الفنانة الأميركية س. أ. باكمان لـ "المجلة": لا أفصل بين الفن والشأن العام

عن كتابها الأحدث "فن المقاومة" الصادر العربية والإنكليزية

"فن المقاومة"

الفنانة الأميركية س. أ. باكمان لـ "المجلة": لا أفصل بين الفن والشأن العام

أن تعد كتابا تضامنيا مع الشعب الفلسطيني وتنشره في الولايات المتحدة في هذه الأيام، عمل يتطلب قدرا استثنائيا من الجرأة، وهو ما فعلته الفنانة والناشطة الأميركية س. أ. باكمان (S.A. Bachman)، مؤكدة من خلاله دور الفن في الاحتجاج وفي التضامن مع الضحايا.

يحمل الكتاب عنوان "فن المقاومة: رسومات احتجاجية وشعر لفلسطين" ويجمع بين دفتيه ملصقات ورسوما غرافيكية لباكمان وقصائد لشهراء اغتالتهم إسرائيل منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، علاوة على نصوص لشعراء من الأراضي المحتلة والشتات. كما يتضمن الكتاب مختارات من مبادرة "لسنا أرقاما" (WANN)، وهي منظمة شبابية فلسطينية غير ربحية مقرها غزة، تعنى بتوثيق قصص الشجاعة والحزن والمقاومة.

محررة الكتاب س. أ. باكمان، فنانة تشكيلية ومصورة فوتوغرافية وناشطة اجتماعية وأستاذة جامعية، تجمع في أعمالها بين الثقافة البصرية والعمل الميداني لمواجهة الرأسمالية والاستعمار ومنطق القمع. أسست باكمان، بالمشاركة مع آخرين، جمعيتين فنيتين تعاونيتين: هما "أعيدوا التفكير” و”صوت أعلى من صوت الكلمات“، وكلتاهما تستخدم الإبداع رافعة للخطاب العام والمقاومة السياسية. تركز باكمان في عملها على تقاطع قضايا تفوق العرق الأبيض والفوارق الاقتصادية وكراهية النساء والتلاعب الإعلامي وتتناول في أعمالها الأخيرة قضايا العنف ضد المرأة ومحنة المهاجرين واستغلال الحيوانات والدعوة إلى إلغاء السجون وتحرير فلسطين. تعتمد في ممارستها الفنية على وسائل متعددة مثل مونتاج الصور واللوحات الإعلانية المتنقلة والعروض الخارجية والصور المتحركة وطباعة الأوفست.

حازت باكمان منحا وجوائز من الصندوق الوطني للفنون والمجلس الثقافي لولاية ماساتشوستس ومؤسسة نيو إنغلاند للفنون وعرضت مشاريعها الفوتوغرافية في مؤسسات مرموقة مثل: متحف فيلادلفيا للفنون ومعهد الفن المعاصر في بوسطن وفيلادلفيا، ومتحف برشلونة للفن المعاصر ومتحف روز للفنون والمتحف البديل. كما تعرض أعمالها ضمن مجموعات دائمة في متحف مقاطعة لوس أنجليس للفنون وقصر الفنون الجميلة في مكسيكو سيتي ومركز دراسات الرسومات السياسية. نشرت أعمالها في مجلات رائدة مثل Artforum، وMs، وSocial Text، وظهرت ملصقاتها وصورها السياسية في كتب من أبرزها "إعادة صياغة: صور فوتوغرافية نسوية أميركية جديدة" و"تحريض غرافيكي". كما وثقت بدايات مشروع "فكروا مجددا" في دراسة صدرت بعنوان "تاريخ موجز للغضب".

هذا الكتاب تحية لرؤية تحتفي بأصوات الذين يواجهون الاحتلال والتهجير والقتل بخيال وتصميم وتوصلها على نطاق واسع

هنا حوار معها حول كتابها الجديد الذي يصدر باللغتين الإنكليزية والعربية عن دار نشر Politicizing Pictures Press  تحت عنوان "فن المقاومة: رسومات احتجاجية وشعر لفلسطين."

رؤية استشرافية

ما الذي ألهمك لإعداد هذا الكتاب وتحريره؟ ما الرسالة التي أردت إيصالها الى القراء من خلاله؟ 

هذا الكتاب متأصل في الرؤية الاستشرافية لمخرجي "مسرح الحرية"، جوليانو مير خميس وأحمد الطوباسي، اللذين أعلنا أن الانتفاضة الثالثة لن تخاص في الشوارع فحسب بل أيضا من خلال المسرح والموسيقى والفن البصري والشعر. يمكن أن نعد هذا الكتاب تحية لتلك الرؤية وأرشيفا من المقاومة الإبداعية تحتفي بأصوات الذين يواجهون الاحتلال والتهجير والقتل بخيال وتصميم وتوصلها على نطاق واسع. كان يقال لنا دوما إن الفن لا يشكل في الحقيقة فرقا، لكنني لا أتفق مع هذا الرأي. ما زلت أسأل نفسي مثل فنانين كثيرين: هل ما أفعله مؤثر؟ ثم أسأل من جديد: ما الذي سيكونه هذا العالم إذا خلا من الفنانين الذين يقاومون؟ هذان السؤالان ذاتيان ولا يمكن إغفالهما.

س. أ. باكمان

إن الرسالة المحورية للكتاب هي أن الفن مؤثر وقوة تحد وعلاج وتحول ويساعدنا في مواجهة التواطؤ ويتحدى السرديات المهيمنة ويحافظ على الحياة في ظل ظروف قاهرة. إن أي شخص شارك في حركة تغير اجتماعي يعرف أن الفن ليس شيئا كماليا، بقدر ما أنه ضرورة. فالفن يبدع رموزا للتنظيم ويمنح شكلا للنقد ويصنع التحالفات ويدعو الى التأمل ويقدم رؤى حول ما هو ممكن. إن الصور الصحافية وملصقات الاحتجاج لا توثق فحسب بل تحدد نقاط انعطاف، تنشر شعارات تصبح حقائق معيشة وتصوغ الكيفية التي نتذكر بها الأشياء. يستطيع الفن أن يثير ويقلق ويوضح وينجح حيث يمكن أن يتعثر المنطق. يمكن أن يمنح لغة لما لا يمكن التعبير عنه في غالب الأحيان.     

يحتوي الكتاب على ملصقات تضامنية واحتجاجية. ما الدور الذي تلعبه هذه الملصقات؟

الملصقات المتضمنة في الكتاب أسلحة بصرية للمقاومة ضد الاستعمار الاستيطاني والإمبريالية وتشويه الحقائق الذي يقوم به الإعلام المهيمن. تصور الملصقات عمليات اضطهاد متقاطعة بينما تضع في المركز ثبات الهوية الفلسطينية والدعوة الملحة للعدالة. وهي تمتح من تراث طويل من الدعاية التحريضية والرسوم الغرافيكية السياسية وتعمل كي تعبئ وتحرض وتلهم وتشهد، كما أنها بمثابة وثائق واضحة ودائمة لعصرها.

الفن الغرافيكي

تتحدثين في مقدمة الكتاب عن الدور التاريخي للفن الغرافيكي من مصر القديمة إلى الوقت الحاضر. أي دور يلعبه هذا الفن الآن في القضية الفلسطينية؟   

يلعب الفن الغرافيكي اليوم دورا مزدوجا: يعمل كسجل حي للمقاومة الفلسطينية وكوسيط للتضامن الدولي. وهو يعتمد على سلسلة طويلة من الاحتجاجات البصرية من الرسومات الغرافيكية في بومباي واللافتات في عصر النهضة إلى الصحف المصورة في عصر الإصلاح وملصقات حركات التحرر في القرن العشرين.

مقاومتي البصرية تنتمي إلى خط النسب هذا، وتعيد صياغته لخدمة الحاضر. فنحن لا نواجه الإبادة الجماعية والتهجير بإدانة العنف فحسب، بل بتأكيد استمرارية الثقافة

لقد دعم تحدي مارتن لوثر للكنيسة الكاثوليكية بمنشورات تحتوي على رسوم ونقوش خشبية أبدعها فنانون مثل ألبرشت دورر وهانز هولباين. وفي القرن التاسع عشر، ساهمت الرسوم الكاريكاتورية السياسية في إشعال فتيل الثورة. لاحقا، استعانت جمعيات حقبة الإيدز، مثل "أكت أب"، و"غراند فيوري"، و"غروب ماتريال"، بالفن الغرافيكي ببراعة واقتدار لنقد سياسات الصحة العامة والإهمال الممنهج.

AFP
فلسطينيون يحاولون جمع المياه في مخيم للنازحين في مدينة غزة

إن مقاومتي البصرية تنتمي إلى خط النسب هذا، وتعيد صياغته لخدمة الحاضر. فنحن لا نواجه الإبادة الجماعية والتهجير بإدانة العنف فحسب، بل بتأكيد استمرارية الثقافة أيضا. وتشكل هذه الأعمال أرشيفا بصريا مضادا للمحو ووسيلة إعلامية بديلة تبقي الذاكرة والنضال حيين.

لماذا جمعت بين الشعر والفن الغرافيكي والملصقات؟

يجمع الكتاب بين الثقافة البصرية والشعر لمواجهة الاستعمار ومنطق السجون. لطالما تأسست ممارستي الفنية والتعليمية على دمج الصورة بالنص اللغوي. تعود بدايات هذه العلاقة إلى سنوات دراستي الجامعية، رغم أن الجمع بين النص والصورة كان آنذاك محظورا في الأكاديميات الفنية. ورغم انتشار هذا التمازج في حياتنا اليومية - من صفحات الصحف إلى منشورات وسائل التواصل الاجتماعي - ظلت المؤسسات الفنية مترددة في تبني قوة هذه اللغة الهجينة، غير أن هذا الواقع بدأ يتغير ابتداء من تسعينات القرن الماضي.

في كتابي، يتيح التداخل بين الشعر والفن البصري إقامة حوار حي بين الصورة والكلمة، حيث يلتقي الاحتجاج العمق العاطفي والانفعالي الكامن في الشعر. ويؤكد هذا التداخل أن الجماليات والنشاط السياسي ليسا مجالين منفصلين، بل يتكاملان ويرسمان معا صورة متعددة الأبعاد للحياة الفلسطينية والمقاومة.

تعاونيات

لعبت دورا فاعلا في تأسيس جمعيات تعاونية مثل "صوت أعلى من صوت الكلمات" و"أعيدوا التفكير". كيف تساهم جمعيات كهذه في التغيير الاجتماعي والسياسي؟

ولدت جمعيتا "أعيدوا التفكير" (1997-2010) و"صوت أعلى من صوت الكلمات" (2013-2025) من ضرورة الرد على الظلم وغياب العدالة في الولايات المتحدة. شاركت في تأسيس جمعية "أعيدوا التفكير" مع ديفيد جون عطية، وعملت مع ندا موريدبور على تأسيس "صوت أعلى من صوت الكلمات". تستخدم هاتان الجمعيتان الممارسة الإبداعية كمحفز للخطاب العام والمقاومة السياسية. أما في عملي الفردي فقد انصب تركيزي على فحص تمثيلات البياض، أي ما يسوق كحلم أميركي في الإعلام الجماهيري الذي تصوغه البطريركية والرأسمالية الاستهلاكية.  غير أن تسعينات القرن العشرين شهدت تحولا مع صعود السياسات النيوليببرالية: من اتفاقية نافتا التي وقعها كلينتون، إلى إصلاح نظام الرفاه، وقانون الجريمة.

يتيح التداخل بين الشعر والفن البصري إقامة حوار حي بين الصورة والكلمة، حيث يلتقي الاحتجاج العمق العاطفي والانفعالي الكامن في الشعر

ركزت الجمعيتان في عملهما على تقاطع الفن مع العدالة الاجتماعية من أجل منح مجال أوسع للأصوات المهمشة ومواجهة التمييز العنصري والبطريركية والإمبريالية والظلم الذي يتعرض له المهاجرون واستغلال الحيوانات ودعاية إعلام الشركات. قمنا بتنظيم تدخلات عامة مثل العروض الخارجية وشاحنات اللوحات الإعلانية المتنقلة مع مساحات تعليمية داخلية، بينما أنشأنا أيضا أدوات بصرية مجانية وقابلة للتوزيع - ملصقات وبطاقات بريدية وكتب ولوحات إعلانية - لاستخدامها في الاحتجاجات والفصول الدراسية والحملات.

س. أ. باكمان

كان هدفنا دوما مزج الصور المثيرة بصريا مع النظرية الثقافية والتحليل النقدي. ونستخدم حس الفكاهة والبحث ومحو الأمية البصرية كي نثير حوارا. نعمل منطلقين من إيماننا بأن الفن لا يستطيع التحكم بالنتائج لكنه يمكن أن يصوغ الوعي ويساعد في تغيير الثقافة.

حافز

ما الذي حفز تضامنك العابر للقومية على المستوى الشخصي؟

تشكل وعيي السياسي مبكرا. نضجت أثناء حرب فيتنام والموجة الثانية من حركة حقوق النساء.  في سن الثالثة عشرة أثرت بي كثيرا المجزرة التي حصلت ضد الطلاب في جامعة ولاية كينت في 1970. لاحقا، حالفني الحظ للمشاركة في برنامج المدرسة الثانوية العامة الملتزم سياسيا. في الكلية، درست مع باحثي إعلام ومنظرين ساعدوني في فهم كيف أن الثقافة البصرية والسلطة تعملان جنبا إلى جنب. هذا الإحساس بالصراع المتداخل والمتشابك لم يفارقني يوما.  أجهد كي أطور لغة بصرية للحياة العامة، لغة تقر بالتواطؤ لكنها تقدم أيضا أدوات للتدخل والفهم والتحول، وهذا ما يعكسه أيضا كتاب "فن المقاومة".

لماذا في رأيك بقيت حركات الاحتجاج في الولايات المتحدة إلى حد كبير داخل الفضاءات الأكاديمية؟

ينتقد كتاب "فن المقاومة" التواطؤ الاجتماعي والطرق المتزايدة لقمع وتشويه وضبط الاحتجاجات، بما في ذلك داخل الجامعة. كان هناك وقت سمحت فيه الفضاءات الأكاديمية  بدرجة ما من التساؤل الراديكالي. كان في إمكاني تدريس حصص عن الاستعمار الاستيطاني والإمبريالية والعنف الهيكلي، وتكليف الطلاب قراءات نقدية وإقامة معارض عامة والمشاركة في مشاريع ناشطة مع الطلاب. أما اليوم، فيمكن أن تكون هذه المواد ذاتها سببا للفصل. ذلك أن الجامعة -التي لطالما نظر إليها كموقع محدود للانشقاق - رغم أنها تاريخيا تتلقى التمويل من الصناعات الطبية والعسكرية والتكنولوجية - كانت مرتبطة دوما بالمؤسسة. ما نراه حاليا ليس قطيعة بل تصعيد، وانسجام تاما مع سلطة الدولة والشركات، وفرض للتوافق الأيديولوجي تحت ستار الحياد والنظام. مهما كانت قيود الجامعة في الماضي، فإن مستوى القمع الذي نشهده في عام 2025 غير مسبوق. نعيش في ظل ما أسماه الباحثون "استثناء فلسطين من حرية التعبير"، وهو قمع ممنهج يستهدف الطلاب والفنانين والمعلمين. يتعرض الطلاب للتشهير بهم، وإدراجهم في القوائم السوداء وإيقافهم عن الدراسة. ويوبخ أعضاء هيئة التدريس أو يفصلون لتوقيعهم عرائض أو لأنهم يدرسون محتوى نقديا أو يرفضون أن يبقوا صامتين، وتخضع أقسام بأكملها للمراقبة. ولا يقتصر هذا القمع على التضامن مع فلسطين، بل هو جزء من رد فعل أوسع نطاقا ضد مبادرات التنوع والإنصاف والشمول والدراسات العرقية وأي منهجية تربوية تتصدى للتفاوت الهيكلي.

لم يكن هدفي قط دخول متحف الفن الحديث، بل أريد أن تعرض أعمالي على الثلاجات والجدران والمراكز المجتمعية حيث يمكنها أن تتنفس وتستخدم وتمتلك قيمة

في جميع أنحاء الولايات المتحدة تقدم الهيئات التشريعية للولايات مشاريع قوانين لحظر ما يسمى "المفاهيم المثيرة للانقسام"، ويتم سحب التمويل من برامج التنوع والإنصاف والشمول، ومعاقبة المعلمين على التحدث علنا عن قضايا العدالة الاجتماعية.

Reuters
سيدة فلسطينية وطفلة تحملان أكياسا من الحطب في جوار أنقاض منازل مدمرة في مدينة غزة

هذه الجهود لا تتعلق بالحرية الأكاديمية، بل تتعلق بالسيطرة على اللغة والذاكرة والمعارضة والخيال. وهكذا بينما يمكن أن يظل التمرد يخرج من الفضاءات الأكاديمية إلا أن هذه الفضاءات تتعرض لحصار متزايد. إن ظروف التنظيم والتدريس والإبداع بنزاهة آخذة في التآكل. ومع ذلك، تؤكد هذه اللحظة تماما ما يصر عليه كتاب "فن المقاومة" وهو  أن المعارضة ليست اختيارية بل ضرورية. يجب ممارستها وحمايتها وتوسيع نطاقها خاصة عندما تصبح المؤسسات التي أوكلت إليها مهمة حماية الفكر النقدي من بين أقوى محاربيه.

موازنة

كيف توازنين بين الجمالية الفنية والرسالة السياسية في عملك؟

لطالما بدا لي الفصل المفترض بين الجماليات والسياسة خاطئا، على عكس الإقرار النسوي بأن الشخصي سياسي، وهو ما وجدته دائما دقيقا للغاية. قراراتنا الأكثر حميمية تمليها القوانين والأعراف الاجتماعية. بالنسبة لي، إن الجماليات والشأن العام لا ينفصلان، فكل منهما يشكل الآخر ويعكسه ويعززه. أعمالي مبنية على إيماني بأن الجماليات تعمق الخوض في الشأن العام. فالصور الحيوية والشعر الآسر واللغة الدقيقة ليست مجرد زخارف بل تبرز إلحاح الرسالة وتتيح نقاط انطلاق. لقد تصالحت منذ زمن طويل مع حقيقة أن الفن الملتزم غالبا ما يكون خارج نطاق التقدير التقليدي. ولذلك، لم يكن هدفي قط دخول متحف الفن الحديث، بل أريد أن تعرض أعمالي على الثلاجات والجدران والمراكز المجتمعية حيث يمكنها أن تتنفس وتستخدم وتمتلك قيمة.

font change