"كان 2025"... جعفر بناهي يحصد الذهب وحضور متألق للعراق وفلسطين

غزة حاضرة في دورة تؤسس لمستقبل واعد لسينما الشرق الأوسط

Sameer AL-DOUMY / AFP
Sameer AL-DOUMY / AFP
المخرج والكاتب والمنتج الإيراني جعفر بناهي (يمين) وفريقه يحتفلون على المسرح بعد فوزهم بـالسعفة الذهبية عن فيلم "حادث بسيط"

"كان 2025"... جعفر بناهي يحصد الذهب وحضور متألق للعراق وفلسطين

على مدى العقدين الماضيين، مُنع المخرج الإيراني جعفر بناهي من ممارسة الإخراج السينمائي بأمر من سلطات بلاده. لكن، حتى أثناء خضوعه للإقامة الجبرية أو اعتقاله في السجن، لم يتوقف عن صناعة الأفلام بطريقة أو بأخرى، ونجح في انتزاع أبرز الجوائز في المهرجانات السينمائية العالمية. ومع أن الحظر رُفع عنه أخيرا، اختار مجددا أن ينجز فيلما سريا، دون الحصول على إذن رسمي من الجهات المعنية. والنتيجة واحد من أكثر أعماله جرأة حتى الآن، بعنوان "مجرد حادث"، وهو الفيلم الذي منحه، يوم الأحد، أعلى تكريم في مسيرته: السعفة الذهبية في مهرجان "كان" السينمائي. وعلى خلاف المناسبات السابقة، استطاع هذه المرة السفر إلى كانّ وتسلّم الجائزة بنفسه، وهو يعتزم العودة إلى إيران فور انتهاء المهرجان.

معضلة أخلاقية

يُعد بناهي اليوم من بين أكثر المخرجين تتويجا في تاريخ السينما العالمية، إذ يشارك المخرج الإيطالي مايكل أنجلو أنطونيوني مكانة فريدة كأحد مخرجَين اثنين فقط نالا الجوائز الأربع الكبرى في مهرجانات كان والبندقية وبرلين ولوكارنو.

وكما كان متوقعا، استغل بناهي كلمته خلال تسلمه الجائزة لطرح قضايا سياسية، فتحدث عن حلمه بيوم تسود فيه الحرية في إيران، حيث "لا يُفرض علينا ما نرتديه أو لا نرتديه، ولا يملى علينا في السينما ماذا نصنع أو لا نصنع". لكنه وجّه كذلك رسالة إلى أبناء بلده، مناشدا إياهم أن "يتجاوزوا خلافاتهم" ويضعوا "بلدنا" فوق كل اعتبار. في ذلك تذكير بأن بناهي ليس مجرد ناشط ديمقراطي، بل شخص وطني أيضا، يقلقه اتساع رقعة التصدعات والانقسامات في البلاد.

أما فيلمه الجديد، فيخوض هذه القضايا بشجاعة لافتة. يحمل "مجرد حادث" في طياته معضلة تبدو بسيطة في ظاهرها، لكنها صادمة في جوهرها: ماذا لو آلت السلطة إلى أيدي أولئك الذين تعرضوا للتعذيب؟ في الفيلم، يلتقي سجين سياسي سابق مصادفة بجلاده السابق، فيختطفه، ثم يدعو مجموعة من السجناء السياسيين السابقين ليتشاوروا في مصيره. غير أن الموقف يزداد تعقيدا بوجود زوجة الجلاد، الحامل في مراحلها الأخيرة، وابنته البالغة ثمانية أعوام، واللتين يبدو أن غيابه يترك فيهما أثرا بالغا.

استغل بناهي كلمته خلال تسلمه الجائزة لطرح قضايا سياسية، فتحدث عن حلمه بيوم تسود فيه الحرية في إيران

يتيح بناهي للسجناء السابقين في فيلمه مساحة للتعبير عن رؤاهم المتباينة، في تجسيد رمزي لتعدد الأصوات داخل المجتمع المدني الإيراني. ومن خلال إبرازه التناقضات الداخلية والتحديات الأخلاقية المختلفة، يُظهر قدرته على ممارسة نقد ذاتي عميق حيال التيار السياسي الذي ينتمي إليه. وتتجلى في هذا السياق الشخصية الأكثر سلبية في الفيلم، حميد، الشاب المندفع الذي يؤمن بأن الجماعة لا تملك ترف التزام المبادئ الأخلاقية عند مواجهة أعوان النظام. غير أن حميد يُمنى بالهزيمة أمام زملائه، الذين يرفضون نهجه ويقررون إبعاده عنهم. وعلى الرغم من أن هؤلاء لا يبرّئون الرجل المحتجز، فإنهم يصرون على التمسك بإنسانيتهم، ويختارون طريق اللاعنف. إنها رسالة واضحة ومباشرة من بناهي ترفض التطرف.

ورغم ارتكازه على السياق الإيراني، فإن الفيلم يعالج معضلة أخلاقية تتجاوز حدود المكان، مما يمنحه بُعدا عالميا بالغ الأثر: كيف يتصرف المظلوم إذا آلت إليه السلطة، ولو لبرهة؟ لعل هذا الطرح العالمي هو ما جعل الفيلم محط تقدير واسع من لجنة التحكيم ونخبة من النقاد.

الجائزة الكبرى

أما الفيلم الآخر الذي لاقى رواجا كبيرا بين جمهور المهرجان، فكان "قيمة عاطفية" للمخرج النروجي يواكيم تريير، الحاصل على الجائزة الكبرى، وهي ثاني أرفع جوائز مهرجان كان. وكما في عمله الشهير، "أسوأ شخص في العالم"، أحد أبرز أفلام دورة 2021، عاد تريير ليتعاون مع الممثلة رينات رينسفه، مقدّما معها عملا مؤثرا يدور، على غرار أعماله السابقة، حول تعقيدات الحياة العاطفية لشخصياته.

Miguel MEDINA / AFP
المخرج وكاتب السيناريو النروجي يواكيم تريير (وسط) يلتقط صورة تذكارية مع (من اليسار) الممثلة الأميركية إيل فانينغ، والممثلتين النروجيتين إنغا إيبسدوتير ليلهوس ورينات راينسفه، والممثل السويدي ستيلان سكارسغارد

تؤدي رينسفه دور نورا، ممثلة في المسرح الوطني النروجي، تقاطع والدها، المخرج الشهير غوستاف بيرغ (يجسده ستيلان سكارسغارد)، لكنها تحافظ في المقابل على علاقة قوية بأختها. يحاول الأب إصلاح العلاقة بأسلوب غير مألوف، فيطلب منها أداء دور البطولة في سيناريو كتبه خصيصا لها. لكنها ترفض، فيُمنح الدور إلى رايتشل كيمب، نجمة أميركية خيالية تؤدي دورها إيل فانينغ.

بفضل براعة تريير في تقديم الحياة العاطفية المعقدة لشخصياته، حصد الفيلم استحسانا فوريا في كان، ويبدو مرشحا قويا لنيل إعجاب جمهور عالمي واسع

بفضل لمسة تريير المميزة، تمكن الفيلم من أن يكون خفيف الظل في اللحظات المناسبة، وعميق التأثير حين تستدعي الدراما ذلك، أما شخصياته فقد رسمت بعناية وصبر. فكيمب على سبيل المثل، لا تُصوَّر كنجمة مغرورة أو متعالية، بل كفنانة صادقة، تحمل شغفا حقيقيا بالسينما، وتعاطفا صادقا مع نورا. تبرع رينسفه في التعبير عن التقلبات الداخلية لشخصيتها، أحيانا بمجرد تعبيرات وجهها الهادئة والعميقة. وبفضل براعة تريير في تقديم الحياة العاطفية المعقدة لشخصياته الحضرية، خصوصا الشابة منها، حصد الفيلم استحسانا فوريا في كان، ويبدو مرشحا قويا لنيل إعجاب جمهور عالمي واسع.

تكريم غير مستحق

لكن هذا التميز لم ينسحب بالضرورة على باقي الفائزين في مهرجان كان. فقد حصلت المخرجة الألمانية ماشا شيلينكسي على جائزة لجنة التحكيم، وهي ثالث أرفع جوائز المهرجان، عن فيلمها "صوت السقوط" الذي يعرض، بإيقاع متأن، قصصا متشابكة لعدة أجيال من النساء الألمانيات. ورغم أن البُعد البصري الذي تميزت به شيلينكسي كان كفيلا لفت انتباه لجنة التحكيم، فإن الفيلم يعاني من ضعف في البناء السردي، إلى حد يُفقده التماسك ويحدّ من تأثيره، مما يرجح أن يبقيه محصورا في نطاق جمهور محدود.

وفي السياق نفسه، تقاسم فيلم "صراط" للمخرج الإسباني أوليفر لاشي الجائزة ذاتها. تدور أحداث الفيلم في المغرب، ويتتبع قصة أب إسباني يصطحب ابنه وكلبه في رحلة للبحث عن ابنته التي اختارت التوجه إلى الصحراء للمشاركة في حفلات "الرايف" وقد أثارت الحبكة الجريئة إعجاب جمهور المهرجان، مما جعله من أبرز المرشحين لنيل الجوائز. غير أن الفيلم، للأسف، ينضم إلى سلسلة من الأعمال التي تتخذ من شمال أفريقيا خلفية لأحداثها، دون أن تفسح حيزا فعليا لظهور شخصيات محلية حقيقية.

أقول لكل فلسطيني إن حياتك مهمة وصوتك مهم، وقريبا ستكون فلسطين حرة

طرزان ناصر

ومن بين الأعمال التي عانت من ضعف في الإيقاع والبناء السردي، فيلم "العميل السري" للمخرج البرازيلي كليبر ميندونسا فيليو، الذي فاز بجائزة أفضل مخرج، إضافة إلى جائزة أفضل ممثل، والتي نالها فاغنر مورا عن أدائه اللافت. كما حصل الفيلم على جائزة الاتحاد الدولي للنقاد السينمائيين (فيبريسي). ويبدأ "العميل السري" بعرض لمحة آسرة عن الحياة في شمال شرق البرازيل خلال سبعينات القرن الماضي، لكنه يتشتت كثيرا ولا يمنح شخصياته فرصة كافية للنمو أو التبلور.

متع سينمائية

أما فيلم "القيامة" للمخرج الصيني بي غان، فلا يدّعي حتى الانتماء إلى السرد التقليدي. ومع ذلك، فقد نال إعجاب رئيسة لجنة التحكيم جولييت بينوش وأعضاء اللجنة إلى درجة دفعتهم إلى استحداث جائزة "خاصة" لتكريمه. ومحاولة فهم مغزى "القيامة" لحظة بلحظة قد لا تكون الطريقة الأنسب للتعامل معه. بدلا من ذلك، فإن الانسياق مع تجربة الفيلم يفتح المجال أمام متعة سينمائية تتكشف تدريجيا مع مرور الوقت. فسواء من خلال حوار عن البوذية بين معلم وتلميذه، أو دردشة بسيطة بين مراهقين حول أولى قبلاتهما، ينجح بي غان في أسر انتباه الجمهور بأساليب مدهشة وغير تقليدية.

Bertrand GUAY / AFP
المخرج توفيق برهوم

أما الجائزتان المتبقيتان في القسم الرئيسي من مهرجان كان، فذهبتا إلى أفلام ذات طابع اجتماعي ناقد. فقد فازت نادية ميليتي بجائزة أفضل ممثلة عن دورها في فيلم "الأخت الصغرى" الذي يروي حكاية فتاة تمر بمرحلة نضوج في باريس. وقد أدت ميليتي، في أول ظهور سينمائي لها، دورها بإتقان لافت، مجسّدة شابة تبحث عن ذاتها وتعيد تشكيل هويتها مع كل تجربة تخوضها.

ذهبت جائزة الكاميرا الذهبية، المخصصة لأفضل فيلم لمخرج لأول مرة، إلى الفيلم العراقي "كعكة الرئيس" لحسن هادي

فيما ذهبت جائزة أفضل سيناريو إلى الأخوين داردين عن فيلمهما "أمهات شابات" اللذين يواصلان من خلاله نهجهما المعروف في تقديم أعمال ذات منحى اشتراكي، ويركز هذه المرة على حياة أمهات عازبات في مأوى بمدينة لياج البلجيكية. وكما اعتاد جمهورهما، ينصب تركيز الأخوين داردين على الطبقية الاجتماعية، متجنبَين المقاربات التي تركز على النوع أو العرق، والتي باتت رائجة في السينما المعاصرة. ويتجنب الأخوان تصوير العائلات الفقيرة بطريقة استعراضية أو مثيرة للشفقة. وبدلا من ذلك، يمنحان شخصياتهما، رغم ما تواجهه من صعوبات في تأمين أبسط مقومات العيش، فرصا للتعبير عن تقديرها العميق والصادق للثقافة الرفيعة.

AFP
(من اليسار) المنتجة موريل ميرلين، المنتج الفلسطيني-الفرنسي راني مصالحة، الممثل والإعلامي الأردني ماجد عيد، المخرجان الفلسطينيان طرزان ناصر وعرب ناصر، الممثل السوري نادر عبد الحي، المنتجة ماري لوغران، والمنتج رشيد عبد الحميد

غزة حاضرة

وهكذا، برز جعفر بناهي ونادية ميليتي كأبرز الفائزين من منطقة الشرق الأوسط ضمن المسابقة الرسمية. غير أن الحضور الإقليمي تجاوز حدود هذا القسم، إذ تألق صانعو أفلام من الشرق الأوسط في أقسام أخرى من المهرجان. فقد فاز الشقيقان الفلسطينيان طرزان وعرب ناصر بجائزة أفضل مخرج في فئة "نظرة ما" عن فيلمهما "كان يا ما كان في غزة". ولم ينس الأخوان ناصر الإشارة إلى معاناة غزة في خطاب تلقي الجائزة. فقال طرزان ناصر: "أقول لكل فلسطيني إن حياتك مهمة وصوتك مهم، وقريبا ستكون فلسطين حرة". أما عرب ناصر فذكر حديثا جرى مع أمه حين أبدى مع شقيقه ترددا في الذهاب إلى كان، إذ قالت لهما: "لا لا، عليكما الذهاب والتحدث إلى الناس هناك... قولا لهم أن يوقفوا الإبادة، لا نستطيع التحمل أكثر من ذلك".

أما الفلسطيني توفيق برهوم فحصد السعفة الذهبية للأفلام القصيرة عن فيلمه "أنا سعيد لأنك مت الآن". في حين ذهبت جائزة الكاميرا الذهبية، المخصصة لأفضل فيلم لمخرج لأول مرة، إلى الفيلم العراقي "كعكة الرئيس" لحسن هادي، الذي يروي قصة فتاة في التاسعة من عمرها تُجبر على إعداد كعكة لمناسبة عيد ميلاد صدام حسين، تحت طائلة العقاب.

تشير هذه النتائج إلى حضور عربي قوي في المهرجان، يبشّر بمستقبل واعد للسينما في المنطقة، في عام شهد تتويج مخرج من الشرق الأوسط بالسعفة الذهبية.

font change