لبنان... لكي لا ينفجر السلاح الفلسطيني بوجه السلطة وداخل المخيمات

إمكانية التعايش بين منطق الدولة ومنطق الميليشيا تضيق أكثر فأكثر

أ.ف.ب
أ.ف.ب
ظهور مسلح خلال تشييع جثمان قائد "كتائب القسام"، الجناح العسكري لحركة "حماس"، خليل الخراز، في مخيم الرشيدية للاجئين الفلسطينيين بمدينة صور جنوب لبنان، في 24 نوفمبر 2023

لبنان... لكي لا ينفجر السلاح الفلسطيني بوجه السلطة وداخل المخيمات

هل مسألة السلاح الفلسطيني في لبنان هي مسألة فلسطينية أكثر منها لبنانية أم العكس؟ أم إنها مسألة فلسطينية-لبنانية؟

في الواقع مجريات زيارة الرئيس محمود عباس إلى بيروت الأسبوع الماضي، تحت عنوان "الالتزام بحصر السلاح بيد الدولة"، لم تقدم إجابات على مثل هذه الأسئلة بل زادتها التباسا، لأنها أعادت إنتاج أو تظهير حجم التعقيدات الفلسطينية واللبنانية المتصلة بهذه المسألة.

الخلاصة الأولية لما انتهت إليه هذه الزيارة لا لناحية مقرراتها وأبرزها تشكيل لجنة لبنانية–فلسطينية لمتابعة هذه المسألة، بل لناحية المواقف التي رافقتها وبالأخص من قبل "حماس" والسلطات اللبنانية، الخلاصة أن "حماس" تحاول أخذ الملف إلى الحيز الفلسطيني من خلال اشتراط الحوار مع الفصائل الفلسطينية لنزع السلاح الفلسطيني في لبنان، بينما السلطات اللبنانية وبالأخص رئاسة الجمهورية تحاول تقديم السياق اللبناني من خلال ربط مسألة السلاح الفلسطيني بقرارها حصر السلاح بيد الدولة والذي كان رئيس الجمهورية جوزيف عون قد أعلنه في خطاب القسم، كما أن رئيس الحكومة نواف سلام لا يفتأ منذ لحظة تكليفه تشكيل الحكومة يكرر هذا العنوان.

ما يزيد الأمور تعقيدا أن شرط "حماس" هذا ليس الشرط الوحيد في معرض استعدادها لمناقشة مسألة سلاحها، بل يبدو أنها تحاول إغراق هذا الملف بمجموعة من الشروط أبرزها ربط نزع السلاح بتأمين الحقوق المدنية لفلسطينيي المخيمات في لبنان.

وفي المقابل من غير الواضح ما إذا كانت السلطات اللبنانية التي تحمل بين يديها كرة نار اسمها سلاح "حزب الله"- الذي اشترط اتفاق وقف إطلاق النار مع إسرائيل الموقع في 27 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي "تسليمه" إلى الدولة اللبنانية إضافة إلى سائر السلاح "غير الشرعي"- تفتح ملف السلاح الفلسطيني كجزء أو فرع من ملف سلاح "حزب الله"، أو كملف مستقل، يبدو للوهلة الأولى أقل تعقيدا وأكثر قابلية للتحشيد السياسي والإعلامي والشعبي حوله بالنظر إلى الحساسية اللبنانية الفلسطينية المستمرة منذ سبعينات القرن الماضي.

يقع سلاح "حماس" على تقاطع التناقض اللبناني-اللبناني، بين السلطة الجديدة التي تريد حصر السلاح بيد الدولة، وبين "حزب الله" الذي يتمسك بسلاحه ولا يزال يبني سرديته على أنه مستعد لمواجهة إسرائيل مرة جديدة

اللافت أن "حماس" كانت قد أعلنت وعقب فتح ملف سلاحها، أنها ملتزمة باستقرار لبنان وقوانينه وأنها لم تبادر إلى استخدام سلاحها إلا في إطار "جبهة الإسناد" تحت إشراف "حزب الله". بالتالي فإن "حماس" التي ازدهرت في لبنان خلال السنوات القليلة الماضية برعاية "حزب الله"، ربطت بشكل غير مباشر بين سلاحها وسلاح "الحزب"، وهو الربط الذي لم تُقمه السلطات اللبنانية إن لم يكن في موقفها الرسمي ففي سرديتها الإعلامية المواكبة له.

وإذا كان "حزب الله" لم تصدر عنه مواقف "رسمية" بشأن هذه المسألة، فإن أوساطا إعلامية قريبة منه تسائل الدولة اللبنانية في خلفية قرارها بشأن السلاح الفلسطيني بالاتفاق مع الرئيس عباس. كما أن الأصوات الفلسطينية المعترضة على هذا القرار يصدر بعضها عن تشكيلات ملتبسة النشأة. وكل ذلك يشي بأن ثمة محاولة لإغراق هذا الملف بـ"التفاصيل" والتعقيدات قد لا يكون "الحزب" بعيدا عنها. وهنا ثمة رأيان مواكبان لهذه المسألة، رأي يقول إن فتح ملف السلاح الفلسطيني قد يتيح لـ"حزب الله" إشاحة الأضواء، أقله داخليا، عن سلاحه. ورأي آخر يقول إن ترسيخ خطاب وإجراءات نزع السلاح الفلسطيني قد يصلب الدينامية السياسية والشعبية المواكبة لقرار الدولة حصر السلاح بيدها، وهو ما يصعّب على "حزب الله" المناورة للدفاع عن سلاحه. 

عند هذه النقطة تحديدا يتحول سلاح "حماس" إلى مسألة لبنانية بحتة، ما دام "حزب الله" لم يفك ارتباطه بـ"حماس"، والأهم ما دام يتمسك بسلاحه، أي بإبقاء الجبهة مفتوحة مع إسرائيل رغم كل نتائج الحرب الأخيرة، كما عبّر أمينه العام نعيم قاسم في خطابه الأحد لمناسبة عيد "المقاومة والتحرير". وهنا يقع سلاح "حماس" على تقاطع التناقض اللبناني-اللبناني، بين السلطة الجديدة التي تريد حصر السلاح بيد الدولة، أي احتكار قرار الحرب والسلم، مع ما يعنيه ذلك من إقفال الجبهة مع إسرائيل والعودة إلى اتفاق الهدنة الموقّع في عام 1949 كما يدعو وليد جنبلاط، وبين "حزب الله" الذي لا يزال يبني سرديته على أنه مستعد لمواجهة إسرائيل مرة جديدة لكنه ولظروف موضوعية وتكتيكية يسلّم "إدارة الصراع" حاليا للدولة اللبنانية، لتحقيق انسحاب الجيش الإسرائيلي من النقاط الخمس التي لا يزال يحتلها، ووقف قصفها داخل الأراضي اللبنانية، فضلا عن استرجاع الأسرى اللبنانيين خلال الحرب الأخيرة.

قد تفصل "حماس" بين موقفها في غزة وموقفها في لبنان على قاعدة استعدادها للتخلي عن سلاحها في لبنان في حال حققت شروطها لذلك

والحال، فإذا كانت "حماس" قد أعلنت أنها لم تستخدم سلاحها في لبنان إلا بإشراف "حزب الله"، فهذا يحيل إلى طبيعة العلاقة بين الجانبين من ضمن التحالف الإقليمي الذي يجمعهما، بحيث إن تمسك "الحزب" بسلاحه، ما وسعه ذلك، يعني حكما أن "نزع" سلاح "حماس" وسائر الفصائل الفلسطينية التي لا تدور في فلك "منظمة التحرير الفلسطينية"، في حال تم، فهو سيكون مؤقتا، في حال أراد "حزب الله" تسليح هذه الفصائل مجددا بشكل مباشر أو غير مباشر. بالتالي فإن الضغط اللبناني باتجاه "نزع" السلاح الفلسطيني في لبنان، والذي يتوافق مع رغبة السلطة الفلسطينية في رام الله، سيبقى إشكاليا من حيث وظيفته السياسية ومؤداه النهائي، ما دامت مسألة سلاح "حزب الله" غير محسومة، وما دام الرابط بين "حماس" و"حزب الله" قائما.

بيد أن ذلك لا يفسر لوحده تعقيدات مسألة السلاح الفلسطيني في لبنان، فإلى جانب التعقيدات المتصلة بالسياق اللبناني لهذه المسألة والمتعلقة أساسا بتمسك "حزب الله" بسلاحه تحت عنوان "المقاومة"، تبرز التعقيدات الفلسطينية المتصلة بالانقسام الفلسطيني التاريخي بين "حماس" و"فتح"، وحتى داخل الأخيرة، والذي ينعكس حكما على المخيمات في لبنان للناحيتين السياسية والأمنية. بالتالي فإن "حماس" غير معنية بموقف الرئيس عباس الداعي إلى "تسليم" السلاح الفلسطيني، إلا بمقدار التوصل إلى موقف مشترك بين "فتح" و"حماس" حول هذه المسألة.

أ.ف.ب
الرئيس اللبناني جوزيف عون يستقبل نظيره الفلسطيني محمود عباس في قصر بعبدا، شرق العاصمة بيروت، لبنان في 21 مايو

وهذا ملف معقد ومتفجر ولا يمكن حله في لبنان دون الأراضي الفلسطينية، إلا في حال ارتأت "حماس" أن من مصلحتها التخلي عن السلاح في لبنان، قاعدتها العسكرية الرئيسة خارج الأراضي الفلسطينية، من ضمن تحول استراتيجي له علاقة بموقفها الإجمالي من العمل المسلح والتسوية السياسية. أو أنها قد تفصل بين موقفها في غزة وموقفها في لبنان على قاعدة استعدادها للتخلي عن سلاحها في لبنان في حال حققت شروطها لذلك، وفي مقدمتها الحقوق المدنية للفلسطينيين في لبنان. وهذا فصل صعب أصلا ناهيك بأن تحقيق هذا الشرط صعب جدا أيضا في ظلّ التشنج اللبناني حيال المسألة الفلسطينية في لبنان.

ولا ريب أن مسألة الحقوق المدنية للفلسطينيين تنقل النقاش إلى مستوى أخلاقي لا سياسي وحسب. فـ"حماس" بربطها بين التخلي عن السلاح وتحقيق هذه الحقوق تتيح للدولة والمجتمع اللبنانيين الالتفاف أخلاقيا وسياسيا على تلك الحقوق البديهية والمشروعة، بحيث يربطانها هما أيضا بتخلي "حماس" عن سلاحها، وكأنهما كانا سيبادران، لولا هذا السلاح، إلى تأمين هذه الحقوق للاجئين الفلسطينيين. ولا ريب أيضا أن "حماس" تعلم جيدا تعقيدات هذا الملف بل واستحالاته الكثيرة، ولذلك فهي تطرح هذا الشرط للمناورة وكنقطة تفاوض تكتيكية في ملف معقد ليس من السهل على الدولة اللبنانية احتواؤه وتفكيكه.

إذا كانت المواجهة العسكرية مع إسرائيل قد وصلت إلى طريق مسدود، فإن ذلك يفترض أن يفتح نقاشا عربيا وفلسطينيا، حول ما يمكن فعله لمحاصرة آلة القتل الإبادية الإسرائيلية

في المحصلة فإن ملف السلاح الفلسطيني في لبنان هو ملف إقليمي بامتياز، ليس بسبب الارتباطات الإقليمية لـ"حماس" وحسب، بل لأنه مرتبط أيضا بالمتغيرات والتوجهات الكبرى في المنطقة، سواء لناحية مآلات الحرب الإبادية التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة، والتي لا يمكن مقاربة الملفات الفلسطينية الإقليمية خارجها. كذلك فإذا كانت المواجهة العسكرية مع إسرائيل قد وصلت إلى طريق مسدود، وأصبحت كلفتها أعلى بكثير من جدواها، فإن ذلك يفترض أن يفتح نقاشا عربيا وفلسطينيا، حول ما يمكن فعله لمحاصرة آلة القتل الإبادية الإسرائيلية، ليس على المدى القصير وحسب بل على المدى البعيد أيضا. هذا مع العلم أن نقاشا كهذا يفترض جاهزية عربية وفلسطينية لا تبدو مؤشراتها مشجعة حتى الآن رغم فظاعة الجرائم الإسرائيلية في غزة. هذا فضلا عن أن تداخل الأجندات الدولية والإقليمية في المنطقة تجعل فرص خلق نقاش عربي وفلسطيني مستقل عن هذه الأجندات بعيدة.

أ.ف.ب
لافتة تحمل صورة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في مخيم برج البراجنة للاجئين الفلسطينيين في الضاحية الجنوبية لبيروت، لبنان في 20 مايو

كل ذلك يضع ملف السلاح الفلسطيني في لبنان أمام معضلة مزدوجة، فمن جهة تضيق أكثر فأكثر إمكانية التعايش بين منطق الدولة ومنطق الميليشيات، لبنانية أو فلسطينية، ومن جهة ثانية فإن أولويات الدولة اللبنانية تصطدم باستعصاءات فلسطينية وإقليمية لا يبدو أنها ستسلك طريقها نحو الحل قريبا. لكن وبموازاة تأكيد حق الدولة اللبنانية ببسط سيادتها على كامل أراضيها وتفكيك احتمالات إبقائها ساحة لتبادل الرسائل الإقليمية والدولية، فإن ملف اللاجئين الفلسطينيين في لبنان يفترض أن يفتح نقاشا لبنانيا-لبنانيا قبل النقاش اللبناني الفلسطيني الذي لم يبدأ بعد. وإلا فإن هذا الملف قد يتحول، في حال بقي في حيّز المعالجات الأمنية، إلى مدخل لإنتاج وطنية لبنانية منغلقة على عصبياتها وخالية من أي مضمون أخلاقي، وهو ما قد يشكل فخا للسلطة الجديدة، أو ينتهي إلى انفجار الانقسامات الفلسطينية داخل المخيمات... وربما خارجها!

font change