مايك كيلي المشاغب المخلص لطفولته

الفنان الذي حول حياته إلى أثر أسطوري

Andrew Lalchan Photography/Alamy Live News
Andrew Lalchan Photography/Alamy Live News
معرض "مايك كيلي – الشبح والروح" في "تيت مودرن"

مايك كيلي المشاغب المخلص لطفولته

يحظى الفنان الأميركي مايك كيلي باهتمام متاحف الفن الكبرى، في الولايات المتحدة وأوروبا،منذ وفاته منتحرا عام 2012. فلا يمر عام من غير استحضاره من خلال معرض استعادي، يسلط الضوء على مرحلة ما من مراحل تجربته الفنية الغنية بالأسئلة الوجودية التي تستمد تأثيرها من تنوع مصادرها التي طور كيلي أبعادها من خلال اهتمامه بالموسيقى والشعر والفلسفة. غير أن ذلك وحده ما كان ليكفل صنع ظاهرة فنية لولا أنه جاء في سياق تجربة تعددت وسائط التعبير المعاصرة في تشييد بنيتها. فكيلي الذي تصنفه الموسوعات الفنية باعتباره نحاتا، كان في الوقت نفسه رساما وكاتبا ومصورا ومركبا وصانع أفلام وفنان أداء، إضافة إلى كونه موسيقيا ساهم في إنشاء عدد من الفرق الموسيقية في ديترويت، هناك حيث وُلد عام 1954.

اعتبر كيلي واحدا من أهم فناني حركة "بوب آرت" بعد المرحلة التي كان أندي وارهول (1928 ــ 1987) زعيمها ورمزها الرئيس. وبعكس وارهول، كان كيلي مخلصا إلى تفاصيل الحياة المباشرة التي عاشها موزعا بين الذات التي ترغب في اختراق المحظورات والقيم المجتمعية التي تعمل المؤسسات على الحفاظ عليها، بين طفولته الغاصة باللعب والفكاهة وقوة الواقع التي تنطوي على خسائر واضحة ومكتسبات غامضة. في ديترويت عاش فقيرا في مدينة تراجعت فيها صناعة السيارات، وحين انتقل إلى لوس أنجليس للدراسة وجد نفسه قريبا من الوهم الذي تصنعه سينما هوليوود.

لا يمكن النظر إلى فن مايك كيلي إلا من جهة كونه انتهاكيا، فيه من التمرد على الأصول الفنية بقدر ما فيه من احتجاج على التقاليد الاجتماعية

كل تلك التناقضات عبأت فنه برغبة عميقة في إطلاق الدعابات السوداء التي أضفت على أعماله طابع اللعب الطفولي الذي لا يخفي شعورا عميقا بالكآبة. لذلك لا يمكن النظر إلى فن مايك كيلي إلا من جهة كونه انتهاكيا، فيه من التمرد على الأصول الفنية بقدر ما فيه من احتجاج على التقاليد الاجتماعية.  

منفصل عن الحياة العامة

في المعرض الاستعادي الذي يقيمه متحف "موديرنا" باستوكهولم ويحمل عنوان "الشبح والروح"، هناك محاولة لتكريس البعد الساخر من الحياة المباشرة في تجربة مايك كيلي. نهايته المأسوية مختنقا بالغاز داخل بيته، تكشف عن عمق الألم الذي أحس به وهو يسعى إلى تفادي الوقوع في القناعة الجمعية التي هي مصدر جنون مجتمعاتنا. يقول كيلي: "كنت من جيل التلفزيون. كنت متأثرا به. لم أشعر بأي صلة بعائلتي أو بلدي أو حتى بالواقع. كنت أرى العالم واجهة إعلامية، والقصة بأكملها تبدو خيالا. مجرد أكاذيب".

To match ART-MIKEKELLEY/ REUTERS/Jonathan Alcorn
زوار يشاهدون سلسلة لوحات بعنوان "ادفع ثمن متعتك" ضمن معرض الفنان الراحل مايك كيلي في لوس أنجليس

بطريقة أو بأخرى، كان كيلي قد هيأ نفسه لإستعراض احتجاجي سيكون له دور كبير في تحرير الفنون المعاصرة من تبعتيها للواقع. ذلك ما نراه وما نحسه وما نفكر فيه. غير أن كيلي المولع بالدمى التي كان يقتنيها من مخازن المواد المستعملة، قرر أن يصنع معادلات جديدة تكون هي الأساس لعلاقته البصرية بالواقع. لقد أكد الفنان من خلال استعماله لتلك الدمى كمفردات في أعماله، انفصاله عن الحياة العامة. فالدمى وهي صناعة خيالية تمثل حياة لم نعشها إلا لكي تكون حكاية. أما بالنسبة للفنان فإنها كانت هي الأصل الذي يمكن أن يشكل حياة مجاورة. في معرضه الحالي هناك عمل جداري هو عبارة عن دمى محاطة بنسيج متداخل من الأقمشة.

هناك اتفاق بين النقاد على أن كيلي كتب سيرته الشخصية مجسدة بصريا من خلال أعماله، ناهيك بأنه ترك الكثير من الدفاتر التي تتضمن ملاحظاته عن الحياة التي عاشها

ذلك عمل أساس في تجربته الفنية على الرغم من أن تجاربه الضوئية هي الأكثر إثارة. عمل لافت، لأنه أولا يمثل تجربة تقنية جديدة مشاكسة، وثانيا لأنه يعبر عن سخرية واضحة، وثالثا لأن كيلي كان مخلصا لحزنه على طفولته وما انطوت عليه من أحلام. وكما يمكن توقعه، فإن ذلك العمل هو المرجع لخيال الفنان في أعماله اللاحقة التي سعى من خلالها إلى تفكيك صلته بالواقع.

أسطوريات معاصرة

حين أقيم المعرض نفسه في "تيت مودرن" بلندن في السنة الماضية، وصفه النقاد بأنه رحلة سريعة عبر حياة الفنان، تبدأ بطفولته الغاصة بالمؤثرات الدينية السائدة في ديترويت، في مجتمع الطبقة العاملة.

Andrew Lalchan Photography/Alamy Live News
معرض "مايك كيلي – الشبح والروح" في "تيت مودرن"

بعدها يستعرض أعمال الفنان التي تصور مشكلاته مراهقا، وهي الفترة التي التحق فيها بالفرق الموسيقية، ثم دراسته الجامعية في "آن هاربر"، ثم في معهد كاليفورنيا للفنون، انتهاء بتجاربه الفنية المتنوعة والمثيرة، بكل ما انطوت عليه من شغب ورغبة انتهاكية حتى وفاته المفاجئة عام 2012 التي وقعت بعد أن أحيط بنوع مبالغ فيه من الشهرة. ففي اليوم الذي انتحر فيه، أقيم له معرض استعادي كبير استغرق الإعداد له سنوات طويلة، كان كيلي قد اشترك فيه. أقيم ذلك المعرض في متحف "ستيدلك" بأمستردام ولم يكن في أذهان منسقي ذلك المعرض أنه سيكون بمثابة تحية وداع. ما يهم هنا أن هناك اتفاقا بين النقاد على أن كيلي كتب سيرته الشخصية مجسدة بصريا من خلال أعماله، ناهيك بأنه ترك الكثير من الدفاتر التي تتضمن ملاحظاته عن الحياة التي عاشها.

فن مايك كيلي يتجاوز يومياته ليخلق فكرة عن الأنواع الفنية المتداخلة التي سمحت بها ظاهرة الفنون المعاصرة

هذا النوع من المعارض ينفتح بنا على فكرة، كان من الصعب أن تجد طريقها إلى الواقع بشكل كامل قبل أن تفرض الفنون المعاصرة وجودها باعتبارها الظاهرة الأكثر نفوذا. فبسبب تبني عدد من المتاحف لتلك الظاهرة، صار في إمكان الفنان المعاصر أن يكون واقعيا، بطريقة لم يكن رسامو ونحاتو الأسلوب الواقعي يملكون الجرأة على الاقتراب منها، فهي في منظورهم ليست من الفن. ذلك ما شجع كيلي على أن يحتفي بحياته التي صارت مفرداتها الفقيرة مصدر إلهام جمالي يمكن أن يحول الحياة العادية من خلال استدراجها إلى الفن، إلى منجم تُستخرج منه الأساطير الحديثة. وهو ما يذكرنا بمحاولة المفكر الفرنسي رولان بارت في كتابه "اسطوريات".

العودة إلى الحياة اليومية

يمزج مايك كيلي بين الأصوات والأشكال وهو الذي لم يكف عبر سني حياته عن العودة إلى مرحلة كانت فيها الأرواح لا تكف عن زيارته من خلال أشباحها.

Andrew Lalchan Photography/Alamy Live News
معرض "مايك كيلي – الشبح والروح" في "تيت مودرن"

هناك أعمال ضوئية تظهر فيها صور لراقصات ومن ثم تختفي. كما أن هناك أعمالا لا يمكن فهم ما يجري فيها إلا من خلال الإنصات إلى الأصوات التي ترافقها. وقد يكون من الخطأ استعمال كلمة "فهم". ذلك أن كيلي لم يسع إلى إقامة علاقة معرفية بمتلقي أعماله بقدر ما سعى إلى أن يُحدث صدمة في خيال ذلك المتلقي. "لقد عشت حياة عادية حولتها من خلال الفن إلى حياة استثنائية"، ذلك ما يمكن أن يقوله. وهو ما يعني أن كل حياة عادية يمكن أن تتحول من خلال الفن إلى حياة استثنائية تكتظ بالأساطير التي يمكن أن تُنسب إلى مخترعها وهو الفنان.

تمكن كيلي ببراعة يملكها الأطفال الموهوبون، من أرشفة حياته التي قد لا تكون كل تفاصيلها حقيقية. ليس مهما أن يُقال اليوم إنه كان يكذب. تلك حياته وهي أمر يخصه. ما يخصنا، يكمن في ما نراه من أعمال فنية، صارت جزءا من تاريخ ظاهرته الفنية. المثير في أعمال كيلي أنها تجعلنا نعيد النظر في تفاصيل حياتنا اليومية. ربما يشعر البعض بأنه عاش حياة هي أكثر اكتظاظا بالمعنى من الحياة التي عاشها كيلي واستطاع أن يحولها إلى معبد جمالي. ذلك درس نافع يخرج به المرء من المعرض وهو يشعر أن كل شيء في حياته يمكن أن يكون فنا. ذلك ليس كل شيء. فن مايك كيلي يتجاوز يومياته ليخلق فكرة عن الأنواع الفنية المتداخلة التي سمحت بها ظاهرة الفنون المعاصرة.

font change