إذا كانت إيران قد خاضت حربها المباشرة الأولى ضد إسرائيل وحيدة من دون وكلائها في "محور الممانعة" وحلفائها في روسيا والصين، فإن "اليوم التالي" للحرب سيكشف مستقبل نفوذ إيران وتداعيات ذلك على النظام الإقليمي الذي تراكم بناؤه منذ انتصار "الثورة" في 1979.
"نهاية نفوذ إيران"، هو عنوان قصة غلاف "المجلة" لشهر يوليو/تموز. قد يكون هناك خلاف بين المراقبين حول درجة تراجع نفوذ طهران في الإقليم وما وراءه، لكن لا خلاف على أنها تلقت ضربة هي الأكبر منذ حوالي نصف قرن. وتوجيه أميركا ضربات إلى منشآتها النووية وحرب الـ12 يوما ليسا إلا تعبيرا عن ذلك.
لوضع الحديث عن نفوذ طهران في سياقه، يمكن العودة إلى عددين سابقين من "المجلة" يتعلقان بإيران. الأول، صدر في أكتوبر/تشرين الأول 2024، أي في الذكرى السنوية الأولى لحرب غزة بعد هجمات "7 أكتوبر". وقتذاك، دخلت الحرب الإسرائيلية ضد "الهلال الإيراني" مرحلتها الثانية. كان شهر سبتمبر/أيلول حافلا بالمفاجآت، بدءاً من الاختراقات الاستخباراتية الإسرائيلية لـ"حزب الله"، وتفجيرات "البيجر" وانتهاءً باغتيال قادة التنظيم، بمن فيهم الأمين العام حسن نصرالله، ما ترك آثارا كبيرة على بنية "الحزب"، رأس حربة "محور الممانعة" ووكيل تمدد نفوذ إيران في "ساحات عربية" عدة.
وبعد انهيار "حزب الله" سقط نظام الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول، وجاء نظام سوري جديد يعارض كليا أي علاقة مع إيران، فخسرت طهران الجسر وخط الإمداد الذي يربط وكلاءها من إيران إلى العراق وسوريا ولبنان، ما شكّل ضربة لاستراتيجية "محور الممانعة".
بذلك انتهت المرحلة الثانية بين إسرائيل وإيران، وانتقل البلدان إلى المرحلة الثالثة، من "حرب الظل" إلى المواجهة المباشرة، وتبادلا القصف في أكتوبر الماضي بعد ضربات أبريل.
خطـأ طهران أنها اعتقدت أن تهديدات ترمب بالعمل العسكري مناورة، أو أنها تشبه تهديدات الرئيس الأسبق باراك أوباما عندما وضع "خطا أحمر" لبشار الأسد بعدم استخدام "الكيماوي"
وفي مايو/أيار، خصصنا غلاف "المجلة" لقرار الرئيس دونالد ترمب بوضع طهران بين خيارين: صفقة أو ضربة. إما اتفاق يتضمن التخلي عن البرنامج النووي العسكري وإما الاستعداد للقصف. اخترنا ذلك بعد رسالة الرئيس الأميركي إلى "المرشد" الإيراني، بضرورة التفاوض واتخاذ قرار خلال ستين يوما. وكتبنا وقتذاك، أنه من الخطـأ أن تعتقد طهران أن تهديدات ترمب بالعمل العسكري مناورة، أو أنها تشبه تهديدات الرئيس الأسبق باراك أوباما عندما وضع "خطا أحمر" لبشار الأسد، لكنه تراجع عن معاقبته عندما استخدم الكيماوي في 2013.
بالفعل، بمجرد انتهاء مهلة الـ 60 يوما، بدأت طائرات إسرائيلية في 13 يونيو/حزيران بقصف مواقع في إيران واندلعت مواجهة عسكرية بينهما بالصواريخ والمسيّرات والاغتيالات. وعلى عكس وعوده الانتخابية وموقف قاعدته الشعبية وخلافا لأسلافه من رؤوساء أميركا الذين اعتمدوا الحل الدبلوماسي، أعطى ترمب الضوء الأخضر لقواته بقصف ثلاث منشآت نووية إيرانية في 22 يونيو/حزيران، وفي 24 من الشهر نفسه، أعلن ترمب وقفا للنار بعد ساعات من قصف استعراضي منسق، شنته إيران على قاعدة العديد الأميركية في قطر.
لم يشارك "حزب الله" وميليشيات إيران في الحرب. كما لم تقدم روسيا والصين الدعم... الوكلاء كانوا يتابعون الحرب على الشاشات، والحلفاء كانوا يدعون إلى عدم التصعيد
لم يشارك "حزب الله"، والميليشيات الشيعية في العراق، والخلايا في سوريا، و"الحوثيون"، و"حماس" في غزة، ووكلاء آخرون، في الحرب إلى جانب إيران. كما لم تهبّ روسيا التي تتلقى دعما إيرانيا في حربها ضد أوكرانيا، ولم تُستنفر الصين التي تتزود بالنفط الإيراني. الوكلاء كانوا يتابعون الحرب على الشاشات والحلفاء كانوا يدعون إلى حل سياسي وعدم التصعيد.
هذه هي النتيجة الأولى. النتيجة الثانية، هناك سيناريوهات عدة لـ"اليوم التالي" في إيران، لكن الأكيد أنها ستكون مشغولة بوضعها الداخلي لسنوات طويلة. صحيح أن قادتها يعلنون "الانتصار" ضد إسرائيل وأميركا، وهذا كان جزءا من تفاهمات وقف النار، أي إعطاء فرصة "حفظ ماء الوجه" والعقلانية، لكن أغلب الظن أن المواجهة بين تل أبيب وطهران ستستمر بضربات واغتيالات.
بعد الحرب ستكون إيران مشغولة بهمومها. الأولوية للداخل على حساب نفوذ الخارج. المهم تعاطي الإقليم بعقلانية وحكمة مع هذا التحول الكبير
صدام حسين بعد تحرير الكويت في 1991، روّج لفكرة "أم المعارك" وكان مشغولا بمعاركه مع المفتشين الدوليين على أسلحة الدمار الشامل، ومتوجسا من انقلاب داخلي طوال عقد التسعينات، إلى أن حصل الغزو وتغير في 2003.
طهران "المنتصرة" في 2025 ستكون مشغولة بمفاوضاتها مع القوى الكبرى واحتمال فرض عقوبات أوروبية في أغسطس/آب في حال عدم إبرام اتفاق يتضمن الرقابة على البرنامج النووي ومعرفة مصير الـ408 كيلوغرامات من اليورانيوم المخصب. وقد تحاول القيادة الإيرانية اتباع نموذج كوريا الشمالية في الانغلاق وامتلاك قنبلة نووية كـ"ضمانة للنظام".
أي سيناريو ستسلكه إيران بعد الحرب؟
ستكون مشغولة بتداعيات الاغتيالات في "الحلقة الضيقة" وضربات مفاصل النظام، وقلقة من طموحات معارضيها التي استيقظت بعد الحرب، ومتوجسة من اتساع المطالبات والمساءلة عن أسباب الحرب ونتائجها الحقيقية.
أولوية إيران بعد الحرب، ستكون للداخل على حساب نفوذ الخارج. المهم تعاطي الإقليم بعقلانية وحكمة مع هذا التحول الكبير. وهذا يستحق أن يكون غلاف "المجلة" لشهر يوليو.