"الأسطوات" يستعيد سير الشعراء الذين حققوا نهضة الأغنية المصرية

صنعوا جسورا بين الشعب وتاريخه

Nesma Moharam
Nesma Moharam

"الأسطوات" يستعيد سير الشعراء الذين حققوا نهضة الأغنية المصرية

بعض الشعراء مروا في تاريخ الأغنية المصرية، بلا ضجيج ولا شهرة توازي حجم مواهبهم الفذة، لكننا لا نزال نردد كلماتهم رغم مرور الزمن. نغنيها في لحظات الفرح والانكسار، ونحتمي بها من صخب العالم. إنهم "الأسطوات"، الشعراء الغنائيون الذين صنعوا وجدان الناس بأغنيات لمناسبات دينية مثل "وحوي يا وحوي" لحسين السيد و"تم بدري" للشاعر عبد الفتاح مصطفى. أو مناسبات وطنية مثل "الله أكبر بسم الله" و"ع الربابة" للشاعر عبد الرحيم منصور، وأغنيات رومانسية مثل "أنا هويت وانتهيت" لبديع خيري و"أهو دا اللي صار" للشيخ يونس القاضي و"أهواك" و"ظلموه" للشاعر حسين السيد.

حرفيون مهرة

يستعير الشاعر ميسرة صلاح الدين في كتابه الأحدث "الأسطوات"، عنوان كتابه من مفردة شعبية، "أسطى"، ذات أصول تركية (Usta)، التي تطورت دلالاتها من الحرفي الماهر إلى الفنان الذي يتقن صناعته. هذه الاستعارة ليست مجرد تورية لغوية، بل هي زاوية الرؤية التي بُني عليها هذا الكتاب. ينحاز المؤلف إلى الهامش المضيء في تاريخ الفن المصري، حيث يقف "الأسطى" أو الشاعر الغنائي خلف الستار، ممسكا بخيوط المشهد. فهؤلاء الشعراء لم يكونوا، مجرد كتّاب أغان، بل هم حرفيون مهرة صنعوا بالكلمات جسورا بين الشعب وتاريخه، بين الوجدان والجغرافيا، بين السياسة والفن. ولعل ما يميز الكتاب أنه ليس تأريخا فحسب لسِيَر شعراء الأغنية المصرية في العصر الحديث، بل هو محاولة واعية لإعادة الاعتبار الى طبقة من المبدعين شكلوا وجدان أمة، دون أن تُنحت أسماؤهم في ذاكرة الجماهير بقدر ما يليق بموهبتهم.

يحاول المؤلف استعادة التاريخ دون أن يمضي في خط زمني صارم، لكنه محكوم بانتقائية يلتقط عبرها أهم الشعراء الذين ساهموا في صوغ الهوية الغنائية المصرية، بداية من بديع خيري ومأمون الشناوي وحسين السيد وفتحي قوره ومرسي جميل عزيز وعبد الفتاح مصطفى وحسن أبو عتمان وعبد الرحيم منصور، وصولا إلى عصام عبد الله وسامح العجمي. لكل منهم عالمه الخاص ولغته وحساسيته الجمالية وانحيازاته الطبقية والفكرية.

ليس تأريخا فحسب لسِيَر شعراء الأغنية المصرية في العصر الحديث، بل هو محاولة واعية لإعادة الاعتبار الى طبقة من المبدعين شكلوا وجدان أمة، دون أن تُنحت أسماؤهم في ذاكرة الجماهير

يساهم الكتاب في مقاومة النسيان بالتوثيق، فلم يتناول الأسماء الشهيرة فقط، بل منح مساحات رحبة لأصوات لم تنصف نقديا مثل فتحي قورة وحسن أبو عتمان وعبد الفتاح مصطفى. وبهذا يصبح "الأسطوات" عملا يجمع بين التأريخ ومقاومة للذاكرة الانتقائية التي تميل إلى النجومية وتغفل ما دونها.  

ففي فصل خصص للشاعر عصام عبد الله، يقول المؤلف: "الحقيقة أنه في عالم الفن لا توجد محددات واضحة لرسم العلاقة بين الموهبة وحجم النجاح والحظ والشهرة، ولا يمكن كذلك إيجاد عوامل مؤكدة ترسم المسار بين حجم الإبداع الذي يتمتع به الفنان وعدد الأعمال التي شارك بها وانتقلت باسمه للعالم". فالشاعر عصام عبد الله كان له أثر كبير على المسيرة الغنائية لعدد من المطربين مثل محمد منير وأنغام وعمرو دباب. ولكنه مع الأسف حين أراد أصدقاؤه تأبينه وجمع ما كتب عنه لم يجدوا سوى مقال واحد منشور بمجلة "صباح الخير" تحت عنوان "شيخ الشباب الذي رحل مبكرا"، ومن العنوان ندرك أن المقال الوحيد الذي كتب عنه نشر بعد وفاته.

منظور ثقافي

وفي كل فصل، يكشف ميسرة عن موهبته في تحليل الأغنية نفسها، كيف كُتبت، وما خلفيتها، وما علاقتها بالتحولات السياسية مثل أغنية "قوم يا مصري" لبديع خيري في مواجهة الاستعمار، أو التحولات الاجتماعية مثل "السقايين" كتعبير عن الصراع الدائر وقتها بين أصحاب المهنة وشركة المياه والشرب التي أنشأها الخديوي إسماعيل. هذا يثري الكتاب بمنظور ثقافي عميق، ويجعل الأغنية وثيقة اجتماعية لا مجرد منتج فني.

وبين الشعراء الذين يتناولهم الكتاب، الشاعر حسين السيد، أهم زجال في مصر قدم مع "ثلاثي أضواء المسرح" سمير غانم وجورج سيدهم والضيف أحمد أشهر أغنياتهم التي ما زلت حاضرة في ذهن عدد كبير من الجمهور مثل "كيوبيد للبيع". فيلقي الكتاب الضوء على قدرة الشاعر حسين السيد على الإنتاج الغنائي المتنوع بين الإسكتش الكوميدي والأغنية العاطفية مثل الأغنية الأيقونة "أهواك" لعبد الحليم حافظ.

أما سامح العجمي، فقصته أكثر حزنا وشجنا. بدأ شاعرا غنائيا متحمسا، ارتبط اسمه بالمطرب الإسكندري مصطفى قمر، وشكلا ثنائيا ناجحا ومرحلة جديدة في الأغنية المصرية في تسعينات القرن الماضي، لكن القدر لم يمهله إذ توفى قبل أن يطبع ديوانه الأول. آخر أغنية كتبها "وفي زحمة الأيام"، كأنها رسالة أخيرة من شاعر ترك أثرا رقيقا في الأغنية المصرية.

لم يكتف بسرد الأحداث التاريخية، بل كتب بروح الشاعر الشغوف الساعي إلى معرفة السياق المحيط بإنتاج الأغنية، والوقائع السياسية والاجتماعية التي ساهمت في تشكيلها

ولعل أهم ما يميز هذا الكتاب أن المؤلف لم يكتف بسرد الأحداث التاريخية، بل كتب بروح الشاعر الشغوف الساعي إلى معرفة السياق المحيط بإنتاج الأغنية، والوقائع السياسية والاجتماعية التي ساهمت في تشكيلها. فالأغنية كما يراها الكاتب ليست منتجا جماليا فقط، بل نص مواز للتاريخ الرسمي. علاوة على ذلك استخدم الكاتب لغة سلسة أنيقة خالية من التعقيد كما مزج بين السرد والتحليل والاقتباس، وهو ما خلق عملا سيجد فيه القارئ غير المختص متعة كبيرة.

يتعامل ميسرة صلاح الدين مع الحكاية لا بوصفها سردا فقط، بل بوصفها بنية جمالية تعكس العلاقة بين الفنان والسلطة والجمهور. وفي ثنايا السرد، تظهر ملامح الزمن والمقاهي والمسارح والجرائد والنكتة السياسية، والأغنية بوصفها سلاحا سلميا في وجه الاحتلال، أو ترياقا شعبيا في وجه الانكسار. وهو ما أعطى العمل بُعدا إضافيا، بين السياسة وحالة المجتمع المصري وعلاقته بالفن والمسرح.

ولعل غياب نبرة التقديس، وحضور الحس النقدي دون إغراق في التنظير أضافا الكثير الى قيمة الكتاب الذي يتوقف عند تفاصيل قد تغيب عن كتب التأريخ الجافة، مثل توتر العلاقة بين بديع خيري ونجيب الريحاني، أو تقلبات أفكار الشعراء تجاه الشهرة، والتجاهل النقدي والإعلامي. كما أن التحليل لا يغيب عن النصوص الغنائية نفسها. ففي كل فصل نجد قراءة ذكية لأغنية أو مونولوغ، تفكك رموزه، وتربط مفرداته بالخطاب العام السائد وقتها، وتكشف عن بُعد طبقي أو سياسي أو لغوي كامن خلف الكلمات.

صدر كتاب "الأسطوات... عن سيرة وأعمال شعراء الأغنية في العصر الحديث" في 266 صفحة مطلع هذا العام عن "دار ريشة" بالقاهرة، ومؤلفه ميسرة صلاح الدين، المولود في الإسكندرية عام 1979، صدرت له أعمال عدة من بينها ديوان "شباك خجل" وديوان" أرقام سرية"، بالإضافة إلى مسرحية "ترام الرمل" ومسرحية "جراج الأوبرا".

font change