سينما كيشلوفسكي التي حولت الواقع العادي إلى عالم غرائبي

للسينما وجوه أخرى

Micheline Pelletier/Sygma via Getty Images
Micheline Pelletier/Sygma via Getty Images
المخرج كريشتوف كيشلوفسكي في مهرجان كان السينمائي

سينما كيشلوفسكي التي حولت الواقع العادي إلى عالم غرائبي

ذات مرة امتدح أحدهم مخرجا لم يكن يعرفه من قبل، وذلك بعد أن توقف "الريموت كونترول" في يده أثناء التقليب في قنوات التلفزيون على مشهد من فيلم، ولم يدر بالوقت حتى كلمة النهاية. المدهش في الأمر، أن الفيلم لم يكن مترجما وليس به ما يثير، ناهيك عن صعوبة نطق اسم مخرجه البولندي كريستوف كيشلوفسكي. كان هذا كفيلا بأن يجد الرجل في البحث عن كل أفلامه عساه يفسر سر هذا الاستحواذ.

تدلنا تلك الحكاية برغم بساطتها على براعة كيشلوفسكي في إبراز قوة الصورة المرئية، مطمح أي سينمائي في العالم، وأحد أهم عناصر الفن السابع والتي طالما حلم كيشلوفسكي في أن يحققها في أفلامه.

أن تقع في الفخ

ذات مساء، جلس كيشلوفسكي يتصفح ترجمة فرنسية لمختارات من قصائد لشاعرة نوبل البولندية فيسوافا شيمبورسكا، استوقفته قصيدة بعنوان "الحب من النظرة الأولى" وكان انتهى للتو من فيلمه "أحمر" الجزء الأخير من ثلاثيته الشهيرة، حينها تفاجأ بأن ما طرحته شيبمورسكا في قصيدتها يلامس بدقة القضايا التي انشغل بها الفيلم، بل وفي فيلمه الأسبق "فيلم قصير عن الحب"، الفارق الوحيد كما قال بسخرية: احتجت إلى ملايين الدولارات للتعبير عن ذلك، أما هي ففعلته في عشرة أسطر أو أزيد قليلا. لعل هذا الوعي هو ما جعل سينما كيشلوفسكي تبدو متقشفة في الإنتاج إلى حد ما، فنادرا ما تجاوزت ميزانيات أفلامه نصف المعدل الأوروبي المعهود، وكانت مرحلة التصوير لا تستغرق منه أكثر من ثمانية أو تسعة أسابيع في العادة كما صرح في أكثر من لقاء.

وحدها الكتابة، أو فترات التحضير هي التي كانت تطول لشهور وربما لسنوات، بحثا عن فكرة أو مجموعة أفكار تمتلك القدرة على مشاركة المشاعر المتباينة مع المشاهدين واستدراجهم إلى الحيز الشعوري ذاته، وبما يشبه الوقوع في فخ عاطفي بحسب وصفه في حوار سابق، وكأنه يعترف بأن السينما في جوهرها، لا تختلف عن قصيدة أو حالة شعرية قد تداهمك من حيث لا تدري. كانت تلك اللحظة كفيلة بإسعاد كيشلوفسكي، وقد حدث ذلك بالفعل بعد عرض "الحياة المزدوجة لفيرونيكا"، حين اقتربت منه فتاة لتشكره لأنه أتاح لها رؤية ذاتها على الشاشة، حينها قال إنه لم يطمح إلى جمهور عريض بل إلى جمهور مشارك، مؤكدا أنه حتى وإن خرج الفيلم من أجل مشاهد واحد فقط، فهذا يكفيه. وربما لم تكن أزمة بطلة الفيلم سوى انعكاس خفي للمشاعر المختلفة التي عاشها المخرج في فرنسا مغتربا عن موطنه.

كأنه يعترف بأن السينما في جوهرها، لا تختلف عن قصيدة أو حالة شعرية قد تداهمك من حيث لا تدري

ولد كريستوف كيشلوفسكي في 27 يونيو/حزيران سنة1941 بالعاصمة البولندية وارسو، تلك المدينة التي ستبقى حاضرة فيما بعد في جل أفلامه سواء على مستوى سير الأحداث أو كونها منشأ الميلاد لعدد من الشخصيات، وربما نبع ذلك تعويضا عن الطفولة التي قضاها بعيدا عن مدينته، حيث اضطرت الأسرة إلى التنقل من مدينة إلى أخرى بسبب مرض والده بداء السل. والغريب أن كيشلوفسكي لم يغرم بالسينما في صغره، في المقابل ومع مرور الوقت وجد أن خشبة المسرح هي الوسيط الذي يمتلك من المقومات ما يغري لاحترافه، أما الأغرب فهو ما حدث بعد تخرجه من الجامعة حين اختار السينما الوثائقية ليعمل بها لسنوات. أنجز خلالها عددا من الأفلام نالت الاستحسان ولفتت إليه الأنظار، نذكر منها فيلم قصير بعنوان "رؤس ناطقة" 1980. يتتبع الفيلم إجابات متباينة لمجموعة مختلفة الأعمار من البشر عن سؤال: من أنت؟ وماذا تريد؟ الطريف أنه حين قرر طرح السؤال ذاته على نفسه، اكتشف عدم امتلاكه إجابة بحسب ما روى لاحقا.

Peter Turnley/Corbis/VCG via Getty Images
المخرج البولندي الشهير كريشتوف كيشلوفسكي

في عام 1988، فرغ كيشلوفسكي من إنجاز "ديكالوغ" أو "الوصايا العشر"، مسلسله الأبرز المكون من عشر حلقات، والذي شكل نقطة تحول في مسيرته الفنية، حيث انتقل من خانة المخرج المشهور في بلاده، ذلك الطليعي المعارض لسياستها، إلى زمرة كبار مخرجي العالم ممن يمتلكون رؤى وأساليب فنية مغايرة. حتى أن بعض حلقات المسلسل توسعت لاحقا إلى أفلام مستقلة، جلبت لمخرجها المزيد من الجوائز، مثل "فيلم قصير عن الحب" و"فيلم قصير عن القتل".

تدور أحداث الوصايا حول تفاصيل الحياة اليومية لسكان أحد المجمعات السكنية في وارسو، ومن خلال كاميرا متلصصة وكاشفة، يعطينا كيشلوفسكي فرصة استعادة فيلم "النافذة" 1954 للمخرج العالمي ألفرد هيتشكوك، حين جعل بطله يراقب العالم من خلف الزجاج، إلا أن كيشلوفسكي لا يلهو هنا بالغموض ولا يبحث عن ألغاز تفكك، بل يضعنا وجها لوجه أمام هشاشتنا، وفي مقابل ما نؤمن به أو نظن ذلك.

AJ Pics / Alamy
مشهد من فيلم "ثلاثة ألوان: الأحمر" (1994)، من إخراج كيشلوفسكي

عاش كيشلوفسكي ثماني سنوات بين الشهرة والمجد، ليرحل فجأة في منتصف تسعينات القرن الماضي أثناء جراحة قلب مفتوح عن عمر ناهز 55 عاما، تاركا إرثا مختلفا من تاريخ السينما العالمية، قد تتفق أو تختلف معه، لكنك لن تستطيع أن تنجو بنفسك من عوالمه، سواء أثناء المشاهدة أو بعد كلمة النهاية، حينها تكتشف أن المخرج لم يبتعد كثيرا عن قصيدة شيبمورسكا "كل بداية... ما هي إلا استمرار متواصل، وكتاب الأحداث.. دائما مفتوح في منتصفه"، وهو المعنى نفسه تقريبا الذي تطرحه أفلامه، فكثيرا ما تبدأ الحكاية من منتصفها، لتنحرف لاحقا سواء إلى الأمام أو الخلف. وفي فيلمه البديع "صدفة عمياء" 1987 يتتبع منهجية سردية مختلفة قائمة على الاحتمالات أو ما يسمى بأثر الفراشة، حيث يقدم ثلاثة سيناريوهات مختلفة لحياة البطل يحاول كل منها الإجابة عن سؤال "ماذا لو" تغيرت مسيرة الأحداث والتفاصيل بشكل قدري.

التفكير بالسينما

الوعي بالأسئلة المحورية حول طبيعة السينما هو السبيل الرئيسي لفلسفتها، لاسيما وأن طبيعتها المركبة تختلف تماما عند المقارنة بالأدب على سبيل المثال أو حتى الفنون المرئية الأخرى. يقول آيزنشتاين: "السينما تستطيع وبالتالي يجب عليها أن تعطي الشاشة وبشكل حسي ملموس الجوهر الجدلي لمجادلاتنا الايديولوجية". فيما أكد الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز أن السينما بوسعها إحداث صدمة في الفكر، أي أنها "تقوم بنوع من التفكير السينمائي المعتمد على الصور الذي يتحدى الفلسفة ويقاومها ويدفعنا إلى التفكير كرد فعل على ما يمكننا الفيلم من الإحساس به، لكن دون أن تختزل السينما إلى مجرد تصور لأطروحة أو بنية فلسفية". من هنا، تبدو "السينما/الفلسفة" ممارسة فكرية داخل الصورة ومن خلالها، حيث تشتبك الأفكار مع النور والظلال ويصبح الجدل فعلا بصريا يمكن معايشته والإحساس به لا رؤيته فحسب.

لا يوجد شرح أو تبرير ولا ثمة من يرشدك، وحينها لا مناص من الشعور كمن ألقي به في الماء وترك ليحاول النجاة

على مدار عمرها القصير بين الفنون الأخرى (130 سنة)، قدمت السينما آلاف الأفلام المتنوعة، منها ما استحق الخلود ومنها ما تلاشى بالطبع، كما ظهرت بعض الأفلام أشبه برسائل مغلقة أو مشفرة في بعض الأحيان، تحتاج إلى جهد خاص لقراءتها، حتى وإن بدت بسيطة على السطح مثل أفلام كيشلوفسكي التي أتقنت هذا النوع من التشفير. فهي لا تقدم العالم في صورة مكتملة أو ناقصة بل تهمس لك به عبر المشاهد واللقطات. لا يوجد شرح أو تبرير ولا ثمة من يرشدك، وحينها لا مناص من الشعور كمن ألقي به في الماء وترك ليحاول النجاة. يتجلى ذلك بوضوح في الأفلام الأخيرة لكيشلوفسكي وبخاصة في "ثلاثية الألوان" التي عمل في أجزاء كثيرة منها في الوقت نفسه، وعرضت خلال العامين 1993 و1994.

MK2/CED/FRANCE 3/CAB/TOR/CANAL + / Album
الاسم الأصلي: Trois Couleurs: Bleu (ثلاثة ألوان: الأزرق). إخراج كريشتوف كيشلوفسكي، 1993، بطولة جولييت بينوش

رغم أن كل فيلم من الثلاثية (أزرق، أبيض، أحمر) يمكن مشاهدته منفصلا، فهي لا تكتمل إلا كمجموعة تتأمل مصير الإنسان وسط عالم هش، في سبيله إلى التداعي، لكنه متوهج بشكل لافت وبارد أحيانا. إنها ثلاث قصص عن شخصيات تحاول في سعيها الشاق اكتشاف الذات والبحث عن انتماء حقيقي في مجتمع يتفنن في المفاجآت، وبالتالي يبحثون عن أشياء مفقودة مثل المفاهيم الثلاث لألوان العلم الفرنسي: الحرية، العدالة، الأخوة. ولكن مع مخرج مثل كيشلوفسكي لن يتم منحهم ذلك بطريقة مباشرة أو بسهولة، إذ تغربل الأحلام على أرض الواقع وتعرى القدرات الحقيقية للفرد في رحلته الصعبة.  

على أن عوالمه تأتي في صورة جزء مقتطع من نظام أكبر حتى وإن كان بشكل عابر، وهو بذلك يضرب عصفورين بحجر: الخروج من الخاص إلى العام/الفرد والجماعة بالإضافة تهيئة القصة بمدخل يناسب سير الأحداث، يمكن ملاحظة هذا في البدايات الثلاث للأفلام وجميعها ظهرت في إطار مغلق: إطار سيارة، حقيبة سفر، هاتف. وعلى مهل ينسج كيشلوفسكي عالمه الدرامي المغلف بالتصاعد النفسي للشخصيات، حريصا على التأني في كشف أوراقه. فالحياة العادية علي أرض الواقع لا تكشف عن نفسها بسهولة، ناهيك علي أن "كل الأشياء ليست سهلة كما تبدو"، الجملة التي ترد على لسان إحدى الشخصيات في "فيلم قصير عن القتل". 

COLLECTION CHRISTOPHEL © MK2 Productions / France 3 Cinema/ Collection Christophel / Alamy
"ثلاثة ألوان: الأبيض" (1994)، إخراج كيشلوفسكي، بطولة زبيغنيف زاماخوفسكي

من اللافت في ثلاثية كريستوف كيشلوفسكي انطلاقها من ثيمات مكررة، بل ومستهلكة، حيث نتابع في الجزء الأول "أزرق" مأساة امرأة (جوليت بينوش) تفقد ابنتها وزوجها في حادثة سير، ثم تخوض رحلة نفسية طويلة لتتحرر من عجزها عن الانتحار، سواء كان ذلك من سطوة الفقد أو صعوبة الاكتشاف (حين علمت بخيانة زوجها). في كلتا الحالتين كان الموت هو الطريق إلى الانعتاق، إن وجد. في الجزء الثاني "أبيض"، يؤكد المخرج إيمانه بالتجريد الجندري، فما يعنيه في الأساس هو الإنسان، لذلك نراه يقلب الآية ويصحبنا في رحلة مع رجل على وشك التداعي (زبجنيو زماشوسكي) بعد حصول زوجته على حكم بالطلاق بسبب عجزه الجنسي، واستحواذها على كل أملاكه. وإمعانا في التجرد السابق، احتفي كيشلوفسكي في الجزء الثالث "أحمر" بتوسيع دائرة المشاعر الإنسانية سواء كان ذلك مع البشر أو حتى الحيوان.  

نجد أن أفلام كيشلوفسكي كشفت عن صورة غير متوقعة من الكائن البشري، ربما تحمل في جزء منها أبعاد الصورة الحقيقية لذواتنا أو لمناطق نفسية دفينة غير مأهولة

بالنظر إلى مجموعة الأفلام التي أنجزها كيشلوفسكي نكتشف أن الأشياء المتصلة لم تقتصر فقط على ثلاثية الأفلام، فهناك ما يشبه العالم الواحد المنغلق أحيانا ولكن على أقصى اتساعه بحسب وصف ستانلي كيوبرك لفيلمه، بداية من تشابه الشخصيات أو الحبكة، مثل ثيمة الخيانة الزوجية في فيلمي "لا نهاية" 1985 و"أزرق" وغيرهما، وربما تتسلل الشخصيات أيضا من فيلم إلى آخر، كأن يجلس أحدهم في فيلم يشاهد مشهدا من فيلم آخر لكيشلوفسكي، أو حين تحاول جوليت بينوش، بطلة فيلم "أزرق" دخول قاعة المحكمة في لقطة عابرة ضمن المشهد الافتتاحي لفيلم "أبيض".

COLLECTION CHRISTOPHEL © MK2 Productions / France 3 Cinema
مشهد من فيلم "ثلاثة ألوان: الأحمر" (1994)، من إخراج كيشلوفسكي، بطولة جان-لويس ترينتينيان

وتلعب الموسيقى دورا دراميا هاما في تجربة كيشلوفسكي الإخراجية، خصوصا حين يقوم بتوظيفها ببراعة داخل مساحات عريضة من الصمت لا تخلو منها أفلامه، كما لم تخل من المرايا والزجاج واستخدام الفلسفة العكسية أو العاكسة لكليهما، أضف إلى ذلك أن ممارسة الجنس في أفلامه غالبا ما تتم في شكل جنيني، إذ يندمج الطرفان كتوأم غير متشابه، يبحث عن سبل للتواصل لا المتعة. 

في واحد من فصول كتابه "الأزمنة السائلة" يتتبع عالم الاجتماع البولندي زيغمونت باومان تمثلات الخوف وتجلياته في حياة إنسان العصر الحديث، وكيف أفرزت مجموعة من الأوضاع العالمية، فائضا من الخوف البشري، ليس في حاجه لمسبب بعينه. انطلاقا من هذا الفائض، نجد أن أفلام كيشلوفسكي كشفت عن صورة غير متوقعة من الكائن البشري، ربما تحمل في جزء منها أبعاد الصورة الحقيقية لذواتنا أو لمناطق نفسية دفينة غير مأهولة لكل منا، لقد رأى كيشلوفسكي أن العادية المفرطة للواقع الذي نعيشه تحمل من الغرائبية ما يفوق الخيال نفسه، فراهن على صنع عالم ناصع القتامة والشفافية على حد سواء.

font change

مقالات ذات صلة