إنشاء صندوق إقليمي لتمويل التكيف مع المناخ... أولوية الآن

صار الوضع أكثر صعوبة مع وقف 11 مليار دولار سنويا من المساعدات الأميركية

سارة بادوفان
سارة بادوفان

إنشاء صندوق إقليمي لتمويل التكيف مع المناخ... أولوية الآن

يشهد التمويل المناخي تراجعا ملحوظا في حين تتصاعد التحديات المناخية التي يواجهها الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فهذه المنطقة من أكثر المناطق هشاشة أمام تغير المناخ، وتعاني بالفعل من عواقبه، من موجات الحر الشديد إلى تفاقم الجفاف. لكن على الرغم من هذه الأخطار الملحة، لا تزال المنطقة من أكثر مناطق العالم التي تعاني من نقص التمويل المناخي في العالم. فقد تلقت 24.4 مليار دولار فقط من التمويل العالمي ما بين عامي 1992 و2023 - وهو أقل بكثير مما هو مطلوب لتحقيق أهدافها في مجال الاستدامة.

صار الوضع الآن أكثر صعوبة، إذا اتخذ الرئيس الأميركي دونالد ترمب، في اليوم الأول من توليه منصبه في ولايته الثانية، قرارا بوقف كل أشكال التمويل الخارجي المتعلق بالمناخ، التي تقدر بنحو 11 مليار دولار سنويا. وأعقب ذلك تنفيذ خفوضات كبيرة في برامج المساعدات الدولية، بما في ذلك تلك المخصصة لدعم التكيف مع تغير المناخ والتحول في مجال الطاقة في الدول النامية.

وفي انسحاب الولايات المتحدة، انهار ركن أساس من أركان التمويل العالمي المتعلق بالمناخ، والآن تواجه دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي تستفيد من الصناديق الدولية نقصا شديدا في التمويل.

لم يعد السؤال هل تستطيع منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تحمل تكلفة العمل المناخي، وإنما هل هي قادرة على تحمل تكلفة التقاعس عن بذلك

إن الوقت الراهن يشكل مفترقا حاسما للعمل المناخي. فلم يعد في وسع دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الاعتماد على المانحين الدوليين لتأمين التمويل المناخي. بل عليها بدلا من ذلك أن تتولى زمام المبادرة بإنشاء صندوق للمناخ – أي آلية مخصصة تدار إقليميا للاستثمار في الطاقة النظيفة والتكيف مع تغير المناخ. وهكذا لم يعد السؤال هل تستطيع منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تحمل تكلفة العمل المناخي، وإنما هل هي قادرة على تحمل تكلفة التقاعس عن بذلك؟

لماذا تحتاج منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا صندوقا للمناخ الآن؟

على الرغم من الحاجة الماسة إلى التكيف مع تغير المناخ وتخفيف آثاره، فإن الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لا يستقطبان إلا جزءا ضئيلا من التمويل المناخي.

أ.ف.ب.
فلاح يجلس وسط أرض قاحلة تعاني من الجفاف في قرية أولاد سي مسعود جنوب الدار البيضاء، المغرب، 6 مارس 2025

وتستحوذ المنطقة على نحو 6 في المئة فقط من التمويل الذي تقدمه المبادرات المناخية المتعددة الأطراف مثل "الصندوق الأخضر للمناخ"، و"صناديق الاستثمار في مجال المناخ"، و"مرفق البيئة العالمية"، وهي أبرز مصادر التمويل المناخي العالمي. وذلك أدنى بكثير مما تحصل عليه مناطق أخرى مثل شرق آسيا أو منطقة المحيط الهادئ أو أوروبا الغربية، ويغطي عُشر الاحتياجات التمويلية المحددة في المساهمات المحددة وطنيا لتسع دول في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (مصر، تونس، المغرب، الأردن، الإمارات العربية المتحدة، العراق، جيبوتي، فلسطين، السودان).

تفاوت بين دول المنطقة في التمويل

هناك أيضا تفاوت بين دول المنطقة في توزيع التمويل المناخي. فقد تلقت المغرب ومصر أكثر من 60 في المئة من التمويل المناخي الإجمالي المخصص لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وتواجه دول المنطقة الأخرى صعوبة في الوصول إلى صناديق المناخ تعود إلى ثلاثة أسباب رئيسية:

- أولا، تصنف دول كثيرة من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بأنها متوسطة الدخل، وهو ما يحد من الحصول على تمويل لا يسترد مثل المنح، إذ تعطي صناديق المناخ العالمية الأولوية للدول ذات الدخل المنخفض. أما الدول المتوسطة الدخل فينظر أكثر في منحها قروضا غالبا، لا منحا ومساعدات، وهو ما يزيد أعباء ديونها ويثنيها عن الاقتراض لتمويل المشاريع المتعلقة بالمناخ.

- ثانيا، إن ضعف القدرات المؤسسية في بعض البلدان يعيقها عن استكمال عملية تقديم الطلبات اللازمة للحصول على التمويل، كما أن سجلها في التنفيذ الناجح لمشاريع المناخ ضئيل أو معدوم ولا يدعم طلباتها.

أصبحت الحاجة إلى نموذج تمويل مكتف ذاتيا أكثر إلحاحا في ظل التغير الحاد في السياسة الأميركية. أوقف الرئيس ترمب 11 مليار دولار من التمويل المناخي الدولي الأميركي، وخفض موازنات المساعدات الخارجية بنسبة 90 في المئة

- ثالثا، يسود الصراع أكثر البلدان تعرضا لتأثيرات تغير المناخ أو أنها تتعافى من الصراع، لذا تتدنى ثقة المستثمرين فيها، وهو ما يقلل فرصها في الحصول على الموافقة على التمويل.

ومع تزايد الاحتياجات المناخية، يتضح أن الصناديق العالمية لا تستطيع وحدها سد الفجوة التمويلية. لذا يتعين على منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إنشاء نموذج تمويل ذاتي الاستدامة مصمم لمعالجة التحديات الخاصة بالمنطقة.

تحولات السياسات الأميركية تزيد تقويض التقدم المناخي

أصبحت الحاجة إلى نموذج تمويل مكتف ذاتيا أكثر إلحاحا في ظل التغير الحاد في السياسة الأميركية في عهد الرئيس دونالد ترمب، الذي عطل تدفقات التمويل إلى المنطقة. فقد أوقف ترمب منذ عودته إلى منصبه التمويل المناخي الدولي الأميركي (بلغ 11 مليار دولار في سنة 2024) وخفض موازنات المساعدات الخارجية بنسبة 90 في المئة، بما في ذلك موازنة "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية" - وهي وكالة المساعدة المسؤولة عن ثلث التمويل المناخي الدولي الأميركي. كما تراجع إدارته مشاركة الولايات المتحدة في بنوك التنمية المتعددة الأطراف، التي تشارك في تمويل مشاريع المناخ وتعمل بوصفها جهات منفذة.

تراجع أميركي مؤلم

يمثل ذلك تراجعا صارخا عن مواقف إدارة بايدن، التي تعهدت بزيادة مساهمات الولايات المتحدة في التمويل المناخي وإعادة دعم المؤسسات المتعددة الأطراف. وكانت الولايات المتحدة بصفتها من أكبر الممولين لصناديق المناخ العالمية ومساهما رئيسا في بنوك التنمية المتعددة الأطراف، قد ساعدت في دعم مشاريع المناخ حول العالم. واليوم، تواجه منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا فقدان مصدر رئيس للتمويل.

أ.ف.ب.
أميركيون في تظاهرة احتجاجا على قرار الرئيس الأميركي ترمب وقف منح التمويل المناخي، واشنطن، 25 يناير 2025

ستكون لذلك تداعيات فورية على أرض الواقع. على سبيل المثل، البرامج المناخية لـ"الوكالة الأميركية للتنمية الدولية" في الشرق الأوسط، مثل "برنامج المرونة التعاوني" في المغرب أو "برنامج تعزيز مرونة قطاع المياه" في مصر الذي تبلغ قيمته 24 مليون دولار، تواجه الإلغاء أو نقص التمويل. ثانيا، بما أن الولايات المتحدة قدمت خمس إجمالي مساهمة البلدان المتقدمة في التمويل المناخي في سنة 2024، فإن انسحابها من المبادرات المناخية المتعددة الأطراف سيؤدي إلى خفض حجم التمويل الميسر المتاح للمنطقة.

إن تحول السياسات في الولايات المتحدة يشجع على مزيد من التراجع عن أهداف تحول الطاقة في القطاع الخاص. فقد انسحبت مؤسسات مالية مثل "جي بي مورغان تشيس" و"بنك أوف أميركا"، إلى جانب العديد من البنوك الأميركية الكبرى الأخرى، من تحالف البنوك لتحقيق صافي انبعاثات صفري، وتخلت شركات الطاقة الكبرى مثل "بي بي" عن أهدافها في مجال الطاقة المتجددة، مما يشير إلى تراجع عالمي في التزامات تخفيف آثار تغير المناخ.

تستطيع منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أن تتولى زمام أجندتها المناخية بإنشاء صندوق إقليمي مخصص للمناخ

تظهر هذه التحولات مجتمعة أن المؤسسات الدولية لم تعد مصدرا مستقرا أو موثوقا به للتمويل المناخي. لذا يجب على حكومات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الاستعداد لمستقبل تزداد فيه القيود على نماذج التمويل التقليدية، والتصرف وفقا لذلك.

مميزات الاعتماد الذاتي الإقليمي على التمويل

تشهد المنطقة أزمة مناخية مشتركة لكنها تمتلك أيضا موارد مالية كبيرة لمواجهتها. وبدلا من الاعتماد على مصادر تمويل خارجية غير موثوق بها على نحو متزايد، تستطيع منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أن تتولى زمام أجندتها المناخية بإنشاء صندوق إقليمي مخصص للمناخ.

رويترز
صورة جوية تظهر التلوث في نهر العشار وسط البصرة، في 29 أبريل 2025

يمكن أن تشكل صناديق الثروة السيادية الخليجية وبنوك التنمية الإقليمية دعائم مالية رئيسة لهذه المبادرة. ويمكن للصندوق أيضا إصدار سندات خضراء، وتعزيز الشراكات بين القطاعين العام والخاص لاستقطاب المستثمرين المؤسسيين وتوسيع نطاق المشاريع المناخية، وتوفير آليات مبادلة التزام تخفيف آثار تغير المناخ بالديون للمساعدة في تمويل المبادرات من دون زيادة أعباء الديون المترتبة على الدول.

يتيح إنشاء صندوق إقليمي ثلاث مميزات رئيسة، مصممة خصيصا لمنطقة الشرق الأوسط:

- أولا، يوفر تمويلا طويل الأجل وموثوقا به بمنأى من التقلبات السياسية العالمية، مما يضمن استمرار تنفيذ المشاريع المناخية حتى عند تغير الأولويات الدولية.

- ثانيا، يمكن أن يساعد الدول ذات القدرات المؤسسية المحدودة في الحصول على التمويل بتوفير الدعم لتقديم الطلبات والعمل بمثابة ضامن لتخفيف أخطار الاستثمار وتعزيز ثقة المستثمرين.

الخيار واضح: إما أن تضع المنطقة حلولها للتمويل المناخي، وإما أن تواجه أخطار التأثيرات المتفاقمة لتغير المناخ

- ثالثا، يمكن أن يسهل التعاون في شأن القضايا العابرة للحدود - مثل التصحر والارتفاع الحاد في درجات الحرارة وشح المياه - التي لا يستطيع أي بلد معالجتها بمفرده.

لقد أنشأت مناطق أخرى صناديق مناخية مخصصة. على سبيل المثل، يدعم "صندوق أفريقيا لتغير المناخ" و"مرفق إصلاح مناخ الاستثمار" العمل المناخي من خلال مشاريع محلية في جميع أنحاء القارة - مع أن تمويلهما لا يزال يعتمد على المساهمات الأوروبية إلى حد كبير. في المقابل، تتمتع منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بالقدرة المالية على إنشاء مؤسسة مماثلة تحصل على معظم تمويلها من المنطقة لضمان استعدادها لمواجهة تأثيرات تغير المناخ بغض النظر عن الديناميكيات الجيوسياسية.

غيتي
بحيرة الأورمان التي اصابها الجفاف في منطقة الجيزة، مصر، 22 ديسمبر 2025

ويستند هيكل تمويل الصندوق إلى عدد من المصادر المتنوعة والمبتكرة، بما في ذلك التمويل المختلط، ومساهمات القطاع الخاص في المشاريع المناخية، والسندات والصكوك الخضراء.

نافذة العمل أصبحت ضيقة

اثبت التمويل الخارجي الذي تعتمد عليه منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أنه غير كافٍ وغير مستقر، كما أن فجوة التمويل المناخي آخذة في التوسع. ومع تغير الأولويات العالمية وتراجع المانحين الكبار عن التزاماتهم، لم يعد في وسع المنطقة التطلع إلى المؤسسات الدولية لتمويل التكيف مع تغير المناخ والتخفيف من آثاره، وتحقيق التحول في مجال الطاقة. بإنشاء صندوق ذاتي الاستدامة يدار إقليميا، تستطيع منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تأمين تمويل موثوق به للمشاريع الأكثر أهمية في جداول زمنية تتوافق مع الطابع الملح للتحديات التي تواجهها.

والخيار واضح: إما أن تضع المنطقة حلولها للتمويل المناخي، وإما أن تواجه أخطار التأثيرات المتفاقمة لتغير المناخ.

font change

مقالات ذات صلة