تحولت عاشوراء- أي يوم استشهاد الإمام الحسين بن علي في موقعة كربلاء- لدى الشيعة الاثنى عشرية، مع مرور الأزمان وتعاقب الأمم والممالك، إلى مرجع رمزي ووسيلة لرص صفوف الجماعة ولإضفاء القداسة على أي صراع سياسي أو عسكري يخوضونه، ذلك أن الشهادة بمعناها القيمي الديني، اكتسبت زخمها الأكبر في الوجدان الشيعي من عاشوراء، لا يعني هذا أن مفهوم الشهادة لم يكن حاضرا قبل هذا التاريخ، لكن مذهبة الشهادة بشكلها العقدي لم تتحقق إلا بعد هذه الموقعة.
"حزب الله" اللبناني، كحزب ديني عقائدي، اتكأ على رمزية عاشوراء، وأعاد إنتاجها بطريقة عاطفية وشعبوية، ثم حولها إلى طقس مذهبي تصعيدي، وأداة تعبئة أيديولوجية، بغرض الاستنفار السياسي، وخوض الحروب الداخلية والخارجية، خدمة لمشروع سياسي إقليمي يتجاوز قدرة الشيعة كلهم على تحقيقه. وأنشأ بفضلها جيشا من المؤدلجين والمقاتلين المستعدين للشهادة قبل النصر: أنت على حق مثل الحسين طالما أنك تتبع "حزب الله"، وأنت تقاتل الظلم مثل الحسين أيضا طالما أنك تقاتل معه عدوه- أي عدو كان- وأنت شهيد مثل الحسين إن قُتلت في معارك "الحزب"، وهكذا صار من يتبعه يمشي في طريق الحق، ومن يقف ضده أو خارج صفه، هو حكما مع الباطل وخارج العقيدة الشيعية.
ما الغرض من سيرة عاشوراء واستشهاد الإمام الحسين الآن؟ في ظل التوترات الأمنية التي لا يعرف اللبنانيون دولة وشعبا وأحزابا وطوائف إلى أين ستقودهم.
وبالتزامن مع الضغوط الأميركية والإسرائيلية المتصاعدة على الحكومة اللبنانية، بشأن تقديم جدول نهائي بمواعيد تسليم "حزب الله" سلاحه في شمال نهر الليطاني قبل جنوبه، وعشية عودة الموفد الأميركي توم باراك إلى لبنان، أحيا الشيعة في لبنان ذكرى استشهاد الإمام الحسين. وفي خطاب المجلس العاشورائي، أعلن الأمين العام لـ"حزب الله" الشيخ نعيم قاسم أن حزبه جاهز لمواجهة إسرائيل وأن الملائكة ستقاتل معه. وبدا مبتسما متفائلا مستعدا للشهادة متأكدا من النصر، ومتماهيا مع ما قاله الأمين العام السابق حسن نصرالله مرةً: "نحن حين ننتصر ننتصر وحين نستشهد ننتصر".
أجواء عاشوراء، القتال والشهادة و"انتصار الدم على السيف"، والفئة القليلة التي واجهت بشجاعة منقطعة النظير، الفئة الكثيرة المدججة، تسيطر على تصريحات "حزب الله" السياسية
ربما أثرت عواطف عاشوراء على الشيخ نعيم فقال ما قاله، ربما هناك مناورة إيرانية جديدة، دفعت "حزب الله" إلى المراوغة بانتظار أن يظهر الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وربما هناك بوادر مغامرة جديدة، فـ"حزب الله" سبق أن أخذ البلاد والعباد إلى مغامرات تدميرية أكثر من مرة، آخرها كانت "حرب الإسناد" التي قضت عليه أولا، وعلى الشيعة ومناطقهم، وعلى لبنان بشكل عام.
أجواء عاشوراء، القتال والشهادة و"انتصار الدم على السيف"، والفئة القليلة التي واجهت بشجاعة منقطعة النظير، الفئة الكثيرة المدججة، تسيطر على تصريحات "حزب الله" السياسية وتزخمها، وعلى مواقف بيئته الأكثر منه تمسكا بالسلاح، لذلك تمر الساعات القليلة قبل وصول الموفد الأميركي على اللبنانيين، كما مرت الساعات الأخيرة من عمر الإمام الحسين قبل استشهاده، وكأن اللبنانيين كلهم يرددون مع الشيعة في ساحات العزاء "يا ليل طول ساعاتك"، لاستبعاد طلوع الصباح الذي سيشهد مقتل إمامهم، خاصة وأن "حزب الله" حتى الساعة، ما زال مشغولا بإحياء المناسبة، ولم يصدر عنه أي رد حاسم. حليفه رئيس مجلس النواب وزعيم حركة "أمل" نبيه بري وعد خيرا، لكن وسيلة إعلامية ناطقة باسم "الحزب"، بطريقة غير مباشرة نفت كلامه.
وإمعانا في تعقيد المشهد، خرجت مظاهرة مسلحة في منطقة يسكنها الشيعة في بيروت، حمل فيها شبان تابعون لـ"حزب الله" بنادق كلاشينكوف، ليبعثوا رسالة من قلب بيئة "حزب الله"، مفادها: نحن متمسكون بالسلاح وغير ملزمين بتسليمه، ولن نخضع لما جاء في اتفاق وقف إطلاق النار، ونحن على استعداد لخوض جولة حرب جديدة نعرف أنها لن تحقق لنا إلا "الاستشهاد"، سيرا على خطى الإمام الحسين.
أكثر ما يخشاه اللبنانيون، أن تكون هذه المسرحية المسلحة بمثابة إشارة لصفقة أميركية جديدة، فمن الواضح أن إشهار هذه البنادق هو بوجه الداخل، ورسالة من "الحزب" إلى الشعب اللبناني، يعلن فيها أنه إذا سلم سلاحه الثقيل نزولا عند الأوامر الأميركية والإسرائيلية، سيبقى في الداخل "حزب السلاح" الذي يملك وحده حق القوة ورخصة القتل.
أكبر المخاوف أن تنتهي الجولة التفاوضية الجديدة في بيروت، كما انتهت الحرب على إيران، أي: يبقى النظام طالما لم يعد يملك ما يقلق أمن إسرائيل، ويبقى السلاح الخفيف بيد "الحزب" طالما كان بعيدا عن حدود إسرائيل!