ترمب وحقوق الإنسان... عندما تحدد الانتقائية السلوك

 اف ب
اف ب
متظاهر يشارك في مسيرة ضد سياسات الادارة الاميركية المتعلقة بالهجرة في لوس انجلس في 14 يوليو

ترمب وحقوق الإنسان... عندما تحدد الانتقائية السلوك

بخلاف الرئاسات الأميركية السابقة، الجمهورية والديمقراطية، تغيب قضايا حقوق الإنسان على نحو لافت في السياسة الخارجية الأميركية في عهد إدارة الرئيس دونالد ترمب (كان الأمر هكذا أيضا في ظل رئاسة ترمب الأولى 2017-2021). في الحقيقة، باستثناء تبني الحريات الدينية بما يعنيه هذا من مكافحة اضطهاد الأقليات الدينية، خصوصا المسيحية منها، في انعكاس لأجندة اليمين المسيحي الداعم بقوة لترمب، لا يُثار عادة ملف حقوق الإنسان في هذه الإدارة.

لكن ترمب المعبأ بالمفاجآت، أثار هذا الملف على نحو علني وشرس وغير مسبوق لحد الآن، خارج إطار الحريات الدينية، أثناء زيارة رئيس جنوب أفريقيا، سيريل رامافوزا، والوفد المرافق له لواشنطن في شهر مايو/أيار الفائت. صنع ترمب حينها دراما أخرى مثيرة أمام الكاميرات في البيت الأبيض عندما أكد بلغة يسودها اليقين مخاطبا ضيفه الجنوب أفريقي أن هناك إبادة بحق المزارعين البيض في بلاده.. "لدينا الكثير من الناس الذين يشعرون بأنهم يُعاقبون، وهم يأتون إلى الولايات المتحدة... إنهم يهربون من جنوب أفريقيا حفاظا على حياتهم. تُصادر أراضيهم وفي أحيان كثيرة يُقتلون". قادت حماسة ترمب في حديثه هذا إلى تقديمه "أدلة" مصورة أمام وسائل الإعلام بحضور ضيفه على القتل المفترض الذي يتعرض له البيض في جنوب أفريقيا، ليظهر تاليا أن معظم هذه "الأدلة" مزيفة أو مبالغ بها كثيرا (بعضها صور مأخوذة من بلدان أفريقية أخرى، وأخرى أعطاها ترمب معنى غير معناها الحقيقي كما في موقع احتجاج باستخدام الصلبان المسيحية حَوّله الرئيس الأميركي إلى مقبرة جماعية لدفن المزارعين البيض المقتولين... إلخ).

 أ ف ب
الاميركية الاولى ميلانيا ترمب والرئيس دونالد ترمب معتمرا قبعة "لنجعل اميركا عظيمة مرة ثانية" اثناء لقاء مع عائلات العسكريين في البيت الابيض في 4 يوليو

عبر مشهد هذه الدراما حيث يهيمن الخيال، بعناد غريب، على الحقيقة الموثقة تكرارا وواسعا، برز أحد تناقضات ترمب وتياره السياسي "ماغا" ("لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى"). لا يهتم هذا التيار لحقوق الإنسان، إذ يركز ترمب على الاقتصاد ويكرر دائما أنه لا يلقي "محاضرات" على رؤساء الدول بخصوص كيفية إدارتهم لبلدانهم (رغم أن هذا ما فعله بالضبط مع رئيس جنوب أفريقيا). مع ذلك، يستخدم الرجل ملف حقوق الإنسان على نحو انتقائي ومتناقض، غالبا ما يعكس تحولات مزاجه الشخصي، وليس التوجهات المؤسساتية (يهاجم مثلا رئيس فنزويلا على خرقه حقوق الإنسان، لكنه يمدح الزعيم الكوري كم جونغ أون، برغم سجل بلاده الفظيع في خرق حقوق الإنسان).

التقريران السنويان لوزارة الخارجية الأميركية، اللذان يغطيان العامين الأخيرين، 2022 و2023 بخصوص أوضاع حقوق الإنسان في جنوب أفريقيا يؤكدان ما قاله رامافوزا وليس ما قاله ترمب

حقوق الإنسان والسياسة الخارجية الأميركية


في عام 1974، أدخل الكونغرس تعديلا على قانون المساعدة الخارجية الأميركية لعام 1961 (عُرف باسم تعديل هاركن، على اسم عضو مجلس النواب، توم هاركن الذي اقترحه) لتقييد سلطة الرئيس في إدارة الشؤون الخارجية. أشار هذا التعديل إلى أن "الرئيس سيخفض على نحو كبير أو يقطع المساعدة الأمنية لأي حكومة تمارس نهجا متواصلا يتضمن خروقات فادحة لحقوق الإنسان المُقر بها عالميا". كان الكونغرس، بكثير من أعضائه الجمهوريين والديمقراطيين، غاضبا حينها من دعم إدارة الرئيس ريتشارد نيكسون لأنظمة قمعية مارست خروقات واسعة ضد حقوق الإنسان خصوصا تلك التي مارسها نظام أوغستو بينوشيه الذي أطاح بحكومة سلفادور الليندي المنتخبة ديمقراطيا في تشيلي، وعلى نحو أقل، خروقات حكومة الدكتاتور حاج محمد سوهارتو في إندونيسيا ضد معارضيها من الشيوعيين. اشترط التعديل أن تقدم وزارة الخارجية تقريرا سنويا للكونغرس بخصوص أوضاع حقوق الإنسان في البلدان التي تتلقى مساعدة أمنية أميركية. كان الغرض الأساسي للتقرير حينها إخضاع الإدارات الأميركية المتتابعة لرقابة الكونغرس بخصوص دعمها المحتمل لأنظمة تخرق بشكل منهجي حقوق الإنسان، وذلك في سياق الحرب الباردة ضد المعسكر الشرقي التي بررت للبيت الأبيض، خصوصا في عهد رئاستي نيكسون، دعم أنظمة قمعية بسبب أنها معادية للشيوعية. 
وبمرور الزمن اتسع التقرير وتعددت أغراضه، إذ أخذ يشمل بلدانا أخرى تتلقى مساعدة اقتصادية أميركية، وأخرى لا تتلقى أي مساعدة (بحدود 194 بلدا غطاها تقرير عام 2024)، وأصبح أحد مصادر التأثير على صياغة السياسة الخارجية الأميركية، وكشف عيوبها أيضا، وأثار الأسئلة بخصوصها، سلبا وإيجابا. وبغض النظر عن مقدار تأثيره في السياسة الخارجية الأميركية، وقدرة الإدارات الرئاسية على الالتفاف عليه، فإن إحدى أهم فوائده هي أنه أصبح سجلا مرجعيا سنويا، خصوصا للمختصين، إذ يُقدم عبر صفحاته التي عادة ما تتجاوز 500، تغطية تفصيلية بشأن حالة حقوق الإنسان في كل دول العالم تقريبا، بضمنها تقييم هذه الحالة لجهة التحسن أو التراجع فيها. 

ترمب و"اللاجئون" من جنوب أفريقيا


تكمن المفارقة هنا في أن التقريرين السنويين لوزارة الخارجية الأميركية، اللذين يغطيان العامين الأخيرين، 2022 و2023 (وهذا الأخير صادر في 2024) بخصوص أوضاع حقوق الإنسان في جنوب أفريقيا يؤكدان ما قاله رامافوزا وليس ما قاله ترمب، بأن جنوب أفريقيا بلد فيه ديمقراطية دستورية تلتزم بها الحكومة عموما (حتى مع إشارة التقرير لوجود بعض الخروقات كحصول اعتقالات كيفية، وتقييد سلطات بعض المدن حقَ التظاهر من خلال اشتراط الإذن المسبق... إلخ). لكن هذا التقرير يناقض ما ادعاه ترمب أمام ضيفه الجنوب أفريقي بوجود استهداف منهجي عبر قتل المزارعين البيض والاستيلاء على مزارعهم، إذ لم يشر التقرير إلى هذا، بل أشارَ إلى ما أكده رامافوزا ردا على ترمب، بوجود جريمة تستهدف الجميع، وليس مجموعة ديموغرافية محددة.

يمتلك المزارعون البيض نحو 72 في المئة من الأراضي الزراعية في جنوب أفريقيا فيما يمثل البيض، كمجموعة سكانية أغلبها تتشكل من الأفراكانير، أكثر بقليل من 7 في المئة من مجموع السكان

يزداد عمق المفارقة عندما نعلم أن إدارة ترمب أوقفت برنامج اللاجئين في يومها الأول في الحكم، 20 يناير/كانون الثاني، عندما وقع الرئيس الأميركي أمرا تنفيذيا رئاسيا في ذلك اليوم، علَّق فيه على نحو مفتوح عمل وتمويل برنامج اللجوء الأميركي (يتم تحدي هذا القرار أمام المحاكم). بعد هذا بأسبوعين، في السابع من فبراير/شباط، وقع أمرا رئاسيا تنفيذيا يقضي بأن تقوم السلطات الأميركية بإعادة توطين "اللاجئين الأفراكانير الهاربين من التمييز العرقي الذي تنفذه الحكومة بحقهم"... إضافة إلى قطع المساعدات الإنسانية عن جنوب أفريقيا (بحدود 430 مليون دولار سنويا) تشير كلمة "الأفراكانير" إلى السكان البيض في جنوب أفريقيا المتحدرين من أصول هولندية ومنهم جاءت الطبقة الحاكمة في عهد التمييز العنصري قبل إلغاء هذا الأخير في 1994. بسبب هذا الأمر الرئاسي، وصل إلى أميركا 59 من الأفراكانير كلاجئين في شهر مايو/أيار الفائت، رغم أنهم لا يستوفون تعريف اللاجئين لا بالمعايير الأميركية ولا الدولية.

أ ب
الرئيس الاميركي دونالد ترمب ورئيس جنوب افريقيا سيريل رامافوزا اثناء اجتماعهما في واشنطن في 21 مايو

يعتمد تحديد اللاجئ في أميركا على المعايير الدولية التي وضعتها اتفاقية الأمم المتحدة بخصوص اللاجئين لعام 1951. على أساس هذه الاتفاقية الدولية يحدد قانون اللجوء الأميركي الذي شرعه الكونغرس في عام 1980 اللاجئ بأنه الشخص الموجود خارج بلده، و"لا يستطيع أو لا يرغب في العودة إلى بلده بسبب الاضطهاد أو الخوف المبرر له جيدا من الاضطهاد على أساس العرق أو الدين أو الجنسية او الرأي السياسي أو عضوية مجموعة اجتماعية محددة". أما إذا كان مقدم طلب اللجوء يعيش في داخل بلده، فينبغي أن يحصل استثناء من شرط الوجود خارج البلد من خلال إرسال الرئيس طلبا للكونغرس للحصول على الاستثناء. بخلاف القانون، استثنى ترمب "اللاجئين" الأفراكانير من دون أي تشاور مع الكونغرس للحصول على الاستثناء. حقيقة الأمر أنه لا توجد مؤسسة دولية أو أميركية ذات مصداقية تعتبر أن الأفراكانير، أو المزارعين البيض منهم من ملاك الأراضي، مجموعة مُضطَهَدة في جنوب أفريقيا أو أنها تتعرض لتمييز منهجي من جانب الحكومة، بضمنها تقارير وزارة الخارجية الأميركية السنوية بخصوص أوضاع حقوق الإنسان في العالم. الأكثر من هذا، أن مؤسسات حقوق إنسان كثيرة ومعتبرة، مثل "منظمة العفو الدولية" و"هيومان رايتس ووتش" وأخرى صحافية، فندت على نحو منهجي ومتكرر ادعاءات التمييز الحكومي ضد الأفراكانير وهي الادعاءات التي تتبناها وترددها جماعات يمينية متشددة في جنوب أفريقيا وأميركا بينهم نافذون ومؤثرون أميركيون مثل الملياردير إيلون ماسك والإعلامي المشهور تكر كارلسون. والاثنان مقربان من ترمب. في الحقيقة جاءت أول تغريدة لترمب في 2018، يدعي فيها هذا الاضطهاد المفترض ضد البيض في جنوب أفريقيا مباشرة بعد مشاهدته برنامجا قدمه كارلسون في محطة "فوكس" ادعى فيه الأخير هذا الاضطهاد.
ما تذكره المنظمات الحقوقية والصحافية يشبه كثيرا ما ذكره رامافوزا وتقارير وزارة الخارجية الأميركية السنوية عن حقوق الإنسان: هناك مشكلة جريمة عامة في جنوب أفريقيا تستهدف السود والبيض، خصوصا الجرائم في المناطق الريفية التي تستهدف المزارعين البيض والسود لأسباب اقتصادية وتاريخية، مقابل ضعف الدولة في فرض القانون في تلك المناطق. يمتلك المزارعون البيض نحو 72 في المئة من الأراضي الزراعية في جنوب أفريقيا فيما يمثل البيض، كمجموعة سكانية أغلبها تتشكل من الأفراكانير، أكثر بقليل من 7 في المئة من مجموع السكان. هذا التفاوت الكبير في ملكية الأرض الزراعية هو نتاج مباشر ومتراكم لسياسات عهد التمييز العنصري الجائرة في العقود التي هيمن فيها الأفراكانير على حكم البلد قبل إنهاء هذا العهد في التسعينات من القرن الماضي. يثير هذا التفاوت في ملكية الأرض الزراعية الكثير من الغضب بين سود كثيرين في جنوب أفريقيا، خصوصا بإزاء ما يعتبرونه عجز الحكومات المتتابعة عن تقليل هذا التفاوت الكبير عبر تمليك مزارعين سود لأراض زراعية. 

في الحيز الخاص، لا يتردد ترمب في استخدام لغة عنصرية واضحة في فجاجتها، كما حصل في اجتماع مشهور له مع أعضاء من الحزبين الجمهوري والديمقراطي في شهر يناير 2018

ترمب والغزل مع العنصرية


يثير سلوك إدارة ترمب بخصوص اللاجئين وفهمها للاضطهاد وسبل إثباته وتجاهلها للسياق التاريخي والسياسي للأشياء الكثير من الأسئلة المقلقة بخصوص المعايير المزدوجة ذات الطبيعة العنصرية والأيديولوجية التي تهيمن على تفكير هذه الإدارة وسلوكها في قضايا الهجرة واللجوء. ففيما تمنع هذه الإدارة جلب اللاجئين الذين ثبت تعرضهم للاضطهاد (في عام 2024 مثلا، استقبلت الولايات المتحدة أكثر من مئة ألف لاجئ ينتمون لأكثر من 80 بلدا مختلفا كأفغانستان وسوريا وفنزويلا وبورما وجمهورية الكونغو)، تجلب هذه الإدارة مجموعة "لاجئين" من جنوب أفريقيا من حلفائها الأيديولوجيين المنتمين لأقصى اليمين، لا توجد أدلة على تعرضهم للاضطهاد.
يسلط كامل هذا المشهد الجنوب أفريقي وتعاطي ترمب الانتقائي معه الضوء على الفهم العنصري السائد داخل حركته السياسية "ماغا". وهو الفهم الذي يتمثل عبر بعض سياسات ترمب. تعتقد "ماغا" أن البيض في أميركا يتعرضون للتهميش لصالح الأقليات "المتغولة"، وأنه لا بد من إيقاف هذا التهميش ضدهم. لا يستخدم ترمب نفسه في الحيز العام هذه اللغة العرقية على نحو مباشر، بل يشير إليها ضمنا وعلى نحو متكرر في سياقات مختلفة، باستخدام ثيمة "الأميركيين المنسيين" وتقديم نفسه كمدافع عنهم كما في خطاب تنصيبه رئيسا للمرة الأولى في 2017 إذ ذكّر فيه باستخدام لغة درامية ذات طابع خلاصي "سيتم تذكر [هذا اليوم] العشرين من يناير على أنه اليوم الذي أصبح فيه الشعب حاكمَ هذه الأمة مرة أخرى. الرجال والنساء المنسيون في بلدنا لن يُنسوا مرة أخرى أبدا".
لكن في الحيز الخاص، لا يتردد ترمب في استخدام لغة عنصرية واضحة في فجاجتها، كما حصل في اجتماع مشهور له مع أعضاء من الحزبين الجمهوري والديمقراطي في شهر يناير 2018 أثناء رئاسته الأولى، لمناقشة قضايا تتعلق بالهجرة. بحسب حاضرين في الاجتماع، شعر ترمب بالغضب من جلب لاجئين من هاييتي إلى أميركا قائلا: "لماذا نريد الهايتيين لدينا؟ اطردوهم". ليضيف متسائلا: "لماذا نستقبل مهاجرين من هاييتي والدول الأفريقية؟" التي أطلق عليها توصيف "دول بالوعة" (Shithole Countries)، ليضيف: "لماذا لا نستقبل أناسا من بلدان كالنرويج؟". تسببت هذه العبارات العنصرية، التي لم ينكرها ترمب تاليا قائلا إنه "استخدم لغة خشنة جدا" من دون أن يحددها، بموجة غضب، إذ استنكرها، بوصفها عنصرية، مكتب الأمم المتحدة لشؤون حقوق الإنسان، ومنظمة الوحدة الأفريقية، وممثلو دول وساسة أميركيون.
لم يتراجع حينها لا ترمب ولا إدارته عن هذا الكلام العنصري، بل حتى لم ينكراه، وإنما التفا على العنصرية الصارخة فيه، وذلك في انعكاس حقيقي للطريقة التي يفكر بها الرجل والمقربون منه. أن يتكرر، بعد سبع سنوات وفي رئاسة ترمب الثانية، مشهد شبيه من خلال جنوب أفريقيا و"لاجئيها" الأفراكانير إلى أميركا، فإن ذلك يقول الكثير عن إدارة ترمب التي تقف بالضد من المعايير المؤسساتية للدولة التي تقودها هذه الإدارة. هذه واحدة من المفارقات الكثيرة، تناقض السلطة مع الدولة، التي يثيرها وجود ترمب وأنصاره في سدة السلطة ليقودوا الدولة الأقوى والأكثر نفوذا في العالم والأشد تأثيرا في أوضاعه.

font change