لم تكن الرواية حكرا على روائيين يشتغلون في حقل الأدب خاصة، بل تألقت بأسماء روائيين لامعين جاؤوها من حقول ومهن متعددة، منها ما هو مجاور لها كفن، ومنها ما هو بعيد عن تخومها بونا شاسع المسافة، مثل هؤلاء الروائيين، الآتين إلى هذا النوع من الكتابة السردية العتيدة، من الطرق الطويلة، ذات الإيقاع الماراثوني، مهنة قيادة الشاحنات بالذات.
يتماهى إيقاع الرواية بإيقاع المسافات المترامية الأطراف في حالة هؤلاء، وهم يُعدّون بأصابع اليدين ونيف. كأنما "رواية الطريق" التي تأسست عليها أفلام الطريق، خُلقت ليكون الكتّاب الذين احترفوا قيادة الشاحنات، ليلا ونهارا، لساعات وأيام وشهور، أسيادها بامتياز، عرابيها الأشاوس، ملوكها الأحقاق، وهذا ليس قانونا بالتأكيد، أو قاعدة يؤسس عليها، بل فرضية من ضمن فرضيات قراءة متون هذه الظاهرة اللافتة، على ندرتها.
لا تقتصر فضيلة الطرق الطويلة، على إيقاعها الطاعن في الأبعاد والاتجاهات والأمكنة، ولكن أيضا، وهذا الأبدع، على انفتاحها على التجارب الإنسانية التي يكتنزها سائقو الشاحنات بفعل المهنة الشاقة، من بلد إلى آخر، وحالة تلو أخرى، وهم يقتحمون مصادر خيال بكر، يتسللون إلى أراضيها القصية، بقدر هائل من تحصيل مكامن الأسرار، ومجاهل الحكايات، وأقاصي الأشكال ونزق المعاني وغرابتها، فضلا عن المضاعفات السوداوية لأخطارها، إذ لا تخلو هذه التجارب العاتية من قطاع الطرق، من حيوات صعلكة أقل ما يقال عنها إنها تنتمي إلى عالم سفلي خاص بها، وغير ذلك، فهؤلاء المنذورون للطرق اللانهائية، إنما هم الأقرب إلى ما تعنيه جحيم العزلة، وقسوة الوحدة، وفداحة الصمت، الملاذ المسنون للوحشة.
في القصة القصيرة، غالبا ما يطفو اسم ريموند كارفر، الذي مارس هذه المهنة الشاقة، ومع ذلك، تلقى دروسا في ورشات الكتابة لاحقا، وتألق ككاتب قصة قصيرة مفرد، كما يحيل على مجده السردي "الكاتدرائية" (قصص)، و"ما الذي أتحدث عنه عندما أتحدث عن الحب" (قصص)، و"الفيل وقصص أخرى" فضلا عن كتابته للشعر.