كتّاب قدموا إلى الرواية من عالم قيادة الشاحنات

روايات الطريق السوداء

غاستون سواريز

كتّاب قدموا إلى الرواية من عالم قيادة الشاحنات

لم تكن الرواية حكرا على روائيين يشتغلون في حقل الأدب خاصة، بل تألقت بأسماء روائيين لامعين جاؤوها من حقول ومهن متعددة، منها ما هو مجاور لها كفن، ومنها ما هو بعيد عن تخومها بونا شاسع المسافة، مثل هؤلاء الروائيين، الآتين إلى هذا النوع من الكتابة السردية العتيدة، من الطرق الطويلة، ذات الإيقاع الماراثوني، مهنة قيادة الشاحنات بالذات.

يتماهى إيقاع الرواية بإيقاع المسافات المترامية الأطراف في حالة هؤلاء، وهم يُعدّون بأصابع اليدين ونيف. كأنما "رواية الطريق" التي تأسست عليها أفلام الطريق، خُلقت ليكون الكتّاب الذين احترفوا قيادة الشاحنات، ليلا ونهارا، لساعات وأيام وشهور، أسيادها بامتياز، عرابيها الأشاوس، ملوكها الأحقاق، وهذا ليس قانونا بالتأكيد، أو قاعدة يؤسس عليها، بل فرضية من ضمن فرضيات قراءة متون هذه الظاهرة اللافتة، على ندرتها.

لا تقتصر فضيلة الطرق الطويلة، على إيقاعها الطاعن في الأبعاد والاتجاهات والأمكنة، ولكن أيضا، وهذا الأبدع، على انفتاحها على التجارب الإنسانية التي يكتنزها سائقو الشاحنات بفعل المهنة الشاقة، من بلد إلى آخر، وحالة تلو أخرى، وهم يقتحمون مصادر خيال بكر، يتسللون إلى أراضيها القصية، بقدر هائل من تحصيل مكامن الأسرار، ومجاهل الحكايات، وأقاصي الأشكال ونزق المعاني وغرابتها، فضلا عن المضاعفات السوداوية لأخطارها، إذ لا تخلو هذه التجارب العاتية من قطاع الطرق، من حيوات صعلكة أقل ما يقال عنها إنها تنتمي إلى عالم سفلي خاص بها، وغير ذلك، فهؤلاء المنذورون للطرق اللانهائية، إنما هم الأقرب إلى ما تعنيه جحيم العزلة، وقسوة الوحدة، وفداحة الصمت، الملاذ المسنون للوحشة.

في القصة القصيرة، غالبا ما يطفو اسم ريموند كارفر، الذي مارس هذه المهنة الشاقة، ومع ذلك، تلقى دروسا في ورشات الكتابة لاحقا، وتألق ككاتب قصة قصيرة مفرد، كما يحيل على مجده السردي "الكاتدرائية" (قصص)، و"ما الذي أتحدث عنه عندما أتحدث عن الحب" (قصص)، و"الفيل وقصص أخرى" فضلا عن كتابته للشعر.

ثمة أسماء مغمورة، جاءت بقوة من عالم الطرق الماراثونية، واشتبكت مصائرها بكتابة هذا الفن العتيد

لكن في الرواية، ثمة أسماء مغمورة، جاءت بقوة من عالم الطرق الماراثونية، واشتبكت مصائرها بكتابة هذا الفن العتيد، ومع أن مجملهم لم يبلغ شهرة تطبق الآفاق، إلا أن أعمالهم الروائية حظيت باحترام وتقدير، من النقاد والقراء معا، واستطاعت غالبيتها أن تنجح في أن تكون روائية بالفعل، في حاجة إلى إعادة القراءة الممعنة، وإعادة الاعتبار إليها كما يليق بمنجزها النوعي.

غاستون سواريز من بوليفيا

تنقل غاستون سواريز من مدرس في الريف إلى سائق شاحنات مطولا، قبل أن يمتهن الصحافة مرورا بحرفة مصرفي، لكن تجربة قيادة الشاحنات تركت أثرا في كتابته ذات النزوع الواقعي الحلمي، كما يفصح عن ذلك عمله الروائي "مالكو المنشور" عام 1974، وهو محض حكاية رمزية عن الشاب مالكو، الذي يصارع من أجل حريته، عبر استعارة الحلم في أن يبلغ البحر بأيما طريقة، وفق أسطورة الكائن الأنديني الذي يصبو إلى الخلاص بطرق روحية، وقد أدرجت في المقررات التربوية في بوليفيا وبعض دول الأنديز، فضلا عن دخولها قائمة الشرف عام 1976، كنص أدبي يحظى بميزة إنسانية.

الطريف في الأمر، أن غاستون سواريز شغل منصب رئيس اتحاد الكتاب البوليفيين حتى وفاته عام 1984.

خوسيه أنطونيو سيبريان من إسبانيا

احترف خوسيه أنطونيو قيادة الشاحنات عبر أكثر من بلد أوروبي لتوصيل مواد البلاط والأبواب ولوازم الحمامات فضلا عن صناديق النبيذ، اختبر فيها تجارب إنسانية متعددة، ذات منحى سوداوي من جهة أولى، وذات نزوع غرائبي من جهة ثانية.

غلاف رواية "الاسم"

في روايته "الاسم"، يفاجئ خوسيه أنطونيو سيبريان قراءه بنص تخييلي تدور وقائعه خلال الحرب الأهلية الأميركية، وموجز الحكاية مؤسس على قصة حب بين عبد وابنة مالك أرض أميركي.

ومع أن الكاتب يظل مغمورا، وغير محتفى به نقديا، إلا أن مواظبته على الكتابة الروائية، قادما من حقل غريب، يشفع له في أن يتمثل كاسم ظاهرة الروائيين الموشومين، احتكاما إلى سيرتهم السابقة، كسائقي شاحنات مريبين.

ألان فلور من فرنسا

عُرف عن الروائي الفرنسي ألان فلور، احترافه هو الآخر قيادة الشاحنات لفترة مطولة من حياته، وهذا ما أحدث صدى واسعا لأهم رواياته، إذ اجترح سلسلة بوليسية، خلق لها شخصية جاكي نوفان، سائق الشاحنة الباريسي المقيم في كندا، المنذور لمصائر عنيفة تصخب بها الطريق المشتبكة الأخطار، وفق مصادفات إنسانية لافتة، سرعان ما تفصح عن لعبة متناسلة التشويق، تمزج بين المغامرة والسوداوية، ولا تخلو من بهارات إباحية، وفخاخ جرائم غامضة، منتصرة للكائنات الهامشية بتسليط الضوء الكاشف على أسلوب حيواتهم الغريب الأطوار.

ينقل الطرود والبضائع إلى عناوين سكان هم محض أقلية في أمكنة قصية، تعاني أفدح أشكال العزلة، ذات منحى غامض، يمزج بين الـتأمل الوجودي، والتشويق

من عناوين سلسلته هذه: "الفالس الأخير لسائق الشاحنة"، "شحنة الملعونين"، "سائق الشاحنة في سجن سينغ سينغ"... مع تأكيد إيقاع سرده السريع، ولغته المباشرة المنكهة بشعرية منزاحة نحو ما هو رمادي.

ديفيد إريكسون من السويد

لم تكن تجارب ديفيد إريكسون لتمر اعتباطا كسائق شاحنة دون أن تحدث دويا في أعماله الروائية، إذ واظب على الكتابة السردية بالتعاقب، ناشرا عناوين روائية تستغور ظلمات الطرق المنذورة لسائقي الشاحنات، بدءا بـ"موقف الشاحنات" (1999)، و"الضوء الأحمر" (2001)، و"الرخام الأسود" (2009)، وقد نال جائزة "إيفار لو" الثقافية مرتين، عام 2008، وعام 2023.

غلاف رواية "الرخام الأسود"

في رواية "الرخام الأسود"، يتعقب حياة الشاب المغمور جاك الذي يعمل في نقل البضائع، متأرجحا بين الاغتراب وقلق الانتماء، وهو يمضي وقته في الطريق كسائق شاحنة، موزعا ساعات نومه الضئيلة بين أسرة الفنادق الرخيصة كيفما اتفق.

وشأنها شأن روايات الطريق، فالتشويق هو إيقاعها اللاهب، واحتواء روائيتها للمنحى الأسود دون أن تكون بوليسية تماما، مع تتبع جاك لشبكة سرية تمارس طقوسا جنسية عنيفة، غالبية المنخرطين فيها من النخبة الاجتماعية، مما يعرض حياته وزوجته سانا، فضلا عن شريكته الحميمة في التحقيق ليا، إلى خطر التصفية.

جايمس أندرسون

جيمس أندرسون من أميركا

سبق للروائي الأميركي جيمس أندرسون أن امتهن قيادة الشاحنات لمسافات طويلة، وهو ما انعكس أثره بشكل دامغ في أعماله الروائية، خاصة رواية "مطعم الصحراء الذي لا يفتح أبدا"، وتقع أحداثها في صحراء يوتا، حيث يعمل بطل الرواية بن جونز سائق شاحنة على طريق برية طاعنة في الوحشة، ينقل الطرود والبضائع إلى عناوين سكان هم محض أقلية في أمكنة قصية، تعاني أفدح أشكال العزلة، ذات منحى غامض، يمزج بين الـتأمل الوجودي، والتشويق، فضلا عن لغة سينمائية دامغة.

وقد أردفها بجزء ثان، تحت عنوان "طريق التنويم"، مواصلا رحلاته في الطرق الصحراوية الموحشة، بدءا باصطحابه طفلا مع كلب في أتون غموض مضطرد، يتعزز بلقاء أشخاص غرباء، فيما يحمل هو شحنات مريبة، وتنفتح الرواية على أسرار حميمة قديمة، مع اشتباكه بحيوات أناس هشة، لكن في خطر محدق، علامته التآمر على وجوده في الخفاء. وكما هي الرحلة على طريق يشق الصحراء، هي كذلك رحلة داخلية في طبقات بن جونز النفسية، فاستحقت أن تصنف ضمن روايات الصحراء السوداء.

font change