المواجهة الأميركية-الإيرانية... ترمب العالق بين الحرب والسلام

يشعر كثر من الجمهوريين بأن أميركا بصدد فرصة تاريخية لحل "مشكلة إيران"

"ماكسار" للصور الجوية عبر رويترز
"ماكسار" للصور الجوية عبر رويترز
صورة جوية لمجمع فوردو التقطت بعد تعرضه لقصف الطائرات الاميركية

المواجهة الأميركية-الإيرانية... ترمب العالق بين الحرب والسلام

ردا على سؤال صحافي تلقاه الرئيس الأميركي دونالد ترمب في البيت الأبيض عن الجدل داخل الحزب الجمهوري وبين انصاره في حركة "ماغا" ("لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى") بخصوص مشاركة أميركا في حرب إسرائيل الحالية ضد إيران، قال الرجل بأسلوبه المعتاد الذي يمزج بين الخصوصية والعمومية: "لا أريد أن أحارب أيضا. لا أتطلع لدخول الحرب، لكن إذا كان الأمر يتراوح بين القتال وامتلاك إيران سلاحا نوويا، فإن عليك أن تفعل ما ينبغي فعله".

على نحو غير مباشر، لخص السؤال وجواب الرئيس عليه حالة القوى المتنافرة التي تحاول أن تؤثر على قرار ترمب، وهو التأثير الذي يمر عبر إيقاظ هواجس الرئيس وآماله.

كان قرار ترمب المفاجئ بقطع مشاركته في قمة الدول الصناعية السبع والعودة إلى واشنطن لأن "شيئا كبيرا" يحدث على حد قوله، يعكس آماله كشخص يرى نفسه محوريا في شؤون العالم وقادرا على اتخاذ القرارات الصعبة بسهولة، مستمتعا بترقب هذا العالم الذي يتابعه ويحبس الأنفاس بانتظار قراراته هذه. في واشنطن، كان عليه أن يواجه وقائع الحكم والسياسة ويغادر صورته المتمناة لنفسه: من جهة الانزعاج الشديد والعلني لقاعدته السياسية، الانعزالية الطابع، التي ظلت أمينة له رغم كل مصاعبه في درب فوزه بالرئاسة، خصوصا أثناء معاركه القضائية والاتهامات الجدية التي لاحقته، وانزعاجها من احتمالات إدخاله الولايات المتحدة في "حرب جديدة" في الشرق الأوسط. ومن جهة أخرى ضغوط الجمهوريين التقليديين، الذين يؤمِّنون له إمرار أجندته الانتخابية عبر الكونغرس. يطالب هؤلاء بدخول أميركا القوي والسريع في الحرب و"عدم ترك إسرائيل وحيدة" في مواجهة إيران "المعتدية" لكن "الضعيفة" الآن بعد أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.

يشعر هؤلاء الجمهوريون، وبينهم الكثير من أنصار إسرائيل، مثل السيناتور ليندسي غراهام، ورك سكوت، وتيد كروز، بأن أميركا بصدد فرصة تاريخية لحل "مشكلة إيران" وهو ما فشلت إدارات رئاسية أميركية ديمقراطية، في القيام به.

سياسيا وشخصيا، يخشى ترمب كثيرا من أن يكون الرئيس الأميركي الذي تصنع إيران قنبلة نووية في عهده، خصوصا في ظل انتقاده الدائم للرئيسين الديمقراطيين السابقين، باراك أوباما وجو بايدن

داخل الإدارة نفسها،  ينتبه ترمب  لآراء العسكريين، خصوصا قائد قوات المنطقة الوسطى التي تغطي الشرق الأوسط، الجنرال مايك كوريلا الذي يحظى بإعجاب ترمب الشخصي. تقترب تقييمات كوريلا كثيرا من التقييمات الإسرائيلية بخصوص إيران وخلاصتها أن الأخيرة على بعد أيام، أو أسابيع قليلة في أقصى تقدير، من صناعة قنبلة ذرية ما يتطلب تدخلا عسكريا أميركيا سريعا. 
حسب مصادر مطلعة، كان تقييم كوريلا هذا، الذي التقاه ترمب قبل الضربة الإسرائيلية، وتقرير مجلس محافظي وكالة الطاقة الذرية الذي اتهم إيران بإخفاء أنشطة نووية مريبة وبتخصيبها المتصاعد لليورانيوم لمستويات قريبة من الاستخدام العسكري النووي، كانا العاملين الأساسيين اللذين دفعا ترمب لعدم اعتراض الضربة الإسرائيلية المبكرة ضد إيران قبل الاجتماع الأخير المرتقب بين أميركا وإيران في مسقط، وهو الاجتماع الذي أطاحت به هذه الضربة. 

غيتي عبر أ ف ب
وزير الدفاع الاميركي بيت هيغسيث يتحدث اثناء مؤتمر صحافي في وزارة الدفاع الاميركية في 22 يونيو

وحسب تقرير الوكالة الأخير الذي صدر قبل هذا الاجتماع فإن لدى إيران كميات كبيرة من اليورانيوم المخصب بنسبة 60 في المئة، أكثر من 400 كيلوغرام، فيما تحتاج صناعة قنبلة ذرية تخصيبا بنسبة 90 في المئة. وفي ضوء قدرات إيران المتطورة في التخصيب، فإنها تستطيع بحسب خبراء في خلال أسبوع واحد أن تخصب ما يكفي من يورانيوم لصناعة بضع قنابل ذرية. 
سياسيا وشخصيا، يخشى ترمب كثيرا من أن يكون الرئيس الأميركي الذي تصنع إيران قنبلة نووية في عهده، خصوصا في ظل انتقاده الدائم للرئيسين الديمقراطيين السابقين، باراك أوباما وجو بايدن، بأنهما كانا ضعيفين إزاء إيران وسمحا لها بتطوير برنامجها النووي ما يعرض أميركا وحلفاءها في المنطقة للخطر.
رغم تأييده العلني للضربة العسكرية الإسرائيلية، وجد ترمب نفسه تحت ضغط جديد للذهاب إلى أبعد من التأييد. كان هذا الضغط قادما من إسرائيل وأنصارها الأميركيين، والجمهوريين التقليديين، بعدم تركها وحدها في مواجهة "الشر الإيراني" وتضييع "الفرصة التاريخية" بحسم المواجهة مع إيران لصالح أميركا والغرب. 
في ظل هذا الضغط المتصاعد، وقناعات الرئيس الشخصية المُتفقة مع الحجج الاستراتيجية التي يقوم عليها هذا الضغط، كان الرجل على وشك اتخاذ قرار الحرب بعد عودته إلى واشنطن من كندا، قبل أن يتراجع عن هذا، متأثرا- على الأغلب- بالرفض الصارم والواضح لأنصاره في "ماغا". وقد ساعد الرئيس في هذا التراجع، وإعلان الانتظار قليلا، لمدة أسبوعين، انفتاحُ مسار سياسي إيراني-أوروبي، بعلم ودعم واشنطن، للتوصل إلى حل تفاوضي عبر اجتماعات جنيف. 

يبدو أن استثمار ترمب الحقيقي والجدي هو في جنيف، على أمل أن تنتج محادثاتها صفقة سلمية مع إيران تستوفي المتطلبات الأميركية الرئيسة

ثم جاءت الضربة الأميركية المفاجئة والقوية لثلاث منشآت نووية إيرانية، الأبرز بينها في  فوردو، أخطر المنشآت النووية الإيرانية وأشدها تحصينا واستعصاء على الآلة العسكرية الإسرائيلية. عبر هذه الضربة، تسعى إدارة ترمب لتحقيق ثلاثة أهداف مترابطة. 
الهدف الأول هو استعادة صورة الرئيس القوي الذي لا يتردد في اتخاذ القرار بمواجهة إيران عسكريا، بعد الضعف الذي انتابها جراء تراجع الرئيس عن قراره بدخول الحرب (ظهرت استعادة صورة الرئيس القوي عبر عرض الصلابة الرئاسية في خطاب الرئيس الذي أعلن فيه عن الضربة العسكرية وكيفية تنفيذها). 
الهدف الثاني هو تخفيف اعتراضات أنصار إسرائيل وحلفاء الرئيس الجمهوريين في الكونغرس ضد استراتيجية المراقبة والانتظار التي يبدو أنه تبناها مؤقتا، من خلال تقديم خدمة عسكرية لإسرائيل باستهداف منشأة فوردو التي أعجزت إسرائيل لحد الآن (كان الاحتفاء الإسرائيلي والجمهوري بالضربة كبيرا). 
أما الهدف الثالث فهو رسالة لإيران لتليين موقفها التفاوضي مع الأوربيين، خصوصا بعد الجولة الأولى الفاشلة، إذ أعلن وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي أن المقترحات الأوروبية "غير عملية" (وهي المقترحات التي تعكس الموقف الأميركي بعد التشاور الأوروبي-الأميركي بخصوصها). 
ومن خلال توجيه هذه الضربة، يريد ترمب أن يزيل استباقيا أي آمال إيرانية محتملة بأن الرئيس الأميركي لن يتخذ قرار الحرب بعد انتهاء مهلة الأسبوعين التي أعلنها، بافتراض أنه فقط يلوح بالحرب كتهديد من دون استعداد حقيقي لاتخاذه فعليا.     

 أ ف ب
خريطة عُرضت اثناء مؤتمر صحافي في وزارة الدفاع الاميركية تظهر خط سير الطائرات التي قصفت المنشآت النووية الايرانية في 22 يونيو

في ضوء كل هذه الضغوط والحسابات المختلفة، يبدو أن استثمار ترمب الحقيقي والجدي هو في جنيف، على أمل أن تنتج محادثاتها صفقة سلمية مع إيران تستوفي المتطلبات الأميركية الرئيسة (منع تخصيب اليورانيوم في إيران، وتفكيك الصواريخ الباليستية التي تحمل رؤوسا نووية، وإنهاء "محور المقاومة" الإقليمي). 
مثل هذه الصفقة، التي تجنب إيران حربا مفتوحة ضد خصمين قويين متحالفين ضدها، أميركا وإسرائيل، يمكن أن تعطي ترمب ما يريده: إرضاء قاعدته السياسية الكارهة للحروب الخارجية، وإسكات اعتراضات حلفائه الجمهوريين المهتمين بتفكيك قوة إيران النووية والصاروخية ونفوذها الإقليمي وحماية إسرائيل في ظل الالتزام الرسمي الأميركي بالدفاع عنها، فضلا عن تحقيق الهدف الشخصي لترمب بأن يبدو الرئيس صانعا للسلام ويحافظ على تركته السياسية الخالية من مغامرات عسكرية خارجية تُعرف بدايتها، لكن تبقى نهايتها مجهولة ومفتوحة.

font change

مقالات ذات صلة