منذ تأسيسها في عام 1958، لم تكن مهمة وكالة الفضاء الأميركية (ناسا) مجرد إرسال صواريخ إلى الفضاء، بل حملت رؤى أوسع وأعمق بكثير. فهذه المؤسسة العلمية العملاقة، التي قد يظن البعض أن عملها محصور في ما وراء الغلاف الجوي، تلعب دورا محوريا في قضايا علمية، واقتصادية، وتكنولوجية تمس حياة الإنسان على الأرض يوميا.
تبرز وكالة الفضاء الأميركية "ناسا" كأداة استراتيجية بالغة الأهمية في خدمة العلم والاقتصاد والمكانة العالمية للولايات المتحدة. فدورها يتجاوز حدود إطلاق الصواريخ واستكشاف الفضاء، ليشمل توسيع آفاق المعرفة البشرية، ودعم الأمن القومي، وتعزيز الاقتصاد الأميركي من خلال الابتكار وخلق الوظائف، فضلا عن تطوير تقنيات تعود بفوائد ملموسة على حياة الناس على الأرض.
ومن خلال برامجها العلمية والاستكشافية، تساهم "ناسا" في مواجهة تحديات كبرى مثل تغيّر المناخ وتحسين وسائل النقل الجوي، كما تقود جهودا لإعادة الإنسان إلى القمر والسير نحو استيطان الفضاء بشكل مستدام. في هذا المعنى، لا تُعدّ "ناسا" ذراعا علمية متقدمة للولايات المتحدة فقط، بل أيضا أداة قوة ناعمة تعزز الريادة الأميركية عالميا، وتكرس صورتها كأمة تقود مستقبل البشرية نحو حدود غير مسبوقة.
انتكاسات كبيرة
لكن، ومنذ أن تولى الرئيس دونالد ترمب منصبه للمرة الثانية في يناير/كانون الثاني 2025، شهدت الولايات المتحدة موجة من التغييرات الجذرية التي طالت المؤسسات الحكومية، وخاصة تلك المرتبطة بالعلوم والفضاء. لم تكن هذه التغييرات مجرد تعديلات بيروقراطية روتينية، بل تحولات استراتيجية عميقة أثرت على آلاف الموظفين الفيديراليين، وألغت برامج بحثية حيوية، وهددت مكانة أميركا كرائدة في الاستكشاف العلمي.
فخلال الأيام القليلة الماضية، واجهت "ناسا" انتكاسات كبيرة تهدد طموحاتها الواسعة في استكشاف الفضاء، وتضع مستقبلها القريب والبعيد تحت علامات استفهام متزايدة. ففي 30 مايو/أيار 2025، كشفت وثائق الميزانية الجديدة عن حجم الخفوضات الجذرية المقترحة من إدارة الرئيس دونالد ترمب، التي تطال الميزانية والموظفين على حد سواء.
حتى قبل انتخابه رئيسا، أعلن ترمب خطة طموحة لـ"تبسيط" الحكومة الفيديرالية، بقيادة وزارة كفاءة حكومية أشرف عليها بعد الانتخابات إيلون ماسك، المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة "سبيس إكس". تحت ذريعة الحد من "الهدر" في المال العام، شملت الخفوضات إلغاء آلاف الوظائف، وإغلاق معاهد بحثية، وإيقاف تمويل برامج تركز على التنوع أو تغير المناخ.
لكن القطاع الأكثر تضررا كان "ناسا" ووكالات العلوم الأخرى مثل الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي والمؤسسة الوطنية للعلوم. فبينما زادت الإدارة التركيز على المهام المأهولة إلى المريخ، تم تقليص التمويل المخصص للعلوم الأساسية بنسبة 47%، مع إلغاء 41 مهمة فضائية قيد التنفيذ أو التخطيط. فبعدما حصلت الوكالة على 24.9 مليار دولار لعام 2025، يقترح المشروع تخصيص 18.8 مليار فقط لعام 2026. وبعد احتساب أثر التضخم، فإن هذه الميزانية تمثل أدنى تمويل حقيقي للوكالة منذ عام 1961، أي منذ بدايات سباق الفضاء نفسه.