هجرة الأطباء من مصر... بين ضعف الرواتب والقيود الحكومية

كفاءات وطنية بين مرارة خيارات الرحيل وواقع لا يليق بقدسية المهنة

لينا جرادات
لينا جرادات

هجرة الأطباء من مصر... بين ضعف الرواتب والقيود الحكومية

يتعرض الأطباء في مصر، خصوصاً المتخرجين حديثا، إلى ضغوط هائلة تبدأ من غياب الحد الأدنى من الإمكانات في المستشفيات الحكومية، ولا تنتهي عند تدني الرواتب مقارنة بما يبذلونه من جهد. فهؤلاء الأطباء، وبعد سنوات طويلة من التحصيل العلمي والدراسة الشاقة، يجدون أنفسهم مجبرين على نوبات عمل قد تصل إلى 36 ساعة متواصلة، في مقابل رواتب لا تتجاوز في أفضل الأحوال بضع مئات من الجنيهات. يتراوح راتب طبيب الامتياز، مثلا، بين 2,800 و3,200 جنيه شهريا (ما يعادل 56 إلى 64 دولارا فقط)، وهو مبلغ لا يكفي حتى لتغطية مواصلات الطبيب اليومية أو أكله وشربه، ناهيك عن إيجار مسكن أو مساعدة أسرته.

ولا يختلف حال الطبيب المختص كثيرا، إذ يتقاضى بين 6,000 إلى 8,000 جنيه (ما يعادل 120 إلى 160 دولارا)، على الرغم من أنه قد يضطر إلى العمل في أقسام الطوارئ والجراحة والعناية المركزة التي تتطلب جهدا مضاعفا. أما الطبيب الحاصل على الدكتوراه، فلا يزيد راتبه الشهري في القطاع الحكومي على 200 دولار، مما يدفعه إلى البحث عن عمل إضافي في القطاع الخاص أو التفكير الجدي في الهجرة.

يأتي هذا الضغط المعيشي في ظل موجات غلاء متلاحقة تطاول نواحي الحياة كلها في مصر، من أسعار المواد الغذائية إلى الطاقة والإيجارات. في بيئة كهذه، يبدو خيار الاستقالة أو الهجرة ملاذا شبه وحيد لكثير من الأطباء الشباب ممن فقدوا الأمل في التغيير القريب. يُذكَر أن أكثر من 60 في المئة من الأطباء المصريين باتوا يعملون في الخارج، وفق وزارة الصحة المصرية، في حين تتزايد أعداد الأطباء الذين يتقدمون باستقالاتهم من وزارة الصحة سنويا بغرض السفر، بحسب نقابة الأطباء.

قوانين مقترحة أم قيود غير دستورية؟

أمام هذا الواقع، قدم عدد من أعضاء البرلمان مقترحات مثيرة للجدل تهدف إلى تقييد حركة الأطباء بعد التخرج، أبرزها فرض مدة إلزامية من ثلاث إلى خمس سنوات للعمل داخل مصر، وفرض رسوم مالية على من يرغب بالسفر، تحت شعار "رد الدين إلى الدولة" التي موّلت تعليمهم الجامعي.

نحو 260 ألف طبيب مسجلون في نقابة الأطباء، من بينهم 120 ألفا يعملون في الخارج، واستقال في 2022 نحو 7 آلاف طبيب من القطاع الحكومي، في وقت تعاني المستشفيات من نقص في تخصصات التخدير والرعاية المركزة

لكن هذه المقترحات واجهت رفضا حادا من نقابة الأطباء، ومن قانونيين وخبراء، مؤكدين أنها تتناقض مع نص المادة 62 من الدستور المصري التي تكفل حرية التنقل والسفر. واعتبروا أن حل الأزمة يجب أن يبدأ من تحسين البيئة الداخلية للأطباء، وليس في فرض قيود على حريتهم.

تؤكد الإحصاءات الرسمية حجم الكارثة: نحو 260 ألف طبيب مسجلون في نقابة الأطباء، من بينهم 120 ألفا يعملون في الخارج، فيما شهد عام 2022 وحده استقالة 7 آلاف طبيب من القطاع الحكومي، في وقت تعاني فيه المستشفيات من نقص شديد في التخصصات الحرجة مثل التخدير والرعاية المركزة.

أ.ف.ب.
طبيبة مصرية تفحص عينات طبية، في جامعة عين الشمس في القاهرة 29 يونيو 2020

يرى القانونيون أن إلزام الأطباء البقاء والعمل داخل البلاد، من دون توفير ظروف مناسبة أو تعويضات عادلة، يمثل ضربا من التعدي على الحقوق الأساسية للإنسان، ويخالف كل الأعراف الدولية المتعلقة بحرية العمل والتنقل.

الأرقام لا تعني الاكتفاء

في المقابل، حاول رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي تخفيف حدة الأزمة، مؤكدا أن الحكومة تسعى إلى زيادة عدد متخرجي كليات الطب من 10 آلاف إلى 29 ألف متخرج سنويا خلال السنوات الست المقبلة. واعتبر أن سفر جزء من هؤلاء الأطباء للعمل في الخارج لا يشكل أزمة، بل فرصة جيدة لتحقيق عائد اقتصادي من تحويلات العاملين في الخارج، التي بلغت وفق المصرف المركزي نحو 20 مليار دولار خلال سبعة أشهر فقط من السنة المالية 2024-2025.

أن فرض الخدمة الإلزامية لا يحل الأزمة، بل يعمّقها، لأنه يقلل حافز الأطباء للبقاء ويؤدي إلى تدني جودة الخدمة

الدكتور خالد نجيب، استشاري الأورام في جامعة عين شمس

لكن هذه النظرة الاقتصادية البحتة تغفل جانبا مهما، وهو الحاجة الماسة إلى هذه الكوادر داخل مصر. فمعدل الأطباء في مصر لا يتجاوز تسعة أطباء لكل 10 آلاف مواطن، وهو ما يقل كثيرا عن المعدل العالمي الذي يبلغ 23 طبيبا لكل 10 آلاف نسمة. وفي بلد يتجاوز عدد سكانه 107 ملايين نسمة، ينعكس هذا العجز مباشرة على جودة الرعاية الصحية وعلى فترات انتظار المرضى، ولا سيما في المناطق النائية والريفية.

حذرت نقابة الأطباء من أن التوسع في إنشاء كليات الطب الخاصة والأهلية من دون توسع موازٍ في المستشفيات الجامعية، سيؤدي إلى تدهور جودة التعليم الطبي. وقد أصبح واضحا أن الجامعات الخاصة، على الرغم من ارتفاع رسومها التي تصل إلى 400 ألف جنيه (8 آلاف دولار سنويا، لا تقدم بالضرورة التدريب العملي الكافي، مما يضر بمستوى المتخرجين ويجعلهم أقل تأهيلا للمنافسة في سوق العمل المحلي أو الدولي.

الذكاء الاصطناعي... هل يحل مكان الطبيب؟

وسط هذا الجدل، يطرح البعض تساؤلا عن مستقبل مهنة الطب في ظل تسارع وتيرة التطور التكنولوجي. فقد أعلنت الصين أخيرا افتتاح أول مستشفى في العالم بطاقم طبي كامل من الروبوتات التي تعمل بالذكاء الاصطناعي، فيما بدأت مؤسسات طبية كبرى في دبي بتقليص حاجتها إلى الموظفين إلى نحو الصفر، اعتمادا على أنظمة ذكية قادرة على اتخاذ قرارات تشخيصية وعلاجية دقيقة.

رويترز

يثير هذا التوجه مخاوف من أن بعض تخصصات الطب قد تصبح مهددة بالانقراض، أو على الأقل بالدمج مع تقنيات جديدة تستدعي إعادة تأهيل الأطباء. لكن في المقابل، يرى خبراء أن الأطباء المصريين لا يزالون يمتلكون ميزات تنافسية مهمة، أبرزها خبرتهم في التعامل مع الأمراض المزمنة وحالات الطوارئ المعقدة في بيئات ذات إمكانات فقيرة، وهي خبرات نادرة يبحث عنها كثير من المستشفيات في الدول العربية والأفريقية وحتى الأوروبية.

وأكد الدكتور خالد نجيب، استشاري الأورام في جامعة عين شمس، لـ"المجلة" أن فرض الخدمة الإلزامية "لا يحل الأزمة، بل يعمّقها، لأنه يقلل حافز الأطباء للبقاء ويؤدي إلى تدني جودة الخدمة". وطالب بضرورة "تحسين بيئة العمل، وتوفير دعم لوجستي ومهني للأطباء في المناطق النائية، وزيادة الاستثمار في التعليم الطبي المستمر".

الحل الحقيقي يبدأ من رفع الرواتب

يرى المحامي بالنقض المستشار أسامة ضيف أن المشكلة تبدأ من تدني الرواتب وسوء بيئة العمل، متسائلا: "لماذا لا يهرب العاملون في قناة السويس أو شركات النفط أو هيئة القضاء؟". الإجابة، في رأيه، بسيطة: "لأن هذه القطاعات توفر بيئة عمل جيدة، ورواتب مجزية، وتأمينا وظيفيا، أما في القطاع الصحي الحكومي، فلا توجد بيئة عمل مؤهلة، ولا أجر يتناسب مع حجم الجهد، ولا حتى أدوات أساسية للقيام بالواجب المهني".

الأطباء المصريون لا يهربون من المسؤولية، بل يُدفعون دفعاً إلى خارج البلاد، في ظل نظام لا يرى فيهم سوى أرقام في جداول الرواتب

وأكد أن الطبيب الشاب يحتاج إلى دخل يمكنه من الزواج وتأسيس أسرة، مشددا على أن إجباره على العمل خمس سنوات عقب التخرج (وبعد أداء الخدمة العسكرية) يشبه "سجنه" داخل نظام عاجز عن منحه أبسط حقوقه المهنية والمعيشية. ورأى أن "حل هذه المشكلة المزمنة هو إصلاح بيئة عمل الطبيب لتوازي المستشفيات الخاصة وتعديل البدل المادي ليتناسب مع احتياجاته الإنسانية".

من جهة أخرى، شدد خبراء اقتصاديون تحدثت إليهم "المجلة" على أن تحسين المنظومة الصحية لا يتحقق عبر القوانين وحدها، بل يتطلب رؤية شاملة تشمل زيادة الإنفاق الحكومي على الصحة، وتحسين البنية التحتية للمستشفيات، وتخفيف الضغط على الكوادر الطبية من خلال التوظيف العادل، وتوفير حوافز مادية ومعنوية تحترم مكانة الطبيب وتقدّر تضحياته.

جامعة عين شمس
المستشفى التخصصي في جامعة عين شمس الجامعي في القاهرة، 12 سبتمبر 2024

وفي وقت تتقاضى الجامعات الحكومية 1,200 جنيه (24 دولارا) فقط كرسوم سنوية من الطلاب المصريين، فإنها تقدم لهم تعليما عالي المستوى وتدريبا عمليا ممتازا، مما يجعل متخرجيها مؤهلين بكفاءة عالية، وفق الخبراء. ومع ذلك، أضافوا، يدفع غياب البيئة الجاذبة بعد التخرج بكثيرين منهم إلى البحث عن فرص في الخارج، حيث الرواتب أعلى، والاحترام المهني أكبر، والتأمين الصحي متوفر، وفرص التطور المهني أوسع.

الطبيب لا يهاجر... بل يُهجَّر

في المحصلة، لا أحد يريد مغادرة وطنه، ولا طبيب يتمنى أن يترك أهله وبلده وزملاءه. لكن حين يغيب التقدير، وتُهدَر الكرامة، وتُغلق أبواب الأمل، تصبح الهجرة فعلا دفاعيا لا عدوانيا. الأطباء المصريون لا يهربون من المسؤولية، بل يُدفعون دفعا إلى خارج الحدود، في ظل نظام لا يرى فيهم سوى أرقام في جداول الرواتب.

لذلك، لا يبدأ الإصلاح الحقيقي بتقييد السفر، بل بإصلاح الداخل: الأجور، بيئة العمل، الدعم النفسي، الأمن الوظيفي، والتقدير المجتمعي. وحدها هذه الإصلاحات كفيلة بإقناع الأطباء بالبقاء، وخدمة وطنهم بكرامة وكفاءة، في وطن يتجاوز 107 ملايين نسمة، إلى جانب الضيوف الوافدين الذين يتجاوز عددهم 9.5 ملايين.

font change