ألمانيا تطلب استرداد احتياطها من الذهب ردا على تعريفات ترمب

انعدام الثقة بالولايات المتحدة يدفع نحو استعادة النفوذ إلى أرض الوطن والتحوط من الأخطار المحدقة

Shutterstock
Shutterstock
متانة النقد في ألمانيا تحمي اليورو من الإنهيار

ألمانيا تطلب استرداد احتياطها من الذهب ردا على تعريفات ترمب

أظهرت إحصاءات عام 2024 أن ألمانيا باتت الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، بتبادل إجمالي للسلع بلغ نحو 255,4 مليار يورو حققت فيه ألمانيا فائضا تجاريا قياسيا بلغ 71,4 مليار يورو. وقد أثارت قرارات الرئيس الأميركي دونالد ترمب الخاصة بزيادة التعريفات الجمركية على ورادات ألمانيا إلى بلاده ردودا حادة في الداخل الألماني. فارتفعت أصوات مسؤولين مدنيين وسياسيين بإعادة مخزون بلادهم من الذهب من الولايات المتحدة إلى أرض الوطن.

وكانت ألمانيا قد راكمت بعد الحرب العالمية الثانية ابتداء من عام 1951 ثروات ضخمة نتيجة ارتفاع صادراتها وتحقيق فوائض تجارية كبيرة مع الدول الأخرى. وقد حولت هذه الفوائض إلى الذهب دعما لعملتها وفقا لمتطلبات نظام "بريتون وودز"، وأودعت في أقبية المصارف المركزية في نيويورك ولندن وباريس، لأن دول هذه المصارف حلفاء أقوياء وأقل عرضة لهجمات وغزو الاتحاد السوفياتي. وهذا ما فعله أيضا عدد من الدول الأخرى من بينها إيطاليا بتوزيع احتياطاتها الذهبية على دول عدة موثوق بها لحمايتها. وهذا الأمر يسهل أيضا مبادلات الذهب وتحويله مركزيا إلى دولارات عند الحاجة والعكس صحيح ، كما ان إعادته إلى الوطن لتخزينه يكلف الملايين من الدولارات كأجرة نقل وتأمين وتخزين.

الولايات المتحدة شريك غير موثوق به

بعد نهاية الحرب الباردة، أعادت دول عدة احتياطاتها كليا أو جزئيا من المراكز الخارجية التي خزنت فيها إلى أوطانها. وبقي ذهب العديد من الدول الأخرى مخزنا في نيويورك ولندن وباريس، ومنها ألمانيا الغربية حيث بقي 98 في المئة من ذهبها، قبل إعادة توحيدها في عام 1990، في الخارج.

كان ترمب قد شكك خلال حملته الانتخابية لولايته الأولى في مستقبل الاستقلال السياسي للاحتياطي الفيديرالي، متأثرا بأفكار جون أليسون، الرئيس التنفيذي السابق لمصرف "بي. بي. أند تي." ومعهد "كاتو" للأبحاث الليبيرالية

وأخيرا، أججت السياسات الاقتصادية والأمنية التي انتهجها ترمب منذ وصوله إلى البيت الأبيض شعورا لدى الأوروبيين، الألمان خصوصا، بأن الولايات المتحدة باتت شريكا غير موثوق به، وأن هناك مخاوف جدية من إمكان وضع رئيسها اليد على الذهب الأجنبي الموجود في خزائنها وأقبيتها من ضمن توجه يعمل فيه على الاستيلاء على ما هو للآخرين، كما هو الحال مع رغبته المعلنة بضم غرينلاند وكندا وبنما وغيرها. وما قد يسهل وضع اليد على الذهب، نجاح ترمب في مخططه الذي يعمل عليه والرامي إلى وضع الاحتياطي الفيديرالي تحت السيطرة الرئاسية.  

.أ.ف.ب
سبيكة في البنك المركزي الألماني، فرانكفورت، 10 أبريل 2018

وذهبت بعض وسائل الإعلام الألمانية إلى حد التساؤل عما إذا كانت احتياطات الذهب لبلادهم موجودة فعلا في مانهاتن. ويبررون تساؤلهم بما حصل عام 2012 عندما باع مصرف "غولدمان ساكس" شهادات الذهب مدعيا أنها مدعومة بالذهب في خزائنه، ليتبين لاحقا أنه لم يكن هناك ذهب في هذه الخزائن، وكان البنك يعمل وفقا لنظام "الاحتياطي الجزئي"، أي على افتراض أن عددا قليلا من المودعين سوف يطالبون باستعادة ذهبهم. أما "البوبا"، أي البنك المركزي الألماني، فكان لرئيسه يواكيم ناجل موقفا مغايرا، وهو أن "ليس لديه أدنى شك في أن الاحتياطي الفيديرالي في نيويورك هو شريك جدير وموثوق به في تخزين احتياطات الذهب لبلاده".

استمرارية الدولار كعملة احتياط دولية موضع شك؟

ويعتبر النقاش حول إمكان استمرار الدولار الأميركي كعملة احتياط دولية بعد ظهور تصدعات في مرجعيته بفعل استخدامه من قبل الولايات المتحدة في فرض عقوبات على مناوئين لسياساتها، إشارة غير مسبوقة إلى عدم الثقة المتزايدة تجاهها، مما يستوجب في نظر كثيرين ضرورة استرداد احتياطاتهم من الذهب لديها لتجنب خطر تجميدها أو حتى مصادرتها إذا ما برزت توترات سياسية خصوصا بعد وصول أسعار الذهب إلى مستويات قياسية بلغت 3500 دولار للأونصة، مع توقعات بارتفاعها إلى مستويات أعلى.

جدير بالذكر أن ترمب كان قد شكك خلال حملته الانتخابية لولايته الأولى في مستقبل الاستقلال السياسي للاحتياطي الفيديرالي، متأثرا بأفكار جون أليسون، الرئيس التنفيذي السابق لمصرف "بي. بي. أند تي." ومعهد "كاتو" للأبحاث الليبيرالية، والذي كان  ينظر إليه آنذاك كمرشح لمنصب وزير الخزانة. وكان أليسون قد كتب خلال إدارته لمعهد "كاتو" ورقة بحثية عنوانها "انضباط السوق يتفوق على الانضباط التنظيمي" (Market Discipline Beats Regulatory Discipline)، أوصى فيها بإلغاء الاحتياطي الفيديرالي والسماح للسوق بتنظيم نفسه بنفسه، مما يحميه من تفاقم الفقاعات التي تثيرها السلطة النقدية.

استرجاع ألمانيا وإيطاليا لاحتياطاتهما من الذهب من الولايات المتحدة، من شأنه أن يجعل الرصيد الذهبي في خزائن المصارف المركزية لمنطقة اليورو يفوق الاحتياطي الأميركي من المعدن الأصفر

واقترح عودة الولايات المتحدة إلى نظام مصرفي "مدعوم بالذهب كمعيار سوقي" وبزيادة احتياطيات رأس المال لتصل إلى 20 في المئة من أصول المصارف، وأيضا إلغاء ثلاث من أوسع اللوائح المصرفية نطاقا، منها "قانون دود- فرانك"، وهو ما يتوافق مع رغبة ترمب. ومشروع أليسون حاضر على الدوام في ذهن ترمب كسلاح يؤمن بفاعليته لصون الهيمنة الاقتصادية والمالية وكذلك النقدية لبلاده ضد أي تهديد، إذ يرتكز على حيازتها لاحتياطي ضخم من الذهب، مضافا إليه إيداعات أكثر من 30 مصرفا مركزيا أجنبيا، أي نحو 6300 طن من الذهب.

مستقبل مشرق للـ"يورو"؟

فالولايات المتحدة تأتي في المرتبة الأولى، وفقا لآخر بيانات مجلس النقد العالمي لعام 2024، بحيازة 8133 طنا من الذهب، تليها ألمانيا بـ3352 طنا (نصفه في فرانكفورت و37 في المئة منه في مانهاتن و12 في المئة في لندن، والباقي، ويبلغ 374 طنا تمت استعادته من فرنسا لاشتراك الاخيرة وألمانيا في عملة اليورو)، بعد ذلك تأتي إيطاليا  في المرتبة الثالثة بـ 2452  طنا (يخزن 43 في المئة  منه  في مانهاتن)  ثم فرنسا 2437 طنا  التي عملت على استعادة  احتياطاتها الذهبية من الولايات المتحدة منذ عهد الجنرال شارل ديغول وأنهت الأمر في عام 2013 حيث يتم حاليا تخزين ذهب البلاد  وبلاد أخرى في أقبية وخزائن بنك فرنسا على عمق 27 مترا تحت سطح الارض.

Shutterstock
رمز اليورو، خارج مقر البنك المركزي الأوروبي السابق في فرانكفورت، ألمانيا 30 مايو 2014

استرجاع ألمانيا وإيطاليا لاحتياطاتهما من الذهب من الولايات المتحدة، من شأنه أن يجعل الرصيد الذهبي في خزائن المصارف المركزية لمنطقة اليورو يفوق الاحتياطي الأميركي من المعدن الأصفر، ما من شأنه أن يساعد بالتأكيد في تحويل اليورو إلى عملة المستقبل المشرق عند اكتمال مرحلة الاتحاد الضريبي والسوق المالي بين دوله. من هنا يفهم التلكؤ والمماطلة في استجابة الولايات المتحدة لاسترداد فرانكفورت لما تختزنه من ذهب في مانهاتن.

استرداد احتياطي الذهب، قوة أم ضعف؟

في الأوضاع الدولية المأزومة الراهنة، هناك رأي يعتبر أن من يمتلك الذهب هو من يختزنه، مما يعني أن الذهب الألماني الموجود في حوزة الولايات المتحدة هو ببساطة ملك للأميركيين. فاحتياطات الذهب هي رمز لقوة الدولة، وعندما يتم تخزينها في دولة أخرى، فإن هذا يعتبر ضعفا استراتيجيا كونه يعطي نفوذا للدولة المختزنة يتناقض مع مقتضيات السيادة النقدية والوطنية. وغالبا ما ينظر إلى الذهب باعتباره الأمن النهائي للدولة في أوقات التوترات والأزمات وعدم اليقين الجيوسياسي. ومن ثم فإن إعادة احتياطات الذهب إلى الوطن تعكس الرغبة في حماية الذات ضد السيناريوهات التي قد تتعرض فيها القدرة على الوصول إلى هذه الأصول للخطر.

وكانت تلك الحجة وراء استعادة المصرف المركزي الهولندي ذهبه من الولايات المتحدة إلى أمستردام عام 2014، إذ أعلن "أنه من الأفضل في أوقات الأزمات المالية أن يكون الذهب قريبا". تبعتها الهند بنقل ذهبها من لندن. كذلك الأمر بالنسبة الى نيجيريا، التي نقلت في أبريل/نيسان 2024 ذهبها من الولايات المتحدة إلى أراضيها، مبررة الامر "بالرغبة في خفض أخطار التخزين في الخارج وتعزيز الثقة في اقتصادها الوطني في مواجهة التقلبات النقدية وحماية نفسها من عدم الاستقرار الجيوسياسي المتزايد". واتبعت دول أفريقية أخرى المنحى نفسه، مثل جنوب أفريقيا وغانا والجزائر ومصر، وأصبح الأمر مسارا عالميا.

القول بأن الذهب الموجود على أرض الوطن هو وحده الواجب الاعتداد به، هو من نوع الالهاء البحت. فالعالم الذي تنهار فيه الثقة المالية، تثار فيه مشاكل أكبر بكثير من أين يوجد رصيد دولة ما من الذهب

سيمون جونسون، حامل آخر جائزة "نوبل" في الاقتصاد لعام 2024

على النظام المالي الغربي كمجموعة "بريكس"  التي تعمل على تعزيز احتياطاتها من الذهب كأداة أساسية في استراتيجياتها للتخلي عن الدولار الأميركي كعملة مرجعية في التبادلات، وهي تبلغ حاليا نحو 6500 طن ومرشحة للازدياد مع انضمام دول أخرى إلى المجموعة. وكان ترمب هدد دول "بريكس" بفرض "رسوم جمركية بنسبة 100 في المئة" في حال اعتمادها عملة جديدة تحل مكان الدولار.

.أ.ف.ب
نمو احتياطات الذهب لدى ألمانيا تزيد من استقرار النقد في الاتحاد الأوروبي

في تصور متمايز عن مجمل العرض السابق، ذكر سيمون جونسون، حامل آخر جائزة "نوبل" في الاقتصاد لعام 2024 ، في مقال له في بداية عام 2013، أي قبل أكثر من عقد من الأزمات الدولية الراهنة "أن القول بأن الذهب الموجود على أرض الوطن  هو وحده الواجب الاعتداد به، هو من نوع الالهاء البحت. فالعالم الذي تنهار فيه الثقة المالية، تثار فيه مشاكل أكبر بكثير من أين يوجد رصيد دولة ما من الذهب. فعندما تنهار التجارة الدولية وتتنافس الشركات العالمية من أجل تصريف منتجاتها، فإن النقاش في أي الخيارين أفضل، الاحتفاظ بالذهب في الداخل أو استبقاؤه في خزائن الاحتياطي الفيديرالي، سيقود حتما إلى أنه لن يكون مفيدا لا هنا ولا هناك". ويستطرد قائلا إنه "لا يمكن تصور تعرض أرصدة ألمانيا من الذهب في أي حال للتجميد او المصادرة كما يحصل أحيانا مع الدول المارقة كإيران وفنزويلا، فألمانيا دعامة أساسية للعالم الديمقراطي".

الملاذ الآمن عند الأزمات

أيا كان الأمر، فإن طرح موضوع إعادة احتياطي الذهب لدولة ما إلى أرض الوطن، وأهم حلقاته الطلب الألماني، يكشف عن إشكالية قديمة متجددة لعلاقة الإنسان والمجتمعات بالمعدن الاصفر. فعلى الرغم من نجاح الذهب في تأمين الاستقرار النقدي في تعاملات الشعوب لقرون طويلة، فإن هذا لم يمنع من مهاجمته من قبل أسماء لامعة. فالشاعر الانكليزي شكسبير وصفه بأنه مومس البشرية، ومواطنه الاقتصادي  جون كينز رأى فيه أثرا من آثار البربرية، والرئيس الأميركي روزفلت صنفه من ضمن بقايا التاريخ الساقطة. أما شاخت حاكم "البوبا"، المصرف المركزي الألماني في مرحلة النازية، فوصفه بأنه مظهر من مظاهر اليهودية الاكتنازية.

إقرأ أيضا: الفرنك السويسري ملاذ المستثمرين وسط إعصار التعريفات

ومع كل النعوت السابقة، يكشف تألق الذهب أخيرا في البورصات العالمية أنه يبقى ولمستقبل منظور، الملاذ الآمن في ظل تقلبات التجارة العالمية، وهو عنصر أساس في الثروة الوطنية والأمن المالي وفي التحوّط ضد التضخم وتقلبات أسعار العملات، لا بل عامل في تغييرات مراكز العملات وأدوارها الدولية. إن مطالبة النخب المدنية والسياسية الألمانية وغيرها باستعادة الذهب من أماكن تخزينه الخارجية، ليست فقط حقيقة مطالبة ضمنية على حد قول الاقتصادي جونسون باستعادة عصر معيار الذهب وموازينه الذي فك الارتباط به منذ عام 1971، بقدر ما هي محاولة لاعادة ترتيب البيت الألماني، وبالتالي مركز اليورو دوليا بعد قرارات ترمب التجارية والأمنية.  

font change

مقالات ذات صلة