منذ أن رفرفت أول أجنحة الحلم البشري في فضاء عام 1958، راحت الأرض ترسل أبناءها المعدنيين في رحلات جريئة نحو الكواكب والأقمار والكويكبات، بحثا عن أسرار الكون القريب. أكثر من 250 مركبة فضائية عبرت هذا البحر الكوني في ستة عقود، تجوب المدارات وتلامس الأسطح، توثق الغيوم والعواصف، وتقيس التضاريس والسهول، وتلتقط صورا أدهشت العيون وأثرت الخيال. لكن، ورغم كل ما جُمع من كنوز المعرفة فوق السطح، ظل الباطن لغزا صامتا، يخفي في طبقاته العميقة حكايات تكوّن العوالم وتحولاتها عبر البراكين والزلازل والتعرية والترسيب. وهناك، في ذلك الظل البعيد عن الرياح والإشعاع، قد تكمن بقايا حياة غابرة أو دلائل على وجودها، محفوظة كما تُحفظ الأسرار الثمينة في قلب الصخور، تنتظر من يطرق أبوابها.
وتعد فتحات أنفاق الحمم البركانية، أو ما يُعرف بـ"فتحات السقف"، من أكثر المداخل الواعدة إلى باطن الكواكب. وهي ليست ذات أهمية علمية فقط، بل تمثل أيضا خيارا استراتيجيا لإقامة محطات بشرية مستقبلية على القمر أو المريخ، لما توفره من حماية طبيعية ضد الإشعاع الضار، والتقلبات الحرارية الشديدة، والعواصف الترابية، واصطدام النيازك الصغيرة.
وقد تم بالفعل تحديد أنفاق عدة من هذا النوع على سطح المريخ والقمر عبر صور مدارية، لكن حتى الآن لم تُرسل أي بعثات بشرية لاستكشافها نظرا لصعوبة هذه المهمة وخطورتها.
أنفاق الحمم البركانية قنوات طبيعية تشكلت تحت سطح الأرض أو الكواكب نتيجة تدفق الحمم البركانية المنصهرة أثناء ثوران البراكين، حيث يبرد السطح الخارجي للحمم ويتصلب، مكونا "سقفا" صخريا، بينما يستمر تدفق الحمم الساخنة أسفل هذا الغطاء حتى تنحسر تاركة وراءها نفقا أجوف.
وقد تمتد هذه الأنفاق كيلومترات عدة وتختلف أحجامها من ممرات ضيقة إلى قاعات ضخمة، وتتميز بقدرتها على توفير بيئات مستقرة نسبيا ومحمية من الظروف القاسية على السطح، مما يجعلها ذات قيمة علمية واستراتيجية كبيرة في استكشاف الكواكب وإقامة قواعد بشرية مستقبلية.
نجح فريق من الباحثين الأوروبيين في اختبار روبوتات ذاتية القيادة لاستكشاف كهوف الحمم البركانية وهي أنفاق طبيعية تحت سطح القمر والمريخ في ظروف ميدانية حقيقية
لا يقتصر الاهتمام بأنفاق الحمم على الكواكب البعيدة، بل يمتد إلى كوكبنا. فقد أظهرت الدراسات أن هذه الأنفاق على الأرض تضم أنظمة بيئية دقيقة وفريدة، بل واكتشفت فيها أنواع ميكروبية جديدة لم تعرف من قبل. كما أن الانفجارات البركانية الحديثة، مثل ثوران بركان "كومبر فييخا" في جزيرة لا بالما بإسبانيا عام 2021، أنتجت أنفاقا جديدة، لم يتمكن البشر من دخولها حتى الآن بسبب الحرارة الشديدة والبيئة الكيميائية الخطرة في داخلها.
تحدي بيئات تحت الأرض
وهنا يبرز تساؤل في ظل هذه التحديات يتعلق بكيفية استكشاف تلك الأنفاق، ويرى العلماء أن الحل الأكثر أمانا والأقل تكلفة هو البعثات الروبوتية، إذ يمكن التحكم في هذه الروبوتات من الأرض عبر محطات قيادة ومراقبة، خاصة خلال المهام السطحية. لكن عند الانتقال إلى بيئات تحت السطح، تظهر مشكلة تأخر الاتصال، مما يستلزم أن تكون الروبوتات أكثر استقلالية في قراراتها وحركتها.
يُظهر تصميم فني روبوت ريتشبوت وهو يستخدم أذرعه القابلة للتمدد لاستكشاف كهف مريخي
وقد أظهرت تجارب وكالة أبحاث الدفاع الأميركية المتعلقة بتحدي البيئات تحت الأرض، مدى التعقيد الذي يواجه الروبوتات في مثل هذه المهام، وأكدت أن الفرق الروبوتية المتنوعة -غير المتجانسة- تتفوق على الروبوتات الفردية أو الفرق المتماثلة، إذ يمكن تخصيص مهام مختلفة لكل روبوت حسب قدراته، مما يزيد الكفاءة ويوفر عنصر التكرار الاحتياطي عند حدوث الأعطال.
وقد نجح فريق من الباحثين الأوروبيين في اختبار روبوتات ذاتية القيادة لاستكشاف كهوف الحمم البركانية — وهي أنفاق طبيعية تحت سطح القمر والمريخ — في ظروف ميدانية حقيقية. جرت الاختبارات خلال بعثة استمرت 21 يوما في جزيرة لانزاروت بجزر الكناري، حيث تعاونت ثلاثة روبوتات مختلفة المهام لرسم خريطة المدخل، وإسقاط مكعب استشعار داخل الكهف لبناء نموذج ثلاثي الأبعاد، ثم تنفيذ نزول معقد إلى أعماقه تلاه مسير ذاتي لمسافة 235 مترا مع إجراء مسح ثلاثي الأبعاد متزامن.
وقد أظهرت تلك التجربة أن فريقا من الروبوتات يمكن أن يتعاون بشكل آمن وفعال لاستكشاف أنبوب حمم بركانية ورسم خريطة لمحيطه وداخله، وقدمت هذه الدراسة مفهوما مبتكرا للمهمة يمكن أن يمهد الطريق لمهام استكشافية مستقبلية على سطح القمر والمريخ.
اعتمد فريق البعثة على مجموعة روبوتات غير متجانسة مكوّنة من ثلاثة أنظمة، لكل منها دور محدد في المهمة. الروبوت الأول المعروف باسم "SherpaTT " مكون من عربة هجينة بعجلات وأرجل قادرة على تغيير حجم قاعدة الحركة، مزودة ذراعا آلية بست درجات حرية، وقادرة على حمل معدات تصل إلى 25 كيلوغراما في بيئة الجاذبية الأرضية.
أسفرت هذه الجهود عن إنتاج خريطة رقمية دقيقة للسطح بنسبة خطأ متوسط 0.298 متر، مكنت الفريق من تحديد مواقع مثالية لإطلاق المكعب الاستشعاري ومسارات بدء الإنزال
كانت المهمة الأساس استكشاف السطح، ودعم عمليات الإنزال بالحبل، والعمل كمرساة متحركة. أما الروبوت الثاني واسمه"Coyote III " فهو روبوت صغير لا يتعدى وزنه 20 كيلوغراما ويتميز بقدرة عالية على المناورة في المساحات الضيقة، ومجهز رادارا مخترقا للأرض للبحث عن أنفاق الحمم، إضافة إلى نظام تعليق بالحبال لربطه مع الروبوت الأول أثناء عمليات الإنزال ونقل الطاقة والبيانات. أما الروبوت الثالث LUVMI-X، فهو عربة خفيفة ومنخفضة التكلفة صممت أساسا لاستكشاف الموارد على القمر، لكنه في هذه المهمة زوّد وحدة إطلاق مكعب استشعاري لجمع البيانات عن فتحة النفق.
واستمر الاختبار الميداني على جزيرة لانزاروت الإسبانية ضمن شبكة نفق الحمم البركانية "لا كورونا" لمدة 21 يوما، جرى خلاله اختبار جميع الأنظمة قبل تنفيذ المهمة الكاملة على أربع مراحل. في المرحلة الأولى، تولى الروبوتان الأول والثالث مسح المناطق المحيطة بالفتحة، حيث غطى الروبوت الأول مساحة نحو 900 متر مربع في 15 دقيقة، بينما استكشف الروبوت الثالث نحو 400 متر مربع في 25 دقيقة. في الوقت نفسه، نفذ الروبوت الثاني مسارا قصيرا طوله ثلاثة أمتار، ملتقطا بيانات كل 10 سنتيمترات لرسم صورة تحت السطح.
إنزالات متعددة
وقد أسفرت هذه الجهود عن إنتاج خريطة رقمية دقيقة للسطح بنسبة خطأ متوسط 0.298 متر، مكنت الفريق من تحديد مواقع مثالية لإطلاق المكعب الاستشعاري ومسارات بدء الإنزال، رغم ضعف أداء الرادار بسبب رطوبة التربة الناتجة من الأمطار.
في المرحلة الثانية، استخدم الفريق مكعبا استشعاريا مزودا كاميرات بانورامية ونظاما حاسوبيا لمعالجة البيانات، بالإضافة إلى وحدة اتصال لإرسال المعلومات إلى الروبوت الثالث أثناء نزوله داخل الفتحة. جرى الإطلاق أولا باستخدام نموذج غير مزود حساسات لاختبار آلية القذف، ثم نفذ النزول الفعلي باستخدام نظام محاكاة للجاذبية المنخفضة عبر بكرة تحكم كهربائية. أنتجت هذه المرحلة نموذجا ثلاثي الأبعاد مفصلا لفتحة النفق، كشف عن وجود أضيق نقطة على عمق 2.65 متر وبقطر يقدر بـ 1.85 متر، كما سمح تحليل خشونة الجدران بتحديد أنسب نقطة لبدء عملية الإنزال.
أما المرحلة الثالثة فركزت على إنزال الروبوت الثاني إلى داخل النفق عبر الحبل. تمركز الروبوت الأول عند الموقع المحدد، ومد ذراعه الآلية لنشر نظام إدارة الحبل، بينما تحرك الروبوت الثاني للالتحام به. بعد تأمين الاتصال وتوصيل الطاقة والبيانات، بدأ الروبوت الصغير النزول تدريجيا، مع مزامنة سرعة حركته وسرعة تحرير الحبل للحفاظ على شد ثابت. استُخدم نظام تحكم متقدم لتوزيع القوى على مفاصل الذراع الآلية بما يمنع تلف الأجزاء الدقيقة. انتهت المرحلة بنجاح عندما هبط الروبوت الثاني على أرضية النفق وانفصل عن الحبل.
أظهرت قدرات التنقل للروبوت الثاني كفاءة عالية أثناء التحكم عن بُعد في جميع أنحاء الكهف
وفي المرحلة الرابعة والأخيرة، بدأ الروبوت الثاني مهامه الاستكشافية داخل النفق، متحركا عبر أرضية وعرة وملتوية، بينما كان ينقل البيانات الحية إلى الروبوت الأول على السطح عبر نظام الحبل. سجل الروبوت القياسات باستخدام أجهزة الاستشعار والكاميرات المثبتة عليه، بما في ذلك تحليل التركيب البنيوي للجدران وتحديد مناطق الانهيار المحتملة. استمر التقدم لمسافة أمتار عدة قبل العودة إلى نقطة الاتصال، حيث أعيد رفعه إلى السطح بسلام. وبهذا اكتمل العرض العملي لسيناريو استكشاف أنفاق الحمم باستخدام تعاون روبوتات متعددة، وهي خطوة قد تمهد لتطبيق هذه التكنولوجيا في مهام فضائية مستقبلية على القمر أو المريخ.
استغرقت المرحلة الثالثة من المهمة نحو 8 دقائق، خُصص منها في المتوسط 4 دقائق لعملية الإنزال بالحبل. هبط الروبوت الثاني عموديا لمدة دقيقتين تقريبا ليقطع مسافة 5 أمتار بسرعة 5 سنتيمترات في الثانية حتى وصل إلى قاع نفق الحمم. وأثناء النزول العمودي، بدأ الروبوت أحيانا بالدوران المحوري المستمر، مما جعل عجلاته تدور طوال العملية. وبذلك، بدأ الروبوت بالتحرك فور ملامسته الأرض، مما ضمن هبوطا ناجحا.
في ما يتعلق بالقوى المؤثرة على الذراع الروبوتية للروبوت الأول، تمكن نظام التحكم التنبوئي من تعديل وضعية الروبوت -القاعدة ومفاصل الذراع- للحفاظ على عزم الدوران ضمن الحدود المسموح بها، مع بقاء آخر جزء من الذراع دائما في محاذاة الحبل. أظهر مقطع الفيديو كيف جرى تقليل عزوم الدوران من خلال التنسيق بين حركة الروبوت والذراع، وقد كان الهدف من المرحلة الرابعة بناء تمثيل ثلاثي الأبعاد دقيق لنفق الحمم وإرسال هذه البيانات إلى محطة التحكم والمراقبة وخلال الاختبار الميداني، تم إجراء تحليل أولي لأداء الروبوت في التنقل وتمثيل البيئة داخل النفق.
خرائط الكهوف
أظهرت قدرات التنقل للروبوت الثاني كفاءة عالية أثناء التحكم عن بعد في جميع أنحاء الكهف. تميز الكهف بمقاطع عرضية رأسية يتراوح نصف قطرها بين 50 سم و4 أمتار، وبانحدارات تصل إلى 25°، إضافة إلى أنواع مختلفة من الأسطح من ضمنها الحصى، والرمال الممزوجة بصخور مدفونة قرب فتحة النفق، وتشكيلات الحمم المتصلبة الناعمة والوعرة الحادة، كما قطع الروبوت أكثر من 235 مترا في وضع التحكم عن بعد داخل الكهف.
وقد تمكن الروبوت من التحرك بسهولة من دون أي أضرار رغم ضيق المساحة وخشونة السطح. ومع ذلك، منعت بعض المناطق المليئة بصخور ضخمة منهارة من السقف الروبوت من التقدم، مما أعاق الوصول إلى أجزاء من الكهف. كانت أخطر المناورات هي الالتفاف في نقطة ثابتة وكان لا بد من تجنبها على الأسطح الصخرية الوعرة، إذ يمكن أن تمنع العجلات من الحركة أو تتسبب بانقلاب الروبوت، مما يهدد نجاح المهمة.
في هذه المرحلة، تم إنتاج خرائط للكهوف من بيانات الروبوت والتحقق من كفاءة حركة الثاني داخل النفق.
على الرغم من النجاح الكبير لهذه المهمة، يرى الباحثون أن هناك تحديات يجب التغلب عليها في المستقبل. أهم هذه التحديات هو تحسين الاتصالات والتحكم في مهام الاستكشاف الذاتية بالكامل
ورغم أن إنشاء الخرائط على متن الروبوت لم يكن موثوقا به بسبب التشويشات، فقد أنتجت لاحقا عمليات إعادة بناء للبيئة باستخدام بيانات إضافية التقطها الروبوت الثاني أثناء القيام بحركات بسيطة محددة مسبقا في منطقة الهبوط. جمعت بيانات إضافية أثناء تشغيل الروبوت عن بُعد في أقسام مختلفة من الكهف. خلال الجلسات التلقائية والمتحكم بها من بعد، تم تسجيل البيانات الخام وأوضاع الروبوت، وأصبحت متاحة للعامة.
ولمقارنة جودة الخرائط، جُلب روبوت إضافي إلى الاختبار الميداني لتوليد نقاط ثلاثية الأبعاد كاملة للكهف، نظرا لعدم وجود بيانات دقيقة مسبقة عن شكل الكهف. تم تزويد الروبوت الإضافي حساسات وخلايا دقيقة لإجراء مقارنة كمية دقيقة أو إنتاج نموذج ثلاثي الأبعاد بالغ الدقة، إلا أن هذه البيانات كانت مفيدة لفهم البنية المورفولوجية لنفق الحمم في سياق المهمة.
استخدام روبوت ريتشبوت لاستكشاف الكهوف القمرية لمعرفة ما إذا كان بإمكان رواد الفضاء استخدامها كمورد
يشير الباحثون إلى أن التنقل الذاتي بالكامل هو هدف مرغوب لهذه المهام، لكن ما جرى إثباته في هذه الدراسة كان قدرات الحركة ورسم الخرائط فقط. لذلك، تظل هناك حاجة لابتكار أساليب جديدة في تحديد الموقع، والاتصالات، وتخطيط المسار، والتحكم، خاصة في سياق استكشاف أنفاق الحمم في البيئات الكوكبية. ويظل القيد الأكبر في هذا المجال هو محدودية قدرة المعالجات المؤهلة للاستخدام الفضائي.
آفاق جديدة
تندرج هذه الدراسة ضمن إطار مشروع أوروبي أوسع يعرف باسم الروبوتات التعاونية للبيئات القاسية، يهدف إلى ابتكار تقنيات روبوتية متطورة للعمل في بيئات شديدة الصعوبة مثل الكهوف البركانية والمناجم.
ويفتح هذا المشروع آفاقا جديدة لاستكشاف أنابيب الحمم البركانية التي توفر ملاذا طبيعيا يحمي المستعمرات البشرية المستقبلية على القمر أو المريخ من الإشعاع الشمسي، وتقلبات درجات الحرارة، والمطر النيزكي، مما يجعلها مواقع مثالية لإقامة قواعد بشرية مستدامة. كما أن هذه الكهوف تمثل بيئة واعدة للبحث عن مؤشرات الحياة الميكروبية المحتملة تحت السطح، وهو ما يعزز جهود البحث عن وجود حياة سابقة أو حالية خارج الأرض. إضافة إلى ذلك، فهي تشكل أرشيفا جيولوجيا طبيعيا يمكنه كشف أسرار التاريخ البركاني للكواكب من خلال طبقات الصخور والحطام المحفوظة منذ ملايين السنين.
أما من الناحية التقنية، فإن اعتماد نهج الروبوتات التعاونية يمثل نقلة نوعية في استكشاف الفضاء، إذ يتيح توزيع المهام بين روبوتات متخصصة لزيادة الكفاءة وتقليل الأخطار مقارنة بالاعتماد على روبوت منفرد.
على الرغم من النجاح الكبير لهذه المهمة، يرى الباحثون أن هناك تحديات يجب التغلب عليها في المستقبل. أهم هذه التحديات هو تحسين الاتصالات والتحكم في مهام الاستكشاف الذاتية بالكامل. فإشارات الراديو لا يمكن أن تخترق الصخور، مما يجعل الحفاظ على الاتصال بين الروبوتات السطحية والجوفية أمرا صعبا.
يقترح الباحثون تطوير أنظمة اتصالات جديدة، مثل استخدام روبوتات وسيطة أو أنظمة اتصالات تعتمد على الليزر، لضمان استمرارية نقل البيانات بين الروبوتات وقاعدة التحكم على السطح.
المستعمرات البشرية
على سطح القمر والمريخ، لا توجد طبقة غلاف جوي سميكة أو مجال مغناطيسي يحجب الأشعة الضارة القادمة من الشمس والفضاء العميق، مما يجعل أي مستعمرة بشرية معرضة لمستويات إشعاع قاتلة إذا أقيمت في العراء. هنا تظهر ميزة أنابيب الحمم: جدرانها السميكة من الصخور البركانية يمكن أن تمتص معظم هذه الإشعاعات، فتخلق بيئة طبيعية أكثر أمانا للحياة والعمل.
الدراسات التي أجرتها وكالة "ناسا "والوكالة الأوروبية للفضاء تشير إلى أن هذه الأنفاق قد تصل أحيانا إلى أبعاد هائلة، بعرض مئات الأمتار وامتداد عشرات الكيلومترات، مما يسمح بتحويلها إلى مدن كاملة تحت السطح. إضافة إلى الحماية من الإشعاع، توفر هذه المواقع استقرارا حراريا، إذ تقل فيها الفوارق الكبيرة بين حرارة النهار وبرودة الليل، وهي مشكلة شديدة على القمر حيث تتجاوز الفروق 260 درجة مئوية.
في تلك البيئات المجهولة، ستكون الروبوتات عيون البشر وأيديهم وهي التي ستحدد ما إذا كانت هذه الأنفاق حلما واعدا للاستيطان
ويذهب بعض العلماء إلى أبعد من ذلك، مقترحين أن يتم استغلال الموارد المحلية داخل هذه الأنفاق، مثل الغبار البركاني (الريغوليث) والمياه الجليدية المحتملة في المريخ، لبناء هياكل إضافية أو إنتاج الوقود والأوكسجين. بهذا، تتحول أنابيب الحمم من مجرد مأوى إلى نواة حضارة بشرية جديدة خارج الأرض.
تأتي فائدة استخدام الروبوتات في استكشاف أنابيب الحمم البركانية على القمر أو المريخ والتي لم تعد مجرد رفاهية، بل ضرورة عملية وحياتية في التخطيط لأي وجود بشري دائم هناك. فهذه الأنفاق المظلمة والعميقة، رغم ما توفره من حماية طبيعية، تظل بيئات غير مأهولة مليئة بالأخطار المجهولة. فربما تكون أرضيتها غير مستقرة، أو ربما تمتلئ بالصخور المتساقطة، والأماكن الضيقة، أو الفجوات العميقة. وبالتالي، فإرسال البشر مباشرة إليها سيكون مخاطرة هائلة، خاصة في المراحل الأولى من الاستكشاف.
هنا يأتي دور الروبوتات، التي يمكن تصميمها خصيصا لتتحمل ظروف هذه البيئات القاسية، مزودة أنظمة رؤية ثلاثية الأبعاد، وحساسات للكشف عن الإشعاع ودرجة الحرارة، وأذرع آلية لجمع العينات. هذه الآلات تستطيع الدخول عبر فتحات السقف الضيقة، والزحف أو التدحرج أو حتى الطيران باستخدام تقنيات الطائرات الصغيرة داخل الأنفاق، لرسم خرائط دقيقة للفراغات الداخلية وتحديد المساحات الآمنة والقابلة للبناء.
كما أن هناك ميزة أخرى حاسمة. فالروبوتات لا تتأثر بالإشعاع أو نقص الهواء كما يتأثر البشر، ويمكنها العمل لفترات طويلة متواصلة دون الحاجة لإمدادات حياة معقدة. كما يمكن تشغيلها عن بعد من المدار أو حتى من الأرض، أو برمجتها لتعمل بشكل شبه ذاتي، ما يقلل الحاجة للتدخل البشري المباشر.
قدّم باحثون من وكالة "ناسا" مختبر الدفع النفاث-معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا "كلاب المريخ"، القادرة على المناورة.
إضافة إلى الاستكشاف، يمكن الروبوتات أن تقوم بمهام تحضيرية قبل وصول البشر، مثل تقييم مصادر المياه الجليدية، أو تنظيف الممرات من الصخور المتساقطة، أو حتى تركيب أجهزة استشعار طويلة الأمد لمراقبة الظروف البيئية داخل النفق. وبذلك تتحول هذه المهمات إلى خطوة أولى في تحويل أنابيب الحمم من مجرد فراغات طبيعية إلى بنية تحتية جاهزة للاستيطان.
في تلك البيئات المجهولة، ستكون الروبوتات عيون البشر وأيديهم وهي التي ستحدد ما إذا كانت هذه الأنفاق حلما واعدا للاستيطان… أم مجرد فكرة جميلة تصطدم بالواقع القاسي للفضاء.