تاكوبوكو أو الشاعر بوصفه إنسانا عاديا

يومياته المترجمة إلى الفرنسية تنير محفزات حياته وشعره

تاكوبوكو أو الشاعر بوصفه إنسانا عاديا

"اعتبار الشعر شيئا نبيلا وساميا هو شكل من التعبد الوثني. لا ينبغي أن يكون الشعر ما اعتدنا تسميته شعرا. يجب أن يكون عرضا دقيقا، دفتر يوميات صادقا، للتقلبات في حياة الإنسان الوجدانية". هذه الفقرة كتبها الشاعر الياباني إيشيكاوا تاكوبوكو (1886 – 1912) في بحثه "قصائد للأكل" (1909)، وتشكل خير تلخيص لمسعاه الكتابي الذي قلب الشعر الياباني رأسا على عقب وشرع أمامه أبواب الحداثة.

من هنا اعتبار تاكوبوكو رائد الشعر الياباني الحديث بلا منازع، وتلقيبه بـ"رامبو الياباني"، علما أن مقارنته بصاحب "فصل من الجحيم" لا ترتكز فقط على تثويره كتابة الشعر في وطنه، شكلا ومضمونا، كما لم يفعل أي شاعر قبله. فمثل رامبو، إنه أيضا شاعر الفتوة والتمرد، وصاحب ديوانين شعريين فقط كتبهما باكرا، قبل أن يرحل عن هذه الدنيا في سن السادسة والعشرين. عملان تخلى فيهما عما تحكم بكتابة الشعر في اليابان حتى وصوله، أي هاجس التأمل في الطبيعة المتحولة أبدا، واستلهامها، لصالح التأمل في المدينة الحديثة وتقلبات الحياة اليومية فيها، ومن خلال ذلك، الامساك بهشاشة الإنسان وبؤسه.

اليوميات وتثوير اللغة

لكن عبقرية تاكوبوكو لا تقتصر على هذا الإنجاز، بل تتجلى أيضا في تثويره كتابة نوع أدبي آخر هو اليوميات، كما يتبين في كتابه "ربيع في هونغو، يوميات بحروف لاتينية" (1909)، الذي صدرت ترجمته الفرنسية الأولى حديثا عن دار "أرفوين" (توقيع ألان غوفري)، ويشكل "نصا فريدا من نوعه ليس فقط داخل عمل صاحبه الكتابي، بل أيضا في تاريخ الأدب الياباني"، وفقا للباحث والناقد الفرنسي بول دوكوتينيي الذي خط مقدمة له في هذه المناسبة تنير ظروف كتابته. نص تكمن قيمته في ذاته، كعمل أدبي مستقل، وأيضا في تشكيله مرجعا ثمينا لفهم سيرورة انبثاق مشروع تاكوبوكو الشعري ومحفزاته، وطبيعة شخصيته الفريدة.

في هذه المقدمة، نعرف أن تاكوبوكو بدأ كتابة هذه اليوميات في مرحلة من حياته كان يعاني فيها من إخفاقات متنوعة، وبالتالي لم يكن لديه ما يخسره: "أعتقد أن الوقت حان لأنفصل عن أصدقائي القدامى – نعم، أصدقائي القدامى – وأشيد منزلي الخاص. كل ما علي أن أفعله هو التصرف كما يحلو لي، الذهاب حيثما أشاء، في اختصار، تلبية حاجاتي. نعم، لا شيء سوى ما أريده!".

بدأ تاكوبوكو كتابة هذه اليوميات في مرحلة من حياته كان يعاني فيها من إخفاقات متنوعة، وبالتالي لم يكن لديه ما يخسره

صحيح أن تاكوبوكو سار على نهجه دائما، لكن في تلك المرحلة، شعر بضرورة الذهاب أبعد من ذلك، "كسر القالب". هكذا وضع مشروعا بسيطا في ظاهره: تلك اللغة التي تقيد الأدب الياباني بخصائصها وتكلفها، تكفي كتابتها بطريقة مختلفة، عبر استبدال الأنظمة التقليدية للكتابة بنظام آخر، غربي، بغية تبسيطها وتجديدها. وحول هذا المشروع، كتب بنفسه في بداية "ربيع في هونغو": "لماذا قررتُ كتابة هذه اليوميات بالحروف اللاتينية؟ أحب زوجتي، ولأنني أحبها، لا أريدها أن تقرأ هذه اليوميات. لكن هذا افتراء. أحبها، هذا صحيح، وصحيح أيضا أنني لا أريدها أن تقرأ هذه اليوميات، لكن لا يوجد بالضرورة رابط بين هذين التوكيدين".

علامة مميزة

هل كان تاكوبوكو يعلم آنذاك إلى أي حرية في الكتابة سيقوده هذا القرار؟ "على مدى عشر سنوات، قبل انطلاقه في هذا العمل، واظب على كتابة يومياته، وكان كاتب يوميات لامعا، لكنه لم يبد قط مثل هذه الجرأة وهذا الهاجس بالحقيقة"، يوضح دوكوتينيي. وفعلا، في "ربيع في هونغو"، لا يترك الشاعر شيئا مخفيا من حياته الجنسية، ولا يخشى مقاربة احتياجاته الجسدية ومعاشرته بائعات الهوى، بل يفعل ذلك بصدق تام. مقاربة لا تنم إطلاقا عن افتخار بالذات، بل على العكس تماما. ولهذا السبب، لا يقع قط في البذاءة أو الفحش، بل يحلل سلوكه من مسافة كان اعتادها، يعززها استخدامه الحروف اللاتينية.

تمثال يجسد إيشيكاوا تاكوبوكو في متنزه مطل على البحر

لفهم أيضا كيف قرر تاكوبوكو لاحقا كتابة قصائد مجموعته الشعرية الثانية، "دمى حزينة"، على شكل "يوميات ذهن"، لا بد من قراءة "ربيع في هونغو". ففي هذا الكتاب، انطلق في ما سيصبح لاحقا علامته المميزة، أي تلك الكتابة التي تعنى بلحظات، كل واحدة منها ملتقطة لدى بزوغها، في عفويتها التي لا تُختزَل. وفي هذه الكتاب أيضا، استخلص أبرز سمات شخصيته، مثل تقلب مزاجه، ضعف إرادته، أنانيته كفنان، من دون أن يحاول تبريرها، أو التفاخر بها، بل تفحصها وراقب حركة ذهنه بالموضوعية نفسها التي يتعامل بها عالِم مع ظواهر الطبيعة.

مقاربة لا تنم إطلاقا عن افتخار بالذات، بل على العكس تماما. ولهذا السبب، لا يقع قط في البذاءة أو الفحش، بل يحلل سلوكه من مسافة كان اعتادها

وبينما نستشف داخل "ربيع في هونغو" نوعا من القدرية في رؤية تاكوبوكو كيفية عمل ذهنه، نستنج تبصرا مجردا من الأوهام لديه في إمكانات الإنسان: "لا أعتقد أن أي مشروع بشري يمكن أن يكون عظيما. جهلي في الماضي ماهية العظمة جعلني أتخيل أن الأدب أعظم وأنبل من أي شي آخر. لكن هل يمكن أي عمل من صنع الإنسان أن يكون عظيما؟". هذا التحرر المبكر من أي وهم هو الذي قاده إلى التأمل في نفسه، وفي الإنسان عموما، من سفلية واقعه اليومي، لحظة بلحظة، من دون أي محاولة تجميل أو تنظير.

من نتائج هذا التحرر كتابته أيضا: "أنكر وجود نوع خاص من البشر يندرج تحت تسمية شاعر. من الصائب أن يطلق الآخرون على الإنسان الذي يكتب قصائد صفة شاعر، لكن يجب ألا يقدم هو على اعتبار نفسه شاعرا. لعل طريقة تعبيري عن ذلك رعناء، لكن إن اعتبر هذا الإنسان نفسه شاعرا، فستتدهور قيمة عمله، وتصبح قصائده شيئا لا فائدة له للآخرين. على الشاعر أن يكون أولا إنسانا، أن يكون ثانيا إنسانا، أن يكون ثالثا إنسانا. علاوة على ذلك، يجب أن يمتلك كل صفات الإنسان العادي". بعبارة أخرى، يرى تاكوبوكو أن الإنسان، أي إنسان، ليس استثنائيا ولا جديرا بالإعجاب في أي شيء، بل هو بائس ومثير للشفقة في جوهره. وفقط حين يدرك الشاعر ذلك، يمكن أن يأمل في التعبير عن شيء حقيقي.

أعباء المجتمع

لتوضيح علاقة تاكوبوكو الملتبسة بالكتابة كممارسة ضرورية وعبثية، مريحة ومحبِطة، في الوقت نفسه، يستحضر دوكوتينيي في مقدمته رسالة وجهها الشاعر الى صديق طفولته، سيغاوا فوكاشي، وكتب فيها: "بما أن علي أن أعيش حياة مليئة بعدم الرضا، غالبا ما أشعر بالحاجة إلى البحث عن دليل على وجودي، عبر إدراك ذاتي، لحظة بلحظة. عندها أكتب نصوصا، معزيا نفسي قليلا بترجمة "أناي" في كل لحظة إلى كلمات، وبقراءتها. لذا، فإن اليوم الذي أكتب فيه قصائد هو يوم تعيس، يوم أهدرته عبثا، يوم لم أنل فيه أي رضا سوى إيجاد ذاتي الحقيقية في كل لحظة. كما ترى، حتى لو أنني أكتب الآن قصائد، أريد أن أصبح إنسانا لا يحتاج إلى ذلك".

نصب تذكاري للشاعر إيشيكاوا تاكوبوكو في مدينة إيوا ميزاوا، هوكايدو، اليابان

أن نثبت وجودنا لأنفسنا، وأن نترجم إلى كلمات ذاتنا الحقيقية في كل لحظة، ذلك إذن هو العزاء الوحيد الذي تمنحه الكتابة، وفقا إلى تاكوبوكو. وسواء تجلت هذه الكتابة في قصائد أو في مدونات يومية، لا فرق، لأن المسعى هو نفسه. لذلك، تفسح يومياته المجال أحيانا لقصائد في "ربيع في هونغو"، لكن من دون أن تتغير النبرة، التي تحددها لحظة تنفصل عن سائر لحظات الحياة، وتتجلى بقوة ووضوح أكبر: "صرير جلد هذا الحذاء/ يشعرني بغرابة وضيق/ كأني أمشي على ضفادع"، أو "مستلقيا على عشب الضفة الأخضر/ تحمل سماء بعيدة إلي/ أنغام فرقة نحاسية". لحظة في تفاهتها، في عريها، لا أكثر. لكن بترجمتها إلى كلمات، تصبح كنزا.

صوت يمسنا عميقا بإنسانيته الصادقة، ببصيرته النادرة، وبسخريته من نفسه

بفضل الكتابة، تمكن تاكوبوكو أيضا من الشعور باستعادة نوع من الحرية، وبالتحكم إلى حد ما بحياته: "النظام الحالي للزواج، بل كل الأنظمة الاجتماعية عبثية! لماذا يجب علي أن أكون مقيدا بسبب والدي وزوجتي وطفلتي؟ لماذا يجب أن يتعذب والدي وزوجتي وطفلتي من أجلي؟". قول يعكس إدراكه التام لعبء المؤسسات والأعراف التي تتحكم بالحياة الاجتماعية، وعدم تكيف شخصيته، الشرسة والحساسة، مع أي قيد أو إكراه، والنكسات المتكررة لحياته المهنية والشخصية خير دليل على ذلك: "أنا كائن يستمتع بالعزلة. أنا شخص فرداني منذ الولادة. يبدو الوقت الذي أقضيه مع الآخرين فارغا دائما، إلا حين نمضيه في التعارك".

نقرأ أيضا في "ربيع في هونغو": "مستيقظا وحدي في المدينة الساكنة النائمة، أدركتُ، وأنا أحصي أنفاس ليلة الربيع الهادئة هذه، كم أن حياتي تافهة وبلا معنى في هذه الغرفة الصغيرة". جملة تقول على أكمل وجه تاكوبوكو، ذلك الإنسان الوحيد والمجرد من أي وهم، الذي يتأمل، معلقا بين عالمَين، في عجز البشر وقوة الكلمات. جملة يرتفع فيها، كما في كل يومياته، الصوت نفسه الذي يرتفع في قصائده. صوت يمسنا عميقا بإنسانيته الصادقة، ببصيرته النادرة، وبسخريته من نفسه.

font change