العلاقات الأوروبية - الصينية من منظور جيوسياسي

من أوكرانيا وأفريقيا إلى تايوان

أ.ف.ب
أ.ف.ب
رئيس مجلس الدولة الصيني لي تشيانغ ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين يحضران ندوة قادة الأعمال بين الاتحاد الأوروبي والصين في بكين في 24 يوليو 2025

العلاقات الأوروبية - الصينية من منظور جيوسياسي

كشفت القمة الصينية-الأوروبية الأخيرة (بمناسبة الذكرى الخمسين للعلاقات بين الصين والاتحاد الأوروبي) عن الفجوة الاستراتيجية التي تفصل بين بكين وبروكسل. ويتبين أن الصين لم تعد تعتبر الاتحاد الأوروبي محاورا استراتيجيا. ويقتضي ذلك استخلاص أوروبا لدروس من إخفاقاتها وأسباب طغيان حوار الطرشان على الحوار الصيني-الأوروبي في هذه اللحظة من الاضطراب الاستراتيجي عالميا.

ومما لا شك فيه أن الأبعاد الجيوسياسية والاقتصادية ستحدد مستقبل العلاقات الحيوية والمعقدة بين الجانبين في آن معا. ولذلك تعتبر التنافسية المحتدمة في أفريقيا، والموقف الأوروبي من مسألة تايوان، عناصر معيقة لتطور العلاقات الثنائية بالرغم من إمكانيات التقاطع الاقتصادي وتبادل المصالح.

المقاربة الأوروبية وأثر حرب أوكرانيا

تنبه البعض في أوروبا مبكرا إلى أهمية الصلات مع الصين وكان الجنرال شارل ديغول رئيس الجمهورية الفرنسية الأسبق أول من سارع للاعتراف بالصين الشعبية أوائل 1964 وذلك في أوج الحرب الباردة وإبان احتدام الخلاف الأيديولوجي-السياسي بين موسكو وبكين. ولم تلحق الولايات المتحدة بفرنسا إلا بعد عقد من الزمن في حقبة الثنائي نيكسون-كيسنجر.

وهذا التموضع الجيوسياسي للأقطاب الدولية نلمحه حاليا ويدور حول المسألة الأوكرانية وأثرها في صلات المثلت الأميركي-الأوروبي-الصيني.

في عالم متعدد الأقطاب في طور التشكل، تُبدي قوى قديمة وجديدة ذات طموحات إقليمية وعالمية، اهتماما بأفريقيا التي تبحث عن الشركاء الذين تحتاجهم لتنميتها

بيد أنه تجدر الإشارة إلى أن الاتحاد الأوروبي كان بطيئا في التعامل مع النفوذ الصيني المتنامي في العالم، ولم تقترح المفوضية الأوروبية استراتيجية للتعامل معه إلا في عام 2019، استنادا إلى ثلاثية اعتبرت فيها الصين "شريكا، ومنافسا تجاريا، ومنافسا منهجيا". 

في الفترة الأخيرة، ألقت المسألة الأوكرانية بظلالها على العلاقات الأوروبية-الصينية من الناحية الجيوسياسية نظرا لانقسام عالمي حاد تبلور مع عودة الحرب إلى القارة القديمة في 2022، وذلك بين معسكر الولايات المتحدة وحلف "الناتو" والاتحاد الأوروبي من جهة ومعسكر روسيا والصين وكوريا الشمالية وحلفائهم من جهة أخرى. 

أ.ف.ب
رئيس مجلس الدولة الصيني لي تشيانغ ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين يحضران ندوة قادة الأعمال بين الاتحاد الأوروبي والصين في قاعة الشعب الكبرى في بكين في 24 يوليو 2025

في هذا السياق كان لافتا لدى انعقاد القمة الأوروبية-الصينية أخيرا في بكين، مطالبة رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين للصين باستخدام نفوذها كي تحث روسيا على قبول وقف إطلاق النار في أوكرانيا. وبينما ركز الجانب الأوروبي على أن "موقف الصين من مآلات الحرب في أوكرانيا سيكون عاملا حاسما في تحديد مستقبل العلاقات مع الصين"، شددت بكين على عدم انغماسها في الدعم العسكري المباشر لموسكو والعمل من أجل الحل السياسي العادل حسب وجهة نظرها المؤيدة لروسيا. 

على صعيد أشمل، اتفق الاتحاد الأوروبي والصين خلال قمة بكين على آلية جديدة للمساعدة في تسهيل تصدير المعادن النادرة، كما أصدرا بيانا مشتركا بشأن مكافحة تغير المناخ بروح اتفاق باريس لعام 2016، ومع ذلك، فإن الخلافات في مجالات مثل التجارة الثنائية والنزاع الروسي-الأوكراني ستتطلب جولات إضافية من المحادثات لمعالجتها.

وأتت قمة دونالد ترمب-فلاديمير بوتين في 15 أغسطس/آب لتمثل منعطفا في الصراع حول أوكرانيا. وإذا كان الموقف الأوروبي غير مؤثر بشكل كبير على مجرياتها، يبقى تفاعل الاتحاد الأوروبي مع الصين عاملا له وزنه النسبي على رقعة الشطرنج الجيوسياسية في العالم.

اختبار القوة في أفريقيا الواعدة 

في عالم متعدد الأقطاب في طور التشكل، تُبدي قوى قديمة وجديدة ذات طموحات إقليمية وعالمية، من خلال وسائل متنوعة (النفوذ السياسي، والاقتصادي والمالي، والوجود العسكري، والتأثير الثقافي، والتركيبة السكانية، وغيرها)، اهتماما بأفريقيا التي تبحث عن الشركاء الذين تحتاجهم لتنميتها.

كشف إنشاء أول قاعدة عسكرية صينية في جيبوتي (وفي الخارج) عام 2017، عن اهتمام بكين الاستراتيجي بأفريقيا

هكذا تشهد القارة السمراء، معقل النفوذ التقليدي الأوروبي والفرنسي، تبدلا جيوسياسيا واقتصاديا لصالح نفوذ قوى غير غربية وأبرزها روسيا والصين. ومما لا شك فيه أن زخم النفوذ الصيني المستجد تزامن منذ أواخر العقد الأول من هذا القرن مع انتقال الصين من موقع القوة الصامتة إلى موقع القوة المؤثرة على المسرح العالمي. وفي العقد الماضي، أظهر إطلاق "مبادرة الحزام والطريق" رغبة الصين في الصعود إلى قمة القوى العظمى وبلورة نظام عالمي جديد.

حسب أليس إكمان، الباحثة في المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية، ترتكز استراتيجية بكين الكبرى على ثلاث دوائر. أولا، تعزيز الدولة الحزبية قوتها الوطنية (من الاقتصاد إلى الجيش، بما في ذلك التكنولوجيا والابتكار)، ثم عرقلة الضغط الأميركي وضرب النفوذ الأوروبي التاريخي والالتفاف عليهما. وأخيرا، ترسيخ المكانة كقوة عالمية من خلال الهيمنة على قرار "الجنوب". وفي هذا الإطار، تُمثل أفريقيا مكانة فريدة في هذا النظام، بالنسبة لبكين، من خلال هذه المجموعة غير المتجانسة التي تمثل دعامة مشتركة معادية للغرب، ووسيلة لتعزيز مصالحها التجارية والتكنولوجية والدبلوماسية. وفيما كان يُعرف سابقا بمجال نفوذها، أو حتى "باحتها الخلفية"، تجد فرنسا نفسها ودولا أوروبية أخرى في منافسة، أو حتى في مواجهة أو صراع، مع عدة قوى، وخاصة الصين، على أفريقيا. وفي العقد الماضي، قام الاتحاد الأوروبي، بتحديث استراتيجيته تجاه أفريقيا.

أ.ف.ب
الرئيس الصيني شي جين بينغ يتحدث في حفل افتتاح منتدى التعاون الصيني الأفريقي (فوكاك) في بكين في 5 سبتمبر 2024

مما لا شك فيه أن العلاقات بين أفريقيا وجمهورية الصين الشعبية تُشكل جزءا أساسيا من العلاقات الدولية، لا سيما في مجال ما يُسمى العلاقات بين بلدان الجنوب. من هنا، رسخت بكين مكانتها باعتبارها الشريك التجاري الرائد لأفريقيا. في المقابل، تبرز التبعية الأفريقية وعدم التوازن لأن أفريقيا لا تمثل إلا 3 في المئة فقط من التجارة الخارجية للصين. 

وقد كشف إنشاء أول قاعدة عسكرية صينية في جيبوتي (وفي الخارج) عام 2017، عن اهتمام بكين الاستراتيجي بأفريقيا. لكن واقع الانتشار العسكري الصيني يستجيب أيضا لتطور السياق الأمني الأفريقي، إلى جانب تكثيف الوجود الصيني من جهة، وتطور التصور الاستراتيجي والأمني لبكين من جهة أخرى، عبر أشكال مختلفة مثل تعبئة القوات الصينية كجزء من عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، مع توفير فهم أفضل للبيئات الأمنية في مناطق المهام، بما في ذلك فهم أفضل للقوات الغربية المنتشرة، ومنها القوى الأوروبية.

تركز واشنطن على جذب أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية في المقام الأول لتعزيز وجودها الآسيوي، لكن الحضور الأوروبي سيأتي في المقام الثاني

أخيرا، هناك شبكات أكثر انتشارا وتكتما، وإن كانت كثيرة العدد، تابعة لجيش التحرير الشعبي الصيني وشرطة الشعب المسلحة، وهي شبكات تُعنى بتأمين المصالح الصينية (المناجم، والسفارات والقنصليات، والشركات، ومنصات النفط والغاز، ومواقع الاستخراج، وغيرها)، والتدريب العسكري والأمني، وبيع المعدات الحربية، و"حماية الصينيين المغتربين". وتشير التقديرات إلى أن عشرات الآلاف من أفراد جيش التحرير الشعبي الصيني والشركات العسكرية الصينية الخاصة يعملون في القارة الأفريقية، دون ارتداء الزي العسكري بالضرورة. وتعمل هذه الشركات في جميع أنحاء القارة، خدمة لمصالح بكين. وقد أبرمت أكثر من ثلاثين دولة أفريقية شراكات مع جمهورية الصين الشعبية في اتفاقيات استراتيجية مقابل تراجع الالتزامات الأوروبية.

زيادة على ذلك، تُعدّ جمهورية الصين الشعبية ثالث أكبر مورد للأسلحة إلى أفريقيا، وذلك إلى جانب الولايات المتحدة وروسيا. واحتفظت فرنسا ودول أوروبية أخرى بدور مهم في بعض المناطق، وإن كان أقل هيمنة من ذي قبل.

من منظور أوروبي، تنشط الصين الشعبية من أجل تنفيذ خطتها لتحويل النظام الدولي، سعيا إلى استبعاد أي قطب يُضاهي هيمنتها غير المسبوقة.

 تداعيات الصراع حول تايوان

في مسرح جيوسياسي آخر، في تايوان الواقعة شرق آسيا، وتحديدا في المحيط الهادئ، قبالة الساحل الجنوبي الشرقي للصين، والعقدة التي تفصل الصين الشعبية عن العالم، ترتسم بوادر نزاع يمكن أن يتطور إلى حرب بين الولايات المتحدة والصين، لأن السيطرة على مضيق تايوان (تماما كما السيطرة المباشرة أو غير المباشرة على مضيقي البوسفور وهرمز) تحدد حيزا من التوازنات الدولية.

أ.ف.ب
منظر جوي لمسامير مضادة للهبوط ودبابات منهكة من الخدمة، منصبّة على طول ساحل جزر كينمن التايوانية، التي تقع على بُعد 3.2 كيلومتر فقط من ساحل البر الرئيسي الصيني (في الخلفية) في مضيق تايوان

ومن البديهي اهتمام الأوروبيين بهكذا سيناريو حربي وهذا يوجب التنبه والاستعداد لاحتمال اندلاع نزاعين على مسرحين استراتيجيين أساسيين في أوروبا وآسيا. ويطرح ذلك مسألة الإسهام الأوروبي في منطقة المحيطين الهندي والهادئ وإمكانيات الأوروبيين في الانغماس في صراع بعيد عن قارتهم ولا يعنيهم مباشرة؟

تركز واشنطن على جذب أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية في المقام الأول لتعزيز وجودها الآسيوي، لكن الحضور الأوروبي سيأتي في المقام الثاني. 

في آخر حلقة من منتدى "حوار شانغريلا" المخصص للأمن في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، والمنعقد في سنغافورة أواخر مايو/أيار الماضي، كانت قدرة أوروبا على التأثير، أو عدم التأثير، على ديناميكيات الأمن في المنطقة أحد الموضوعات الرئيسة للقمة.

وكان من اللافت تنديد الصين بتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي شبّه الوضع في أوكرانيا بوضع تايوان التي يخشى الغربيون أن تقدم بكين على اقتحامها. وأعلنت السفارة الصينية في سنغافورة، حيث أدلى الرئيس الفرنسي بتصريحاته، أن "مقارنة ملف تايوان بالنزاع في أوكرانيا أمر غير مقبول. فالملفان مختلفان ولا يمكن المقارنة بينهما بتاتا".

يواجه الأوروبيون تسارعا للتاريخ ودورا متعاظما للصين في الصراعات المتشابكة حول العالم، ويتطلب ذلك بلورة استراتيجية أوروبية ديناميكية وقادرة على مواكبة المتغيرات

يبين هذا المثل دقة الموقف والتداعيات المحتملة لأي نزاع في تايوان على الصلات الأوروبية-الصينية. وفي مجال نفوذ الصين الاستراتيجي كان ماكرون صريحا إلى حد كبير عندما حذر بكين قائلا: "إذا كانت الصين لا ترغب في تدخّل (الناتو) في جنوب شرق آسيا أو آسيا، فعليها بوضوح منع كوريا الشمالية من التدخّل في الأراضي الأوروبية"، حيث تنشر بيونغ يانغ قوات دعما للجيش الروسي في الحرب بأوكرانيا. لكن سرعان ما ردت بكين من خلال سفارتها بأن "مسألة تايوان ملف داخلي بحت بالنسبة للصين".

وبدورها، قالت الخارجية الصينية: "هناك صين واحدة في العالم، وتايوان جزء لا يتجزأ من الأراضي الصينية".

يجدر التذكير بأنه في أبريل/نيسان 2023 كان الموقف الفرنسي مرنا حيال موضوع تايوان عندما دعا ماكرون أوروبا إلى الإبقاء على مسافة في مسألة تايوان و"خفض الاعتماد على الأميركيين" في المجال الدفاعي. بيد أن ألمانيا حينها على لسان وزيرة خارجيتها كانت متشددة في التأكيد على أن "أي تصعيد عسكري في مضيق تايوان سيشكل سيناريو كارثيا للعالم بأسره، وأن إحداث أي تغيير من جانب واحد لن يكون مقبولا لدى الأوروبيين".

بالطبع، يراقب الأوروبيون عن كثب السردية الأميركية التي تتهم الصين بالتخطيط "لاحتمال استخدام القوة العسكرية" في منطقة آسيا والمحيط الهادئ وتنظيم "تدريبات كل يوم" بهدف "غزو" تايوان. وخلال منتدى شانغريلا تكرس الاستنتاج بأن آسيا أصبحت تمثل نقطة ارتكاز رئيسة في التنافس الجيوسياسي العالمي. 

لوحظ من خلال منتدى سنغافورة ومناسبات أخرى أن الجانب الأوروبي يتصاعد اهتمامه بالشأن الأمني لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، وأخذ يتبنى رسالة موحدة ومباشرة مفادها أن "علينا تعزيز التنسيق والعمل المشترك للحفاظ على النظام الدولي القائم على القواعد، في مواجهة التهديدات المتصاعدة من الصين وروسيا". ووجّهت كبيرة الدبلوماسيين في الاتحاد الأوروبي، كايا كالاس، اتهاما مباشرا إلى الصين بدعم الآلة الحربية الروسية، كما استشهدت بتصريحات وزير الدفاع الأميركي التي حذرت من تنامي التهديد الصيني لدول آسيا، مشددة في الوقت ذاته على ضرورة اعتبار روسيا مصدر تهديد لا يقل خطورة.

تتقارب النظرتان الأميركية والأوروبية في تحديد "التهديدين الصيني والروسي". وفي الإجمال، يواجه الأوروبيون تسارعا للتاريخ ودورا متعاظما للصين في الصراعات المتشابكة حول العالم، ويتطلب ذلك بلورة استراتيجية أوروبية ديناميكية وقادرة على مواكبة المتغيرات. 

font change