أميركا الجديدة في الداخل... والخارج

تبقى القوة الأكبر والأكثر تأثيرا في العالم، ومن هنا الاهتمام بما يجري فيها

أميركا الجديدة في الداخل... والخارج

استمع إلى المقال دقيقة

نستيقظ كل يوم على تفصيل يشير إلى أن أميركا تتغير في الداخل وفي الخارج، وإلى وجود انقسام عميق فيها، لكنها تبقى القوة الأكبر والأكثر تأثيرا في العالم، ومن هنا الاهتمام بما يجري فيها.

آخر تجليات أميركا الجديدة، أن الرئيس دونالد ترمب أعلن السيطرة الفيدرالية على لوس أنجليس بعدما اندلعت فيها احتجاجات تخللتها أعمال عنف على خلفية عمليات دهم لتنفيذ قوانين الهجرة وتوقيف عشرات المهاجرين. وأمر ترمب بإرسال ألفين من عناصر الحرس الوطني إلى المدينة، في إجراء لم يحصل في أميركا منذ عقود.

استثنائية الخطوة، أن الحكومة الفيدرالية تستعين عادة بالحرس الوطني- وهم من عناصر الاحتياط في الجيش- في حال وقوع كوارث طبيعية على غرار حرائق لوس أنجليس، وأحيانا في حالات الاضطرابات المدنية. وهذا يتم دائما تقريبا بموافقة السلطات المحلية، على عكس الواقع حاليا، ذلك أن حاكم كاليفورنيا "الديمقراطي"، جيفين نيوسوم، رفض قرار ترمب "الجمهوري" واعتبره "تحريضيا" و"سيزيد التوترات".

واتهم وزير الدفاع الأميركي بيت هيغسيث الحاكم نيوسوم، بـ"التقصير" ووصفه بـ"المختل"، ثم هدد باسم ترمب، بنشر قوات عسكرية عادية. وقال: "إذا تواصل العنف، فستتم الاستعانة بمشاة البحرية ممن هم في الخدمة في معسكر بندلتن. إنهم في حالة تأهب".

صحيح أن إجراءات ترمب تنسجم مع تعهداته منذ تسلمه منصبه، باتخاذ إجراءات صارمة ضد دخول المهاجرين غير المسجلين الذين شبههم بـ"الوحوش" و"الحيوانات". وصحيح أن هذه الخطوة تهدف إلى استعادة السلام. لكن في الوقت نفسه، تحمل رسالة مبطنة إلى المناطق التي يديرها الديمقراطيون، مفادها أن العقاب ينتظر من يقف حائلاً بين المهاجرين وآليات الترحيل التي تنتهجها إدارة ترمب الجمهورية.

كثير من المحللين، كانوا يتوقعون "الطلاق" بين اثنين من أقوى رجال العالم: الرئيس والملياردير. لكن قليلين كانوا يتوقعون أن تخاض الحرب بهذه "الأسلحة الكلامية"

الانتشار العسكري في لوس أنجليس، هو صفحة جديدة بين الحكومة الفيدرالية والسلطات المحلية، ووجه من أوجه أميركا الجديدة. الوجه الآخر هو تلك الحرب الكلامية المحتدمة بين ترمب وحليفه السابق إيلون ماسك.

كثير من المحللين، كانوا يتوقعون "الطلاق" بين اثنين من أقوى رجال العالم: الرئيس والملياردير. لكن قليلين كانوا يتوقعون أن تخاض الحرب بهذه "الأسلحة الكلامية" و"الذخيرة التهديدية". بدأت المشكلة، على خلفية تشريع لترمب يعرف بـ"مشروع القانون الكبير الجميل" الذي يخفض الضرائب على شرائح واسعة من الأميركيين ويخفض الدعم على تمويل شراء السيارات الكهربائية، وبينها "تسلا"، تاج ثروة ماسك التي يأتي قسم مهم منها من الحكومة الفيدرالية.

ماسك بدأ بوصف مشروع ترمب بأنه "مقرف وبغيض"، ثم وسّع مروحة انتقاداته لتطال الرئيس نفسه، قائلا إنه لولا دعمه فإن الجمهوريين كانوا سيخسرون انتخابات 2024. رد ترمب : "أسهل طريقة لتوفير المال في ميزانيتنا، مليارات ومليارات الدولارات، هي إنهاء الدعم الحكومي وعقود إيلون". تصاعدت الحرب الكلامية. ماسك اتهم ترمب بالتورط في "ملفات إبستين"، في إشارة إلى الوحش الجنسي جيفري إبستين، لكن سرعان ما حذف المنشور ودعواته لـ"عزل" الرئيس... وسط آمال بهدنة مؤقتة.

ترمب قال بوضوح في جولته الأخيرة في الخليج، إن عصر التدخل العسكري الأميركي و"بناء الأمم" بتدخلات خارجية، قد انتهى. وما على العالم ومنطقتنا إلا الاستعداد والتكيف للعيش مع أميركا الجديدة

يحصل هذا في واشنطن وذاك في لوس أنجليس، وسط حرب تعريفات أميركية يشنها ترمب على حلفائه وأعدائه للضغط عليهم بهدف الحصول على تنازلات تجارية مهمة، ووسط تراجع "ترمبي" في الالتزامات العسكرية والمساعدات الإنسانية والفنية، أي "القوة الخشنة" و"القوة الناعمة" في العالم، إضافة إلى الضغط على أوكرانيا لقبول تسوية بحبر روسي.

أميركا الجديدة ولّدت شعورا لدى الدول الأوروبية في "حلف شمال الأطلسي" (الناتو) بفقدان الغطاء العسكري الأميركي، ما تطلب إجراءات عاجلة لزيادة الإنفاق الدفاعي للاعتماد على الذات. كما ولّدت شعورا لدى الدول الفقيرة في العالم بالاستعداد لسنوات من دون مساعدات ومشاريع دعم أميركية وأوروبية.

أما في الشرق الأوسط، فإن إدارة ترمب تواصل تعزيز تحالفاتها الأمنية والعسكرية والاقتصادية والعلمية مع دول الخليج، مع انكفاء عسكري في مناطق أخرى بالشرق الأوسط وتمهيد الأرضية لتسريع الانسحاب من سوريا والعراق، مع تركيز على إيجاد حلول وتسويات لأهم ملفين: إيران وغزة.

ترمب قال بوضوح في جولته الأخيرة في الخليج، إن عصر التدخل العسكري الأميركي و"بناء الأمم" بتدخلات خارجية، قد انتهى. إذن، تغيرات كبيرة في أميركا الداخل والخارج، وما على العالم ومنطقتنا إلا الاستعداد والتكيف للعيش مع أميركا الجديدة.

font change