بخلاف الرئاسات الأميركية السابقة، الجمهورية والديمقراطية، تغيب قضايا حقوق الإنسان على نحو لافت في السياسة الخارجية الأميركية في عهد إدارة الرئيس دونالد ترمب (كان الأمر هكذا أيضا في ظل رئاسة ترمب الأولى 2017-2021). في الحقيقة، باستثناء تبني الحريات الدينية بما يعنيه هذا من مكافحة اضطهاد الأقليات الدينية، خصوصا المسيحية منها، في انعكاس لأجندة اليمين المسيحي الداعم بقوة لترمب، لا يُثار عادة ملف حقوق الإنسان في هذه الإدارة.
لكن ترمب المعبأ بالمفاجآت، أثار هذا الملف على نحو علني وشرس وغير مسبوق لحد الآن، خارج إطار الحريات الدينية، أثناء زيارة رئيس جنوب أفريقيا، سيريل رامافوزا، والوفد المرافق له لواشنطن في شهر مايو/أيار الفائت. صنع ترمب حينها دراما أخرى مثيرة أمام الكاميرات في البيت الأبيض عندما أكد بلغة يسودها اليقين مخاطبا ضيفه الجنوب أفريقي أن هناك إبادة بحق المزارعين البيض في بلاده.. "لدينا الكثير من الناس الذين يشعرون بأنهم يُعاقبون، وهم يأتون إلى الولايات المتحدة... إنهم يهربون من جنوب أفريقيا حفاظا على حياتهم. تُصادر أراضيهم وفي أحيان كثيرة يُقتلون". قادت حماسة ترمب في حديثه هذا إلى تقديمه "أدلة" مصورة أمام وسائل الإعلام بحضور ضيفه على القتل المفترض الذي يتعرض له البيض في جنوب أفريقيا، ليظهر تاليا أن معظم هذه "الأدلة" مزيفة أو مبالغ بها كثيرا (بعضها صور مأخوذة من بلدان أفريقية أخرى، وأخرى أعطاها ترمب معنى غير معناها الحقيقي كما في موقع احتجاج باستخدام الصلبان المسيحية حَوّله الرئيس الأميركي إلى مقبرة جماعية لدفن المزارعين البيض المقتولين... إلخ).
عبر مشهد هذه الدراما حيث يهيمن الخيال، بعناد غريب، على الحقيقة الموثقة تكرارا وواسعا، برز أحد تناقضات ترمب وتياره السياسي "ماغا" ("لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى"). لا يهتم هذا التيار لحقوق الإنسان، إذ يركز ترمب على الاقتصاد ويكرر دائما أنه لا يلقي "محاضرات" على رؤساء الدول بخصوص كيفية إدارتهم لبلدانهم (رغم أن هذا ما فعله بالضبط مع رئيس جنوب أفريقيا). مع ذلك، يستخدم الرجل ملف حقوق الإنسان على نحو انتقائي ومتناقض، غالبا ما يعكس تحولات مزاجه الشخصي، وليس التوجهات المؤسساتية (يهاجم مثلا رئيس فنزويلا على خرقه حقوق الإنسان، لكنه يمدح الزعيم الكوري كم جونغ أون، برغم سجل بلاده الفظيع في خرق حقوق الإنسان).