بعض الشعراء مروا في تاريخ الأغنية المصرية، بلا ضجيج ولا شهرة توازي حجم مواهبهم الفذة، لكننا لا نزال نردد كلماتهم رغم مرور الزمن. نغنيها في لحظات الفرح والانكسار، ونحتمي بها من صخب العالم. إنهم "الأسطوات"، الشعراء الغنائيون الذين صنعوا وجدان الناس بأغنيات لمناسبات دينية مثل "وحوي يا وحوي" لحسين السيد و"تم بدري" للشاعر عبد الفتاح مصطفى. أو مناسبات وطنية مثل "الله أكبر بسم الله" و"ع الربابة" للشاعر عبد الرحيم منصور، وأغنيات رومانسية مثل "أنا هويت وانتهيت" لبديع خيري و"أهو دا اللي صار" للشيخ يونس القاضي و"أهواك" و"ظلموه" للشاعر حسين السيد.
حرفيون مهرة
يستعير الشاعر ميسرة صلاح الدين في كتابه الأحدث "الأسطوات"، عنوان كتابه من مفردة شعبية، "أسطى"، ذات أصول تركية (Usta)، التي تطورت دلالاتها من الحرفي الماهر إلى الفنان الذي يتقن صناعته. هذه الاستعارة ليست مجرد تورية لغوية، بل هي زاوية الرؤية التي بُني عليها هذا الكتاب. ينحاز المؤلف إلى الهامش المضيء في تاريخ الفن المصري، حيث يقف "الأسطى" أو الشاعر الغنائي خلف الستار، ممسكا بخيوط المشهد. فهؤلاء الشعراء لم يكونوا، مجرد كتّاب أغان، بل هم حرفيون مهرة صنعوا بالكلمات جسورا بين الشعب وتاريخه، بين الوجدان والجغرافيا، بين السياسة والفن. ولعل ما يميز الكتاب أنه ليس تأريخا فحسب لسِيَر شعراء الأغنية المصرية في العصر الحديث، بل هو محاولة واعية لإعادة الاعتبار الى طبقة من المبدعين شكلوا وجدان أمة، دون أن تُنحت أسماؤهم في ذاكرة الجماهير بقدر ما يليق بموهبتهم.
يحاول المؤلف استعادة التاريخ دون أن يمضي في خط زمني صارم، لكنه محكوم بانتقائية يلتقط عبرها أهم الشعراء الذين ساهموا في صوغ الهوية الغنائية المصرية، بداية من بديع خيري ومأمون الشناوي وحسين السيد وفتحي قوره ومرسي جميل عزيز وعبد الفتاح مصطفى وحسن أبو عتمان وعبد الرحيم منصور، وصولا إلى عصام عبد الله وسامح العجمي. لكل منهم عالمه الخاص ولغته وحساسيته الجمالية وانحيازاته الطبقية والفكرية.