إلى أين تدفع الحرب الشرق الأوسط؟

الحرب كشفت تفوق إسرائيل واعتمادها على أميركا

  سارة بادوفان
سارة بادوفان

إلى أين تدفع الحرب الشرق الأوسط؟

لا يزال من غير الواضح إلى أي حد قد يمضي دونالد ترمب في دعمه لإسرائيل في حربها ضد إيران، غير أن التوقعات تشير إلى أن وتيرة القتال ستشهد تراجعا أواخر هذا العام.

من جانبها، لا تبدي إيران رغبة في الانزلاق إلى مواجهة شاملة مع الولايات المتحدة، إذ أخطرت مسبقا بهجومها الصاروخي الانتقامي المحدود في 23 يونيو/حزيران، وهو ما اعتبره ترمب لاحقا تصرفا محسوبا. إلا أن ذلك لا يشير إلى نهاية وشيكة للقتال.

لا تزال إيران متمسكة ببرامجها النووية والصاروخية الباليستية، رافضة السماح بعمليات تفتيش أجنبية موسعة. وقد أسهم استهداف إسرائيل للمؤسسات الأمنية الإيرانية، إلى جانب التصريحات المتكررة للقادة الإسرائيليين ودونالد ترمب، في ترسيخ قناعة لدى ما تبقى من القيادة الإيرانية بأن إسرائيل والولايات المتحدة تسعيان، عاجلا أم آجلا، إلى إسقاط الجمهورية الإسلامية.

ولكن النظام الإيراني لن يسقط في الواقع. والحق أننا لم نشهد قط تغييرا في الأنظمة ينتج عن حملة قصف جوي وصاروخي مهما تكن مكثفة ومستمرة. ولا توجد معارضة مسلحة قوية قادرة على الاستيلاء على مؤسسات الحكومة، كما كان الحال في ليبيا عام 2011 أو في سوريا عام 2024. كما لا توجد شخصية معارضة واضحة يمكن أن تلتف حولها قطاعات واسعة من الإيرانيين، كما سبق وحدث في إيران نفسها عام 1979.

لا شيء استطاع إقناع واشنطن بأن العراق لا يمتلك أسلحة دمار شامل سوى احتلال بغداد وإجراء عمليات التفتيش المباشرة من قبل الخبراء الأميركيين

وبعد سنة من اليوم، قد يكون الزعيم الإيراني واحدا من رجال الدين أو ضابطا في "الحرس الثوري" الإيراني، غير أن طبيعة النظام ستبقى إلى حد كبير على حالها. وسيكفل الهجوم الإسرائيلي، مدعوما بالتأييد الأميركي والأوروبي، بقاء الدولة الإيرانية المترنحة على عدائها لإسرائيل، وإن لم تُظهر العداء للغرب صراحة، فستظل على الأقل غارقة في شكوكها العميقة تجاهه.
ومع انعدام الثقة لدى طهران بأن إسرائيل والولايات المتحدة ستكفّان عن تقويض الحكومة والاقتصاد الإيرانيين، لا ترى طهران أي مبرر للتخلي غير المشروط عن برامجها النووية والصاروخية. كما أنها تمتلك القدرة التكنولوجية على إعادة بناء هذه البرامج، وإن تدريجيا. بل إن الأصوات داخل الجمهورية الإسلامية التي تحثّ على التطوير السريع لسلاح نووي ستنمو أكثر من أي وقت مضى. وبالنظر إلى مثال كوريا الشمالية، قد تستنتج القيادة الإيرانية الباقية أن السلاح النووي وحده يمكن أن يردع التهديدات الخارجية الإضافية للنظام.
وردا على ذلك، سيعتمد الأميركيون والإسرائيليون على معلومات استخباراتية، والتي لا تكون دقيقة دائما، لضرب أي مواقع نووية جديدة مشتبه بها وموظفيها. ستشبه هذه الحملة الجوية، من بعض النواحي، العمليات الأميركية ضد العراق تحت حكم صدام حسين في السنوات الفاصلة بين حرب الكويت والغزو الأميركي عام 2003. ومع ذلك، حذر جيمس أكتون، العالم ورئيس برنامج السياسة النووية في معهد كارنيغي بواشنطن، في صحيفة "نيويورك تايمز" في 19 يونيو/حزيران، من أن أي حملة قصف جوي لم تنجح قط في وقف برنامج نووي بالكامل إذا كانت الدولة المستهدفة مصممة على مواصلته. ولنتذكر أن لا شيء استطاع إقناع واشنطن بأن العراق لا يمتلك أسلحة دمار شامل سوى احتلال بغداد وإجراء عمليات التفتيش المباشرة من قبل الخبراء الأميركيين.

 سارة بادوفان

إن أولئك الذين يدفعون ترمب باتجاه توجيه ضربة عسكرية لإيران يتغافلون باستمرار عن حقيقة أن القضاء الكامل والمضمون على البرامج النووية والصاروخية الإيرانية الداخلية لا يمكن تحقيقه إلا من خلال نشر قوات برية. غير أن ترمب لا يسعى إلى التصعيد العسكري مع إيران، بل يطمح إلى دفعها نحو الاستسلام السياسي على طاولة المفاوضات. ويبقى السؤال المطروح: هل يملك القدرة على إرغامها على القبول بالتفاوض بشأن استسلامها، وفي وقت وجيز؟
ومع ذلك، من المستبعد للغاية أن يُقدم ترمب على السماح بغزو بري واسع النطاق لإيران. ومن المرجّح أن يفضّل توجيه ضربات جوية ما دامت ظروف العمليات منخفضة المخاطر، علما بأنه أبدى سابقا تململه من طول أمد الحملة الجوية ضد الحوثيين في اليمن. كما يُرجح أن يدعم تكثيف الدوريات البحرية، ويتحرك لفرض حظر فعلي على صادرات النفط الإيرانية، بما في ذلك الشحنات المتجهة إلى الصين. ويتمثل هدفه في حرمان الحكومة الإيرانية المعادية من احتياطاتها من النقد الأجنبي. ولئن زاد وقف صادرات النفط الإيرانية من إضعاف طهران وأبطأ محاولاتها لإعادة بناء برامجها النووية والصاروخية، فإنه لن يكون كافيا لشلها تماما.

"الحرس الثوري" الإيراني بات أضعف من الناحيتين المالية والعسكرية، ولن يكون قادرا على الحفاظ على مستوى النفوذ الذي كان يتمتع به في بغداد وجنوب العراق

إسرائيل أقوى... لكن القيود ستظل قائمة

مع تراجع احتمالات تغيير النظام في إيران، ستحتاج إسرائيل إلى دعم أميركي أكبر من أي وقت مضى. فرغم ما حققته القوات الجوية الإسرائيلية من نجاحات بارزة ضد أهداف إيرانية، فقد كشفت المواجهة أيضا عن حدود قدراتها، ولا سيما عجزها عن تدمير المنشأة النووية الإيرانية المحصنة تحت الأرض في فوردو. وإلى جانب ذلك، اضطرت إسرائيل إلى طلب تعزيزات أميركية عاجلة لدعم منظومتها الدفاعية ضد الصواريخ، شملت نشر مدمرة تابعة للبحرية الأميركية قبالة سواحلها، ووحدات إضافية من منظومة "ثاد" (THAAD) للدفاع الصاروخي من المخزون الأميركي المحدود.

وفي ظل هذا الغطاء الأميركي، لن تقتصر إسرائيل على تنفيذ ضربات متفرقة تستهدف مواقع يُشتبه في صلتها بالبرنامج النووي الإيراني، بل ستواصل أيضا سياساتها القمعية تجاه الفلسطينيين، إلى جانب المضي في عملية الضم التدريجي لأجزاء من الضفة الغربية، بينما سيجد الفلسطينيون أنفسهم أمام مستقبل قاتم. وفي الوقت ذاته، تستمر مصداقية إسرائيل ودعمها في التراجع بين أوساط الشباب الأميركيين المؤيدين للحزب الديمقراطي، في منحى واضح منذ نحو عشر سنوات.

والملاحَظ حديثا أن الشباب من الحزب الجمهوري أصبحوا بدورهم أقل تأييدا لإسرائيل، ومن المرجح أن تستمر هيمنة المؤيدين لإسرائيل في الكونغرس خلال السنوات الثلاث المقبلة، إلا أن الأعباء المتزايدة على الميزانية الأميركية، إلى جانب تراجع الإنفاق على البرامج الاجتماعية المحلية، سيعززان من حدة التساؤلات المطروحة بشأن جدوى واستدامة الدعم الأميركي غير المشروط لإسرائيل.

توسيع اتفاقات أبراهام؟

مع انحسار القتال الجاري، ستواجه كل من الكويت وقطر وسلطنة عُمان والمملكة العربية السعودية سلسلة من الحسابات المعقدة، في وقت ستعيد فيه واشنطن طرح مسألة تطبيع العلاقات مع إسرائيل. لقد أعرب ترمب، في خطابه بالرياض بتاريخ 14 مايو/أيار، عن أمله بأن تبادر دول الخليج إلى هذه الخطوة، مع إقراره بأن توقيت ذلك متروك بالكامل لقرارها.

وفي حين أن بعض الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية، مثل الجزائر وتونس واليمن، لن تتجه إلى التطبيع، فإن إسرائيل لا تزال حريصة على إقامة علاقات سياسية وتجارية رسمية مع جميع دول الخليج، ولا سيما السعودية.

ولكن مع ازدياد ضعف إيران بشكل ملحوظ، تتراجع الحاجة الملحّة لدى دول الخليج للتعاون مع إسرائيل لردع تهديدات طهران.

وإذا شعرت حكومات هذه الدول بالضيق من السياسات القمعية التي تنتهجها إسرائيل تجاه الفلسطينيين، فقد تفضّل الإبقاء على مستوى من التعاون الهادئ مع إسرائيل، بدلا من الإقدام على خطوات تطبيعية معلنة.

ومع ذلك، سواء قررت هذه الدول المضي في التطبيع أم لا، فإنها ستسعى إلى تعزيز علاقاتها مع واشنطن، خصوصا مع إدراكها لحجم القدرات العسكرية المتنامية لدى إسرائيل. وفي الوقت نفسه، ستعمل على تنويع خياراتها من خلال توثيق علاقاتها مع قوى عالمية أخرى، من بينها الصين، بل وحتى روسيا.

قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول، كانت هناك نقاشات نشطة بشأن مشروع ممر للنقل يربط بين أسواق البحر الأبيض المتوسط وشبه الجزيرة العربية، وصولا إلى الهند وربما إلى الشرق الأقصى. كما تمتلك كل دولة خليجية بدورها رؤاها وخططها الخاصة لتنويع الاقتصاد وتحفيز النمو. غير أن استمرار القصف الأميركي والإسرائيلي على إيران من شأنه أن يُقوّض جاذبية البيئة الإقليمية للاستثمار، فيما تبقى الضربات الإيرانية، حتى وإن كانت محدودة، مصدر تهديد دائم للاستقرار المطلوب.

وإذا ما قرر ترمب استخدام القواعد الأميركية لشن هجمات مباشرة على أهداف إيرانية، فإن طهران ستصاب بالضعف، لكنها ستكون أكثر عدائية تجاه الدول المجاورة. مثل هذا السيناريو سيقوّض بيئة الاستقرار التي سعت حكومات الخليج إلى ترسيخها من خلال سياسة الانفتاح على إيران، وهي بيئة كانت تهدف في الأساس إلى جذب الاستثمارات الأجنبية. ومن ثم، قد تتجه الفرص الاستثمارية نحو مناطق أخرى، بينها، على سبيل المثال، أميركا اللاتينية التي قد تبدو أكثر استقرارا على المستوى الإقليمي، وبالتالي أكثر جذبا لبعض أشكال الاستثمار طويل الأجل.

وفي هذا السياق، من المرجح أن تواصل دول الخليج الدعوة إلى حل دبلوماسي وسياسي بعد وقف الحرب بين إيران وإسرائيل والولايات المتحدة. إلا أن التوصل إلى اتفاق من هذا النوع يظل منوطا بالأطراف المباشرة في النزاع، ويتطلب حدا أدنى من الثقة المتبادلة، التي تقوضت بفعل الانسحاب المفاجئ لترمب من الاتفاق النووي لعام 2015، ومن ثم اندلاع القتال مجددا بعد الضربة الإسرائيلية على إيران في 13 يونيو، ما يجعل استمرار المواجهة والتصعيد، ولو بوتيرة منخفضة، مرجحا في المستقبل المنظور.

font change