الأردن... ضرورة تفكيك معطلات الإصلاح

... بدلا من تمسك عبثي بوضع لم يعد راهنا

الأردن... ضرورة تفكيك معطلات الإصلاح

استمع إلى المقال دقيقة

أحاول وأنا متوغل بالعقد الخامس أن أواكب المعرفة التكنولوجية ما استطعت، وهي معرفة متسارعة تجعل الركض خلفها متعبا لكنه ضروري لمن يريد أن يظل على قيد "الاستمرار"، والاستمرار هنا ينطبق على الدول كما على الأفراد أيضا.

أتابع الأخبار الأردنية في سياق متابعة الشرق الأوسط ويلفتني خطاب قصير لولي العهد الأردني متحدثا للشباب الأردنيين الذين جمعهم منتدى "تواصل"، وفيه يقول الأمير أن العالم مليء بالاستقطاب والقلق من القادم والجديد، ويرى الأمير الشاب أن الانطباعات في هذا العالم صارت أقوى من الحقائق.

هذا ما أسمعه غالبا من جيل الشباب الأردني (وهم تقريبا ٧٠ بالمئة من الأردنيين) وألمس هذا القلق في داخلهم من كل ما هو قادم، كما أشعر مثل غيري بقدرتهم على تجاوز الانطباعات إلى البحث عن الحقائق عبر المعرفة والتطور التكنولوجي.

إلى أن يستوقفني خبر أردني يثير حالة الفانتازيا التي أعتقد بوجودها في المشهد الأردني كله، والخبر الوارد بطريقة "العاجل" وبتصميم فني "رقمي" فائق الجودة تتوسطه صورة خروف، مفاده أن وزارة الزراعة تدعو المواطنين إلى عد أسنان الأضحية لتحديد عمرها!!

الخبر ببساطة، أوقعني في فخ التباسات الخطاب الأردني المطلوب.

وأسترجع لحظتها موقعنا أردنيا في إقليم متغير بسرعة وتسارع على كل المستويات، والريادة فيه لمن يملك المعرفة وهي الثروة الحقيقية في عالم تكنولوجيا المعرفة، وأسمع كذلك عن خبر من الإمارات يتحدث عن مشروع لمنطقة ذكاء صناعي بحجم عشرات ملاعب كرة القدم، وقمة ترمب في الرياض التي كان من بين أهم اتفاقياتها الريادة الاستثمارية في تكنولوجيا المعرفة بكل تفاصيلها، وهذا كله يعني أن التغيير الجذري والبنيوي في الداخل ضرورة حتمية لا بديل عنها لتحقيق مكان في هذا العالم، وعلى الأقل في هذا الشرق الأوسط.

ولا أملك كمراقب عن كثب إلا أن أشعر بالتباس واضح في الخطاب الأردني، مع تحفظي على مصطلح "السردية" المنتشر مؤخرا في الصالونات السياسية وعلى ألسنة السياسيين.

القصة كلها لا تحتاج كثيرا من الخطابات ولا "السرديات"، كل ما يلزم حاليا وبسرعة إرادة حازمة بالمضي قدما في مشروع الإصلاح بكل مستوياته وضمن منهجية واضحة خالية من دسم الإنشائيات والمبالغات اللغوية.

وهذا كله يأتي في سياق إعادة تجديد الدور الأردني مع إعادة النظر في جدوى البقاء على الدور التقليدي. فالمعطيات تغيرت من حول الأردن، الذي كانت ميزته عن غيره سابقا في تفوقه بالعلاقات مع الغرب وفهم لغته وإتقان مخاطبة العواصم كما الرأي العام الغربي، بالإضافة إلى نظامه التعليمي المتطور "سابقا" وريادته الإقليمية في القطاع الصحي "أيضا سابقا" مما جعله نقطة ارتكاز وحالة متوازنة مستقرة.

لا يزال الأردن يملك قوته في السياسة الخارجية التي تصد عنه استهدافات عديدة تحاول تقويض الدولة فيه، لكن ارتكازاته الإقليمية لا تزال في كامل عافيتها

لكن الثبات على كل ذلك دون تطويره تزامن أيضا مع تطور دول الإقليم التي صارت تملك مفاتيح فهم العالم كله، وتطور نظامها التعليمي عبر استثمار حكيم فيه، كما استثمرت لا في قطاعاتها الصحية وحسب بل في كل ما يمكن الحصول عليه من معرفة وتكنولوجيا، ففقد الأردن تلك "الميزة" بالضرورة.

لا يزال الأردن يملك قوته في السياسة الخارجية التي تصد عنه استهدافات عديدة تحاول تقويض الدولة فيه، لكن ارتكازاته الإقليمية لا تزال في كامل عافيتها سواء في علاقاته المميزة مع السعودية والإمارات، وبنسب متفاوتة مع باقي دول منظومة مجلس التعاون الخليجي، أو من خلال روابطه المتزنة مع مصر والشمال الأفريقي، بالإضافة إلى أنه لا يزال يتمتع بصفة صوت العقل والحكمة لدى العالم الغربي، وهو ما يجعل حل الأزمات لديه مسألة تكتيكية في جدول أعمال الملك عبدالله الثاني في زياراته لأوروبا أو حتى واشنطن، التي يعرف مفاتيحها جيدا من خلال علاقاته المتجددة مع صناع القرار حول البيت الأبيض من كونغرس ورجال أعمال وجماعات مصالح وضغط ووسائل إعلام.

وتجلى ذلك في زيارة الملك الأردني الأخيرة إلى واشنطن والتي لفتت الانتباه بعدم جدولة أي اجتماع بين الملك والرئيس الأميركي دونالد ترمب فيها، لكنها كانت متخمة بالاجتماعات المكثفة مع صانعي السياسات حول البيت الأبيض، من كل ما تم ذكره أعلاه.

مع التنويه أن لقاء ترمب مع الملك عبدالله الثاني الأخير قبل ذلك، في فبراير/شباط الماضي كان تجليا لأخلاقيات العمل في الزيارات الملكية الأردنية، وما دار في الاجتماعات المغلقة لم يرشح عنه إلا القليل ومنه ما وصلنا من عدة مصادر بأن ترمب حين عرض فكرة تحويل غزة إلى "ريفييرا"، رد عليه الملك بأن الفكرة جيدة لكن يمكن تنفيذها في أراضٍ خضراء بعيدة عن المدن في القطاع، وهو ما فاجأ ترمب كما قيل وكان تعليقه أن أحدا لم يخبره بذلك، وهي فكرة جيدة. ليرد الملك بهدوء: نعم هي فكرة جيدة لكنها ستعجب الجميع إلا شخصا واحدا فقط، هو نتنياهو.

تلك المداخلة "الارتجالية" السريعة للملك، كانت– كما تقول المصادر ذاتها أحد أهم أسباب توجيه دونالد ترمب رسالة مصورة بعد اللقاء يخاطب فيها الأردنيين بثناء عليهم. وإلى جانبه الملك الذي لم يكن ظاهرا في كادر الفيديو.

الاستهدافات مستمرة وتنوعها واسع لا يقتصر على "حروب المخدرات" فهناك الحروب الإعلامية والتحريضية المستفزة لا من إسرائيل وحسب، بل من تيارات الإسلام السياسي أيضا

مغزى القصة أن الأردن لديه فاعلية وقوة دبلوماسية تجنب الأزمات والمرور في حقول الألغام بحكم الخبرة الطويلة منذ نشأته.

ولا أزال أذكر مصطلح السياسي والمفكر الأردني الدكتور مصطفى الحمارنة الذي يكرر دوما أن قوة الأردن في أنه يتجنب دوما سياسات التأزيم، وحيويته هي في توظيف طاقاته دوما في أي سياسة توافقات إقليمية أو دولية، من خلال استثماره في أهم ثروة لديه بعد الإنسان، وهي جغرافيته السياسية.

وهذا سبب مهم لاستمرار أهمية الأردن، لكنه لا يكفي دون إسناد حقيقي بتغيير الأدوات في المشهد الداخلي المتأزم على الدوام لأسباب ليس أولها الأزمة الاقتصادية المزمنة، ولا آخرها تلك الاستهدافات الإقليمية المتوالدة، وكان آخرها التأزيم في الحدود الشمالية مع النظام السوري السابق ومحاولة إغراق الأردن ومن ثم الإقليم كله بالمخدرات، وما إن سقط النظام السوري واعتقد الجميع أن تلك المشكلة على وشك الحل، فإذا بنفس السيناريو يظهر من جديد مع نظام فاشي آخر من الغرب، لتتوارد الأخبار بين حين وآخر عن صد عمليات تهريب في الحدود الغربية والمتاخمة لإسرائيل.

والاستهدافات مستمرة وتنوعها واسع لا يقتصر على "حروب المخدرات" فهناك الحروب الإعلامية والتحريضية المستفزة لا من إسرائيل وحسب، بل من تيارات الإسلام السياسي الذي يحاول نقل ميادينه إلى الشارع الأردني وقد تم الكشف عن آخرها في ما عرف بـ"قضية جماعة الإخوان" التي تم حظرها لكنها لم تنته بعد.

هذا كله، يتطلب التسريع لا الاستعجال في عملية الإصلاح السياسي والإداري وتفكيك كل معطلات العملية الإصلاحية بحزم.

فلا يكفي أن ترفع العلم الأردني كحالة ولاء أعمى، دون وعي بمعنى الإصلاح وضرورته بدلا من تمسك عبثي بوضع لم يعد راهنا في كل الإقليم وفي العالم.

في الوعي والمعرفة تنقشع الانطباعات ويزول القلق من كل جديد، وتترسخ الحقائق.

font change