في مقال كان م. هار كتبه سنة 1980 تحت عنوان "هايدغر وماهية التقنية"، يشير إلى الظواهر التي تحيل إليها اليوم عبارة "ماهية التقنية"، وهي تشمل في نظره ظواهر عديدة، مع ما قد يبدو من تباين بينها، كظاهرة "توحيد أنماط العيش والتفكير"، وظاهرة "تصنيع النشاط الفني والثقافي والسياحي"، وظاهرة "الازدهار السريع للإعلام الذي لا يستهدف إلا ذاته"، ثم ظاهرة "اجتثاث المكان والزمان، وإضفاء طابع الحياد عليهما"، و "فقدان الشعور بالقرب والبعد (الراجع لتقدم وسائل النقل والإعلام)"، و"فقدان الحساسية إزاء الألم الشديد (كون الحروب والكوارث غدت مشاهد تلفزيونية مكرورة ومألوفة)"، و"تشكيل مدخرات هائلة من الطاقة"، و"الاستهلاك المبالغ فيه"، و"استنفاد الثروات الطبيعية"، و"هوس التخطيط والبرمجة"، و"التنظيم البيروقراطي"، و"الأنظمة الشمولية"، و"الإيمان الدائم بأن الحل الممكن للقضايا البشرية حل "تقني" ، و"تسخير الرأي العام وصناعته وتطويعه عن طريق الدعاية والإعلام".
السؤال الذي تطرحه علينا هذه الظواهر، التي يبدو للوهلة الأولى أن لا رابطة توحدها، هو ما علاقتها بالتقنية؟ أليست التقنية، كما قيل دوما، هي العلم المطبق؟ أليست مجرد تطبيق لمعرفة؟ أليست نقلا واستعمالا لآلات؟
النظرية والتطبيق
هذه على أي حال هي الصورة التي تكرست عن التقنية عند كل من كان يعتبر أن العلم نظر ثم تطبيق، وأن هذا التطبيق لا يتخذ قيمته إلا في ما يجلبه من منافع وما يترتب عليه من نتائج. وهو مكسب إنساني وليس حكرا على من اكتشفوه. لذلك فلا مانع من نقله وتعميمه. فهو لا يحمل معه النظرية التي هو تطبيق لها، ولا ينقل معه "ذهنية" من ابتدعوه. لذلك نرى عندنا أن الذين يعارضون منا "استيراد الأفكار الغربية"، والذين ينددون بالغزو الثقافي، لا يقفون الموقف ذاته في ما يخص التقنية. كل ما في الأمر أنهم قد يشترطون أن يكون نقلها بعدها مجرد "أداة"، أي أن يكون نقلا طاهرا نزيها خاليا مما يعلق بها من "شوائب" نظرية، وما قد يتسرب إليها من أفكار "دخيلة".