قراءة في أبرز عروض "كان 2025" العالمية والعربية

غاب الفيلم النجم وحضرت السينما بتشعباتها واتجاهاتها

AFP
AFP
صناع فيلم "القيمة العاطفية" خلال مؤتمر صحافي في مهرجان كان

قراءة في أبرز عروض "كان 2025" العالمية والعربية

انتهى مهرجان كان السينمائي 2025 الذي أقيم بين 13 و24 مايو/ أيار دون أن يرسخ "فيلم اللحظة" أو الفيلم الذي يشكل محل إجماع. لكن هذه الدورة في المقابل قدمت مشهدا أثرى وأعقد من أن يختزل بفيلم واحد. دورة بدت فيها الأسئلة أكبر، والقلق أعمق، والاختلاف جوهرا. فلا يتعلق الأمر بضعف الأفلام أو قوتها، بقدر ما تأبى التجمع حول نغمة واحدة أو رؤية مشتركة، كل منها يعكس هما سينمائيا مختلفا، وذلك في لحظة عالمية تتسم بالهشاشة والانقسام.

هكذا، تفرقت الأفلام في هذه الدورة في دروب شتى، فلجأ بعضها إلى التخييل المطلق كملاذ فني، كما في "قيمة عاطفية" عند النروجي واكيم ترير، وبعضها أعاد تدوير الذاكرة السينمائية كمنجم للدهشة، كما في فيلم "الجنازة" للصيني بي غان، وأخرى نزلت إلى أرض الواقع لتشتبك مباشرة مع أسئلته المتفجرة، كما في فيلم "مجرد حادث" للإيراني جعفر بناهي، وبين هذه التوجهات ظهر خيط خفي يجمع كل شيء عند الرغبة في البحث عما بقي لنا لنقوله، وفي الأخص كيف يمكننا قوله.

ليست دورة الاكتشاف الكبير ولا دورة المخرج الواحد الذي يسحب الضوء إليه، لكنها في المقابل دورة التفاوت البناء الذي يجعل من المفارقات قوة، ومن التعدد ضرورة، ومن صمت بعض الأفلام رديفا لحدة غيرها.

"مجرد حادث" والعدالة المرتبكة

في هذا السياق المفتوح على احتمالات عدة، جاء تتويج المخرج الإيراني جعفر بناهي بالسعفة الذهبية عن فيلمه "مجرد حادث" تتويجا لمسار سينمائي متين ومليء بالمنعطفات الفنية والسياسية، ينضم بفوزه هذا إلى نخبة نادرة من المخرجين الذين حصدوا الثلاثية الذهبية لأكبر مهرجانات السينما: سعفة كان، دب برلين، وأسد البندقية، إلى جانب أسماء مثل هنري جورج كلوزو، ومايكل انجلو أنطونيوني وروبرت ألتمان.

لا يمكن قراءة فيلم جعفر بناهي هذا كحدث سينمائي معزول، بل علينا تناوله داخل السيرة السينمائية والوجودية لمخرجه. فمنذ سنواته الأولى، كانت أفلام بناهي مرايا مشروخة لمجتمع إيراني تعتصره التناقضات، و"مجرد حادث" يجر المتلقي إلى قلبها، أو فلنقل إلى النقطة التي ينكسر فيها الانعكاس ويصبح سؤالا أخلاقيا أكثر من كونه صورة.

يشتغل بناهي على تفكيك المسلمات السينمائية، فالضحية ليست شفافة ولا طاهرة بقدر ما هي مثقلة بالغضب والتردد

ينطلق الفيلم من لحظة شديدة البساطة، رجل في طريق عودته الى عائلته في ليل طهران. نكتشف لاحقا أنه كان جلادا في أحد المعتقلات، مما يضعه في مواجهة مع أحد ضحاياه السابقين، صاحب بطولة الفيلم. ومن هذه النقطة تبدأ رحلة سردية معكوسة، فلا أحد متيقن من شيء، والعدالة لا تبنى على وضوح الحدث بقدر غموض الذاكرة.

من هنا، ينقلب الفيلم، فالجلاد يظهر بوجه أب حنون، والضحية يتحول إلى مطارد لا يملك سوى ذاكرته وألمه. بين الشك واليقين، يخلق بناهي دراما نفسية لا تبحث عن الذروة بقدر عمق التردد. فكلما اقتربنا من الحقيقة، بدت أكثر غموضا، وكلما حاولت الشخصيات نيل العدالة، انكشف حجم هشاشتها الإنسانية.

يشتغل بناهي في هذا العمل على تفكيك المسلمات السينمائية، فالضحية ليست شفافة ولا طاهرة بقدر ما هي مثقلة بالغضب والتردد، والجلاد لا يأتي بصورة الشيطان الكاريكاتوري بل كأب منهك لا يبدو مدركا حجم ما فعله. وفي هذا السياق لا تستخدم السينما أداة كشف أو مواجهة بل تمارس شكها الخاص.

هكذا يتحول "مجرد حادث" إلى تجربة قاتمة وضرورية، لأنها تدفعك لتعيش داخل منطقة رمادية ممتدة، حيث لا يكفي أن تتذكر لتنتصر، ولا أن تتهم لتدان. أي إلى سينما ما بعد الإدانة، وما بعد الأخلاق الجاهزة، لا تعبر عما نعرفه بل عما لا نملك لغته بعد.

"العميل السري" وتفكيك الخوف

وإذ غاص بناهي في ضباب العدالة والانكسار الفردي، فإن البرازيلي كليبر مندونسا ذهب خطوة أبعد، نحو تفكيك الخوف السياسي من الداخل، دون أن يصرح بشيء، بل يترك كل شيء معلقا في الهواء.

وقد نال مندونسا عن هذا الفيلم الرائع بعنوان "العميل السري"، جائزتي أفضل إخراج وأفضل ممثل في مهرجان كان 2025، في تتويج مستحق لفيلم يتعامل مع الحالة السياسية كجهاز عصبي متوتر يعيش داخل الجسد. فهو فيلم لا يقدم مؤامرة بقدر ما يجعل المتفرج يحيا داخل بنية المؤامرة، حيث كل شيء مألوف حد الغرابة، وكل لحظة هادئة تخفي قلقا عميقا لا يمكن تفسيره.

يتتبع الفيلم شخصية مارسيلو، الذي يؤديه واغنر مورا بأداء بالغ الدقة. رجل عادي يجد نفسه فجأة في مركز شبكة من المؤامرات، والأصوات المسجلة، والمصادفات المقلقة، لكن مندونسا لا يعامل هذا الاكتشاف كتطور درامي محض، بل كاختلال في الحس البصري والزمني للشخصية، فلا شيء يحدث في الخارج بقدر ما يتآكل من الداخل.

يقدم مندونسا فيلما لا يحمل وضوح المراقبة المباشرة بل يرسم خريطة شعورية للعيش داخل الحالة البرازيلية في السبعينات

فما يجعل "العميل السري" فيلما استثنائيا، هو أنه فيلم "ثريلر" سياسي يسعى إلى تفكيك النوع نفسه، بلغة بصرية لا تقلق من البطء أو التكرار، بل تستثمر فيهما، حيث يستدعي مندونسا جماليات سينما السبعينات، عند العدسة المزدوجة التي تفصل بين مجالين داخل اللقطة الواحدة، لتوليد التوتر بدل شرحه، واللقطات الطويلة التي لا تقود إلى ذروة بل إلى تضخيم الشعور بالمراقبة والانكشاف. هذه الوسائط هي أدوات موجودة لفهم المسافة بين المرئي والمخفي، وخصوصا بين ما نراه وما لا يحكى.

كما أن المكان نفسه يصبح حليفا لهذا القلق: شقق ضيقة، وشوارع خاوية، ومكاتب مغلقة، وكلها أماكن تشبه الحياة اليومية لكنها مشبعة بإشارات يصعب فكها نفسيا. في هذا الإطار، تتحول مدينة ريسيفي إلى شخصية غير ناطقة، كمدينة تخزن في جدرانها بقايا المراقبة، وآثار الأنظمة، وظلال الخوف المعمم.

البطولة هنا نجاة هشة من المعرفة، فكلما اقترب مارسيلو من "الفهم" ابتعد عن الحياة. وكلما تجمعت المعلومات، تلاشت الحدود بين الواقع والهاجس. ومن هنا يقدم مندونسا فيلما لا يحمل وضوح المراقبة المباشرة بل يرسم خريطة شعورية للعيش داخل الحالة البرازيلية في السبعينات التي تراقبك وتراك دون أن تعرف السبب.

"قيمة عاطفية" وترويض التوتر

جاء تتويج "قيمة عاطفية" بالجائزة الكبرى لمهرجان "كان" تقديرا لفيلم يبدو للوهلة الأولى مشبعا بالعاطفة، لكن عند تأمل آفاقه ومساحاته، يظهر لنا الفيلم حدوده كعمل مشغول بعناية تخفي ما هو حاد وتنعم ما كان يجب أن يبقى خشنا. فالمخرج يواكيم ترير الذي طالما اشتغل على المفارقات الحميمة وندوبها في فيلميه "أسوأ شخص في العالم" (2021) و"أوسلو 31 أغسطس" (2011)،  يقدم هنا حكاية عن أب يعود إلى حياة ابنتيه لتصوير فيلم عن طفولتهما، بعد وفاة الأم...  ليس باعتباره اعتذارا بقدر ما هو إعادة تمثيل، أو بالأصح محاولة للسيطرة من جديد، وهذه المرة بالكاميرا.

AFP
فريق فيلم "القيمة العاطفية" بعد فوزه بجائزة الجائزة الكبرى في مهرجان كان

ومع أن الموضوع غني بإمكاناته، إلا أن ترير يتعامل معه بمنطق شديد الانضباط من خلال لقطات أنيقة. الإيقاع مدروس، وحتى المشاهد المتوترة فيه لا تنفجر، بل تروض وتعاد هندستها، وهذا ما يجعل النصف الأول من الفيلم باردا على نحو يصعب علينا الاتصال مع مشاعره، فالحزن فيه يبدو محسوبا، والعلاقات مرتبة، والمواجهات مؤجلة أو مفرغة من شراستها. وبدل أن تكشف السينما هنا عمق الجرح، تعيد تأطيره بنعومة.

"قيمة عاطفية" هو من نوع الأفلام الجيدة الخجولة، التي تريد أن تكون مؤثرة دون أن تغامر بما يكفي لتلامس الحقيقة

وقد لا تبدو هذه الملاحظة سلبية في ذاتها، لولا أن الموضوع نفسه يتطلب قسوة وتناقضا واحتكاكا. وهنا تحديدا يحضرني اسم المخرج أوليفييه أساياس للمقارنة، لا بسبب التشابه في الموضوع فحسب (السينما-العائلة)، كما في أفلام عديدة له، بل لأن أساياس يذهب دائما إلى البنية المفتوحة وإلى التيه الشعوري غير المتصالح، بينما يختار ترير هنا الطريق الأكثر انتظاما، حيث يسير بالدراما وكأنها سكة حديد تقود إلى اللحظات المغلقة بدلا من خلق لحظات للتساؤل والمشاكسة.

ومع ذلك لا يمكن إنكار أن الفيلم في ربعه الأخير، تحرر جزئيا من تلك الضوابط. ثمة مشاهد تلامس الصدق، تتسلل إلى المتفرج على نحو غير مباشر، وربما هذا ما جعله يربح الجائزة الكبرى، فهو في باطنه فيلم يبحث عن شعور ما لم يجد شجاعته الكاملة لاحتضانه، تتدفق فيه العاطفة ببطء وتترك القديمة تتآكل بهدوء دون أن تنكأ جراحا جديدة.

AFP
سفيان زيرماني يصل عرض "القيمة العاطفية" في مهرجان كان

"قيمة عاطفية" هو من نوع الأفلام الجيدة الخجولة، التي تريد أن تكون مؤثرة دون أن تغامر بما يكفي لتلامس الحقيقة. ولعل هذا ما يجعله فيلما لا يخطئ، لكنه لا يفاجئ، يبني على سطح آمن دون أن يجرؤ على الغوص في العمق المظلم لأفكاره وموضوعاته.

"القيامة" والزمن الحسي

وبينما انتهجت أفلام عدة الحفر في صمت الشخصيات أو هشاشة الذكرى أو ارتباك العدالة، جاء "القيامة" للمخرج الصيني بي غان - الذي فاز بجائزة لجنة التحكيم الخاصة - ليعلن تمرده الصافي، ككائن سينمائي وافد من عالم آخر. ففيلمه لا يقاس بمعايير الحبكة أو البناء، بل بالانسياب وبالغموض وبالزمن حين يصبح مادة حسية تتجسد على الشاشة. فما يبحث عنه بي غان هنا هو الانغماس، والصورة التي تشعر ولا تشرح، والخيال بوصفه الملاذ الأخير من واقعية اختنقت من فرط محاولات الفهم.

AFP
فريق فيلم "عصر القيامة" خلال مؤتمر صحفي في مهرجان كان

ينقسم الفيلم خمسة فصول طويلة تتنقل بين حقب سينمائية مختلفة، من السينما الصامتة إلى "الفيلم نوار"، ومن البوذية الآسيوية إلى الديستوبيا المستقبلية، حيث يعيد بي غان ابتكار تاريخ السينما لا بوصفه سرديا خطيا، بل مجموعة من الأحلام المتداخلة، يتنقل البطل فيها بين حيوات متعددة كجسد هش ترك لحمل عبء الحلم في عالم لم يعد يحلم.

فكل فصل في الفيلم يشكل تجربة بصرية مكتفية بذاتها، وفي الوقت ذاته تنزف إلى ما يليها. فليس هناك وحدة سردية متماسكة بقدر خلق وحدة شعورية مكثفة، والحركة هنا مبنية على التلاشي، وعلى ذوبان الزمان داخل المكان، فالكاميرا تتوه وتطفو، واللون يشوش الإدراك، تماما كما في المشهد ذي الفلتر الأحمر الذي يستدعي صدى سينما وونغ كار واي في "الملاك الساقط" (1995) وهاو شو شين في تحفته "ميلينوم مامبو" (2001).

عمل لا يمكن تلقيه بالعقل بل بالحدس، فهو فيلم لا يفسر، واضعا المتفرج أمام احتمال أن تعيش السينما كحدث كوني مكثف

وفي قلب الجزء الأخير من الفيلم، هناك مشهد طويل يمتد لأكثر من 40 دقيقة دون قطع، كما يفعل بي غان في أفلامه عادة، يلامس فيه حدود السينما المعاصرة كاختبار للزمن الحي، وفي هذا المشهد تحديدا – الذي يأخذنا من ناد ليلي إلى نهر متوهج، من صخب بشري إلى وحدة كونية، لا يعود الفيلم عن زمن معين بل عن لحظة سينمائية لا تنتمي الى زمن.

AFP
بي غان بعد تسلمه جائزة خاصة عن "عصر القيامة" في كان

ففيلم "القيامة" هو عمل لا يمكن تلقيه بالعقل بل بالحدس. إنه فيلم لا يفسر، واضعا المتفرج أمام احتمال أن تعيش السينما كحدث كوني مكثف يتكرر في عتمة الصالة دون أن يطلب منك إلا أن تبقى بعينيك مفتوحتين.

"روميريا" والرهان على البساطة

وسط العروض التي ازدحمت بالتجريب والتوترات السياسية والتعقيدات، بدا الفيلم الإسباني "روميريا" مختلفا، لا لأنه شديد الخصوصية فقط، بل لأنه يعرف تماما أين يقف، وماذا يريد، ويراهن على البساطة كاختيار جمالي مدروس.

كلارا سيمون، التي أثبتت حسها الإنساني العالي في فيلمها "ألكاراز" (2022) والفائز بجائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين السينمائي حينها، تعود بفيلم يبدو على السطح متقشفا، لفتاة تبحث عن جذورها في بلدة والدها، وعائلة لا تعرفها، وبين لقاءات صامتة أكثر مما هي صريحة. لكن خلف هذا الهدوء، يتحرك شيء عميق، أو فلنقل إحساس متصاعد بأن ثمة مسافة بين الإنسان وتاريخه، بين ما تمنحه الذاكرة، وما تبقيه خارجها عمدا أو سهوا.

AFP
فريق فيلم "روميريا" في جلسة تصوير بمهرجان كان

وكعادتها، لا تكتب سيمون سيناريوهات ذات منحنيات سردية واضحة، بقدر ما تترك الحياة تمر أمام الكاميرا كما هي. أناس عاديون، ومنازل قديمة، ولحظات صمت طويلة بين العبارات، وإيقاع لا يقفز، بل يتريث ليصغي. وفي هذا التريث الصادق، يكمن جوهر جمال العمل. فالفيلم لا يتوسل العاطفة، وسيمون كلارا لا تفرض الحزن، بل تتركه يطفو على السطح ببطء، كل مشهد محكوم بإيقاع متأن، وكل كادر يبنى كأنه لحظة تأمل، مساحة لشعور خافت يتكثف مع الوقت.

فيلم لا يريد أن يغير شيئا، بل فقط أن ينصت الى هذه الفتاة وهي تحاول أن تلمس ظل ماض لم تمنح فرصة عيشه

من بين أفلام المسابقة، قد لا يعد "روميريا" إنجازا بمعايير الابتكار أو التحدي الشكلي، لكنه بالتأكيد أحد أكثر الأعمال انسجاما مع نفسه. فهو لا يحاول أن يكون أكثر مما هو عليه، ولا يختبئ خلف الجماليات. وربما في ذلك تكمن خصوصيته وصدقه، أي أنه فيلم لا يريد أن يغير شيئا، بل فقط أن ينصت الى هذه الفتاة وهي تحاول أن تلمس ظل ماض لم تمنح فرصة عيشه.

السينما العربية

في دورة غابت عنها الأسماء العربية الكبرى التي كان من المتوقع وصولها، مثل التونسية كوثر بن هنية والمغربية مريام توزاني والفلسطينية آن ماري جاسر والسعودية هيفاء المنصور والمصري أبو بكر شوقي، لم يكن الحضور العربي في "كان 2025" صاخبا ولا متشعبا، بل تمثل في أفلام قليلة ومحسوبة جاءت غالبيتها من الهامش متحدثة بلغات سينمائية مختلفة، تلتقي عند حساسية عالية تجاه الفرد والهوية.

"كعكة الرئيس" الذي يعرف ما يريد

جاء في مقدمة هذه الأعمال وأفضلها فيلم "كعكة الرئيس" أو "مملكة القصب" للمخرج العراقي حسن هادي، الذي نال جائزة الكاميرا الذهبية لأفضل فيلم أول في المهرجان، في تكريم استحقه عن جدارة لا بوصفه فيلما مثاليا، بقدر ما يتقن ما أراد أن ينجزه بوضوح.

يتخذ "كعكة الرئيس" موقعه في مكان حساس، بين الجو السياسي العام وحكاية بسيطة لطفلة في بيئة قمعية، تظهر لنا توليفة بين البراءة والسياق العام، عبر سرد كلاسيكي بسيط ورؤية مشبعة بالوعي الاجتماعي العميق.

AFP
المخرج حسن هادي بعد فوزه بـ"الكاميرا الذهبية" عن "كعكة الرئيس"

تدور القصة في جنوب العراق في أوائل تسعينات القرن الماضي، حيث تكلف طفلة إعداد كعكة لطلاب المدرسة وذلك لمناسبة عيد ميلاد الرئيس الأسبق صدام حسين. تبدو المهمة للوهلة الأولى شكلية وحتى بريئة، لكن الفيلم يحفر بهدوء في ما تعنيه هذه "المهمة" داخل بنية اجتماعية كهذه، حيث السلطة التي تسكن في جميع التفاصيل.

رحلة الطفلة لميعة عبر المدينة هي حركة مقننة داخل المناخ الاجتماعي والسياسي، وعبر أداء طبيعي وعفوي جدا للممثلة بنين نايف، تكون فيه عمادا رئيسا لروعة الفيلم، لوجود حقيقي أكثر من كونه تمثيلا، الا أنه لا يخفى بأن أسلوب الفيلم يذكرنا كثيرا بأعمال الموجة الإيرانية في التسعينات عند مخمالباف وبناهي وغيرهما، سواء من حيث البنية الكلاسيكية، أو استخدام الطفولة كنقطة دخول لحكاية أكبر من وعي الشخصية نفسها.

لكن ما يجعل الفيلم ناجحا هو اختياره عدم المبالغة، كل شيء فيه موزون بدقة، من التمثيل الطبيعي إلى حركة الكاميرا التي لا تسعى إلى تحقيق صدمة الإثارة، وهذا ما يجعله من أصدق ما قدم هذا العام من حيث البنية والاتساق الداخلي. فيلم يعرف ما يريد، ويصل إلى عمق لا تصل إليه أعمال أكبر حجما. ولذا فإن فوزه بالكاميرا الذهبية اعتراف بقيام مخرج واعد على الساحة العربية والعالمية.

"سماء بلا أرض" وإيماءات الحياة اليومية

تعود التونسية أريج السحيري في "سماء بلا أرض" لتخوض غمار السينما الروائية/الوثائقية من زاوية مغايرة. فبعد "تحت الشجرة" الذي نسجت فيه بعذوبة شعرية علاقات إنسانية داخل فضاء ريفي مغلق، تنتقل هنا إلى العاصمة التونسية، إلى فضاء حضري أكثر توترا، لكنه حافل بحواف الهامش.

لم يكن الحضور العربي في "كان 2025" صاخبا ولا متشعبا، بل تمثل في أفلام قليلة ومحسوبة جاءت غالبيتها من الهامش متحدثة بلغات سينمائية مختلفة

نلتقي ثلاث مهاجرات من أفريقيا جنوب الصحراء بلا إقامة، يتقاسمن سقفا هشا ومخاوف تتجاوز حدود الغرفة. الأولى قسيسة تسعى لإحياء إيمانها في أرض جديدة، الثانية منغمسة في تهريب غامض لاستعادة ابنتها، والثالثة طالبة هندسة هي الوحيدة التي تملك أوراقا نظامية. وبينهن، تظهر طفلة مجهولة الهوية ناجية من الغرق.

AP
مراد مصطفى في عرض فيلم "عائشة لا تستطيع الطيران بعيدًا"

لا تسعى السحيري إلى صناعة ميلودراما سياسية، بقدر ما تراهن على إيماءات الحياة اليومية، حيث تصغي الكاميرا أكثر مما تنطق، تتنقل بخفة دون إصدار أحكام. بهذا التوازن بين حسها الوثائقي الدقيق وبنيان درامي لا يتوسل التأثير، تصنع فيلما إنسانيا بامتياز، دون أن يسقط في فخ العاطفية السهلة.

"عائشة لا تستطيع الطيران" والكابوسية الواقعية

في عائشة لا تستطيع الطيران، يقدم المصري مراد مصطفى تجربة قلقة وجريئة، تسير على حدود قابلة للانهيار وخصوصا بين الحالة الرمزية والواقعية الاجتماعية، بين صمت الشخصية وصخب العالم من حولها.

AP
فريق "عائشة لا تستطيع الطيران بعيدًا" في مهرجان كان

بطلتنا هنا هي عائشة، التي تؤديها بوليانا سيمون بحضور جسدي خالص، لا تتكلم كثيرا، ولا تشرح شيئا. امرأة لا تملك سوى جسدها ووجهها، وما يرتسم عليه من بقايا الصدمة، والارتياب البارد. وسط واقعية قاسية تتكرر تفاصيلها، وتتسلل الرمزية إلى الجسد، وهذا عند الجلد المصاب بلا سبب، أو الدم الذي يفيض دون مقدمات.

مراد مصطفى يقترب من أسلوب كابوسي يجاور الواقعي في البنية، الإضاءة هنا قاسية، والمشهد مفرغ من الزينة، والواقع يبدو كابوسيا لأنه حقيقي إلى درجة لا تطاق. إلا أن إحدى نقاط قوة الفيلم أنه لا يمنح المشاهد لحظة خلاص أو انتصار سهل، وفي المقابل لا يقدم له أيضا منحنى شعوريا متناميا. كل شيء يبدو محاصرا (الشخصيات، والأماكن، وحتى المشاعر)  مما يترك المتلقي في حالة من المشاهدة المتأملة أكثر من التورط العاطفي.

font change