ذات مرة امتدح أحدهم مخرجا لم يكن يعرفه من قبل، وذلك بعد أن توقف "الريموت كونترول" في يده أثناء التقليب في قنوات التلفزيون على مشهد من فيلم، ولم يدر بالوقت حتى كلمة النهاية. المدهش في الأمر، أن الفيلم لم يكن مترجما وليس به ما يثير، ناهيك عن صعوبة نطق اسم مخرجه البولندي كريستوف كيشلوفسكي. كان هذا كفيلا بأن يجد الرجل في البحث عن كل أفلامه عساه يفسر سر هذا الاستحواذ.
تدلنا تلك الحكاية برغم بساطتها على براعة كيشلوفسكي في إبراز قوة الصورة المرئية، مطمح أي سينمائي في العالم، وأحد أهم عناصر الفن السابع والتي طالما حلم كيشلوفسكي في أن يحققها في أفلامه.
أن تقع في الفخ
ذات مساء، جلس كيشلوفسكي يتصفح ترجمة فرنسية لمختارات من قصائد لشاعرة نوبل البولندية فيسوافا شيمبورسكا، استوقفته قصيدة بعنوان "الحب من النظرة الأولى" وكان انتهى للتو من فيلمه "أحمر" الجزء الأخير من ثلاثيته الشهيرة، حينها تفاجأ بأن ما طرحته شيبمورسكا في قصيدتها يلامس بدقة القضايا التي انشغل بها الفيلم، بل وفي فيلمه الأسبق "فيلم قصير عن الحب"، الفارق الوحيد كما قال بسخرية: احتجت إلى ملايين الدولارات للتعبير عن ذلك، أما هي ففعلته في عشرة أسطر أو أزيد قليلا. لعل هذا الوعي هو ما جعل سينما كيشلوفسكي تبدو متقشفة في الإنتاج إلى حد ما، فنادرا ما تجاوزت ميزانيات أفلامه نصف المعدل الأوروبي المعهود، وكانت مرحلة التصوير لا تستغرق منه أكثر من ثمانية أو تسعة أسابيع في العادة كما صرح في أكثر من لقاء.
وحدها الكتابة، أو فترات التحضير هي التي كانت تطول لشهور وربما لسنوات، بحثا عن فكرة أو مجموعة أفكار تمتلك القدرة على مشاركة المشاعر المتباينة مع المشاهدين واستدراجهم إلى الحيز الشعوري ذاته، وبما يشبه الوقوع في فخ عاطفي بحسب وصفه في حوار سابق، وكأنه يعترف بأن السينما في جوهرها، لا تختلف عن قصيدة أو حالة شعرية قد تداهمك من حيث لا تدري. كانت تلك اللحظة كفيلة بإسعاد كيشلوفسكي، وقد حدث ذلك بالفعل بعد عرض "الحياة المزدوجة لفيرونيكا"، حين اقتربت منه فتاة لتشكره لأنه أتاح لها رؤية ذاتها على الشاشة، حينها قال إنه لم يطمح إلى جمهور عريض بل إلى جمهور مشارك، مؤكدا أنه حتى وإن خرج الفيلم من أجل مشاهد واحد فقط، فهذا يكفيه. وربما لم تكن أزمة بطلة الفيلم سوى انعكاس خفي للمشاعر المختلفة التي عاشها المخرج في فرنسا مغتربا عن موطنه.