حراك فني تدريجي في سوريا: صحوة ثقافية؟

معرض جديد يجمع نخبة من الفنانين الشباب

Aliaa Abou Khaddour
Aliaa Abou Khaddour

حراك فني تدريجي في سوريا: صحوة ثقافية؟

دمشق: يسجل المشهد الفني في سوريا، مدفوعا بظهور مواهب جديدة، حراكا إبداعيا متجددا بعد أكثر من عقد من الصراع والكوارث الطبيعية والهجرة والمشكلات الاقتصادية المتزايدة.

تُستخدم الذكريات القوية، التي لا مهرب منها في كثير من الأحيان، في الأوقات المظلمة كمصدر للشفاء والتعبير على يد موجة جديدة من الفنانين الموهوبين، حيث أصبح المزيد من المهن الإبداعية شائعا لدى جيل مولع بالثقافة الحديثة.

تقول بثينة علي، الأستاذة في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق ومؤسسة "حركة مدد للفنون البصرية": "لديّ إيمان كبير بهذا الجيل من المبدعين، وأنا على ثقة متزايدة بأنهم سيبنون البلاد مرة أخرى بطريقتهم الفريدة".

السيرك

كانت بثينة علي (50 عاما) تتحدث إلى "المجلة"وهي تتنقل بين الزوار المتحمسين والأعمال الفنية الجريئة، وسط خلفية نابضة بالحياة لموسيقى إلكترونية تأخذك في رحلة آسرة متتالية في العرض الفني التركيبي المفرط في الإثارة الذي أطلق عليه اسم "السيرك"، ويضم أعمالا لأربع وعشرين موهبة صاعدة في العاصمة السورية.

 يعاني شباب اليوم أساسا من الأذى والألم الذي لا يوصف، لكننا أردنا أن نحاول استرجاع تلك السعادة وتسخير تلك الأفكار والعناصر في نتاج إيجابي

بثينة علي

تضيف: "راودتنا فكرة السيرك بعد الزلزال المروع الذي تعرضت له البلاد في فبراير/شباط 2023. يعاني شباب اليوم أساسا من الأذى والألم الذي لا يوصف، لكننا أردنا أن نحاول استرجاع تلك السعادة وتسخير تلك الأفكار والعناصر في نتاج إيجابي من خلال الفن".

هذه الفعالية هي عبارة عن مشهد فني تجاورت فيه القطع الفنية التركيبية في جناح متوهج، إنه أكبر معرض فني سوري لهذا العام يعرض جدرانا موسومة بكتابات متنوعة، وأغناما وردية هامسة، وعددا كبيرا من الأشكال والهياكل الفنية غير التقليدية.

أنشأت الفنانة البصرية حلا نهار من دمشق (21 عاما)، عملا تركيبيا من نوع الفيديو بعنوان "حنين"، ينطوي على عرض لذكريات ولحظات مع الأصدقاء والأقارب وغيرهم من الأشخاص: "أينما قادني القدر، أو مهما تاه ذهني، فسأتوجه دوما نحو ذكريات دافئة، محفورة في أعماقي، وصور خزنتها في عيني، نحو أمل كبير خبأته معي، كي يضيء جذوة الحياة في داخلي".

يعزز لوح أبيض كبير رؤيتها حيث يكتب الزائرون المتحمسون تعليقات ورموزا وتعبيرات عن الحب يدونونها في كلمات ملهمة. كتب أحد الزوار: "الفن هو الحياة"، وكتب آخر: "اختر الحب دائما"، وكان آخرون أكثر ارتباطا بأحداث الواقع عندما أشاروا إلى المذبحة الإسرائيلية في غزة بشعارات مثل فلسطين حرة، ورسومات للعلم الفلسطيني.

"عندما أفكر في الحنين، أفكر في أشقائي وشقيقاتي، كيف كانوا حاضرين في حياتي ثم اختفوا منها فجأة. إنهم مثل الذاكرة. ما زلت أحتفظ بأغراضهم". غادر أشقاء هالة البلاد عندما كانت أصغر سنا.

انعكاسات

لعل عمل حمود رضوان الإبداعي الذي سماه "أركاديا" أبرز ما في المعرض، وفيه يقدم الفنان عرضا تفاعليا آسرا، يجمع ببراعة بين الألوان المتغيرة المتناثرة على لوح من البليكسي مع الرمل والقماش، مما يخلق وهما يروي قصة العقل الباطن من خلال روايات موسيقية مختصرة. ويعلق رضوان البالغ من العمر خمسة وعشرين عاما قائلا: "ربما أشعر بالدوار الآن، وربما أنت أيضا، مرحبا بك في أركاديا، ساحة ألعاب الكبار".

ويضيف حمود لـ"المجلة" أن فكرة العمل يفسّرها كل زائر بشكل مختلف، "لكل شخص ذاكرة مختلفة، عن تجربة التنشئة، عما يعني أن تكون حيا وما هو الشيء القريب منك، هذا العمل يتغلغل في روحك".

راكمت السنوات الأخيرة رغبة قوية لدى الفنانين، ونريد الاستمرار في إظهار ما لدينا

نور سلمان

أما غنى الهلال (30 عاما) من حلب، فقدمت خمسة أعمدة خشبية متحركة، بارتفاعات مختلفة، باسم "من أنت؟"، مشيرة إلى أن "المرآة هي صديقتنا الدائمة، ونحن نحب أن نرى انعكاسنا فيها... أنت الأجمل بكل أجزائك".

لا زال المشهد الفني في سوريا يواجه اضطراب النزوح مع خروج المواهب من البلاد، وقد بدأت جلنار السريخي (23 عاما) مشروعها البصري "هل تراني؟" أثناء وجودها في سوريا، وهي الآن تدرس في هنغاريا. ومع ذلك، فإن اثنتي عشرة شاشة عرض تظهر تشكيلات مختلفة للعين تؤكد أنها لا تزال هنا، في بلدها، مع الفنانين الآخرين.

تؤكد جلنار: "كنت أعرف أنني سوف أسافر، لذلك كان عليّ أن أقوم بالتركيب وأنا أدرك أنني لن أكون حاضرة، في البداية دونت على عجالة كل تصميمات العين، العمل يشير إلى الجروح، والجرح يتحول إلى العين، والسعادة، وكنا بحاجة إلى شيء يساعدنا".

يصور تركيب سالي الصايغ (30 عاما) بعنوان "الأزرق" غرفة فاتنة مكونة من 31 وجها من البوليستر بمشاعر وتعبيرات مختلفة، تقول: "بعض الوجوه سعيد، وبعضها الآخر مبتسم، وبعضها غريب مع أنوف حمراء للدلالة على المهرجين، ربما هم أشخاص يضحكون علينا أو ربما أي شيء آخر".

بالنسبة إلى العديد من الفنانين المشاركين، مثل آدم عجيب، الذي يعرض عمله التركيبي "ظل الشمس" ميزة رسم مبهجة، ساعدت هذه المشاركة في دفع الفنان إلى المزيد من التفاعلات والمزيد من العروض، بما في ذلك المشاركة في معرض القاهرة للفنون عام 2024 وتعاونه مع المنسقة الفنية نور سلمان في معرضها "شباب غير مكتمل" مع مجموعة ذكرياته الممزقة.

شغف

نور سلمان (30 عاما) هي منسقة فنية تلقت تعليمها في الغرب وتعمل على إضفاء صفات نادرة على المشهد الفني في سوريا، وكان آخر معرض لها "الوطن" في فبراير/ شباط 2024، حيث قدمت معرضا فنيا استثنائيا لمجد الحناوي، أحد ألمع الفنانين في الوسط، وهي تعتبر أن العروض التي تستضيفها صالتها "آرت فيجين" أحد أكثر الأحداث المرتقبة في الحياة الاجتماعية السورية حاليا.

يتزايد الاهتمام الفني حاليا والفرص المتاحة عديدة، وهو ما يجب أن يكون مصدر إلهام للعديد من الفنانين الشباب

فادي يازجي

تقول سلمان لـ"لمجلة": "الفنانون لديهم قدرة فريدة على إثارة هذه المشاعر فينا، وأريد أن أشعل شغفنا الإبداعي بالفن من جديد، لكن هذا مثل كرة ثلجية تكبر وتكبر أثناء انحدارها، وقد راكمت السنوات الأخيرة رغبة قوية لدى الفنانين، ونريد الاستمرار في إظهار ما لدينا".

تضيف: "الموهبة تقترب من مرحلة الغليان، نحن نهدف إلى إعادة سوريا إلى الخريطة الإبداعية ومنحها المساحة التي تستحقها كأحد أغنى المراكز الفنية في المنطقة. وباعتباري منسقة فنية ومحبة للفن، فإنني أكافح لترسيخ مكانتنا مرة أخرى، لأننا نمتلك الموهبة".

علق أحد الحاضرين في المعرض قائلا: "لم أرَ مثل هذه الجودة من حيث الجهد (الفني) في سوريا من قبل، هذا شيء اعتدنا على رؤيته في الخارج، الفن بالنسبة إلى العديد من الناس اليوم هو ملاذ، فالوقت الذي قضيته هنا بالغ الأهمية بالنسبة إلي، إنه تحرر وانعتاق".

يدفع التوق في الحصول على فن عالي الجودة في سوريا، العديد من الفنانين اليوم إلى البحث عن العودة إلى المشهد الفني هناك، بعد سنوات كانت فيها البلاد منسية.

وقد شارك هذا الرأي الفنان فادي يازجي، أحد قدامى المشهد الفني العالمي في سوريا، قائلا: "من المهم رؤية الكثير من الشباب هنا (في سوريا)، يتزايد الاهتمام الفني حاليا والفرص المتاحة عديدة، وهو ما يجب أن يكون مصدر إلهام للعديد من الفنانين الشباب، ولهذا السبب نحن هنا في دمشق، في سوريا".

على الرغم من أن تقييم مدى إحياء الثقافة على المدى الطويل، قد يكون مهمة شاقة، فإننا نشهد ازدهار المجتمع الفني في سوريا وسط أنقاض الحرب، وقد تستغرق رحلة استعادة المكانة الفنية الصحيحة لسوريا في المنطقة سنوات وعقودا، إلا أن التقدم الذي أحرز حتى الآن، مع الأخذ في الاعتبار الصراعات الهائلة التي تواجهه، يعد بلا شك بداية واعدة.

font change

مقالات ذات صلة