد مفيد نجم: "الثقافة ستشكل جوهر التحولات السورية، نظرا للارتباط الوثيق والأساس بينها وبين جوانب الحياة السياسية والاجتماعية والتربوية، ما يدل على خطورة الدور الذي يمكن أن تلعبه في الحياة السياسية والفكرية، خاصة مع التحدي الجديد الذي تواجهه من المرجعيات الأيديولوجية التي جاء منها من هو في الحكم. لذلك فإن القضايا الأخرى ستكون مجرد تفاصيل لهذا الواقع الجديد، الذي سيفرض على الثقافة السورية تحديات جسيمة. وإذا ما عرفنا أن الثقافة السورية مرت خلال عقود الاستبداد الأسدي بمحاولات متواصلة لإفراغها من محتواها القيمي الفكري والأخلاقي، عبر السيطرة التامة على الفضاء الثقافي، مؤسسات وهيئات وإعلاما، فإن ثمة إشكالية أخرى تتصل بالمسألة السابقة، تتجلى في هيمنة الأيديولوجي الثقافي والإبداع من خلال فرض شروطه ومحدداته، مما يرتب بالتالي على الثقافة السورية والمشتغلين فيها أعباء ومهمات جديدة لتحرير الثقافة من عوامل ارتهانها وإفسادها لكي تنفتح على بعدها الإنساني الديمقراطي، الذي تعلو معه قيم الحرية والتطور والإبداع".

font change