أحمد أبو خنيجر يعود بحكاية جديدة عن جنوب مصر

تداخل الواقع والأساطير في أحدث رواياته "شق الريح"

أحمد أبو خنيجر يعود بحكاية جديدة عن جنوب مصر

نشأ الكاتب المصري أحمد أبو خنيجر في بيئة أسوان الجنوبية الغنية بالحكايات الشعبية التي شكلته وعيه وزرعت في داخله شغف السرد. من "فتنة الصحراء" إلى "العمة أخت الرجال" إلى "مشاهد عابرة لرجل وحيد"، يعيد أبو خنيجر إنتاج الجنوب بلغة حميمة ورمزية، ويزهو بأنه ابن الحكاية الشعبية. وفي روايته الأحدث "شق الريح" الصادرة مطلع 2025 عن "دار غايا للنشر"، يدفعنا أبو خنيجر إلى الغوص داخل نص يشبه الأحجية، حيث ينتقل السرد بين حاضر البطل وماضيه، وبين أصوات شخصيات الرواية الذين يروون تفاصيل ما حدث كلّ من زوايته الخاصة.

حول هذا التداخل في الزمن السردي للرواية، يقول أبو خنيجر لـ "المجلة": "في الأصل ليس هناك لحظة حاضر خالصة، فالحاضر هو لحظة فائتة ولحظة مقبلة، ولا يمكننا ضبط الذاكرة وجعلها تسير بشكل خطي. أظن أن هذا من ترتيب العقل الواعي لا الذاكرة اللعوب المثقلة بكل تاريخها، ليس فقط تاريخها الشخصي، بل التاريخ الذي يخص وجودها بكثافته المضنية. حاولت قدر ما استطعت التخفف من هذا التداخل في الرواية، ليس مراعاة للمتلقي فحسب، ولكن لأن ذلك أيضا مجهد للروح. في تلك اللحظات يكون الملتقي نائيا جدا، ربما يقبع على الضفة الأخرى من النهر، أعرف بالإدراك أنه موجود لكنى لا أراه".

أساطير

كالعادة، تحضر الأساطير الشعبية بقوة في عالم أبو خنيجر، ويتجلى ذلك في اكتشاف "الفلوكة" (قارب خشبي) المربوطة إلى البئر الغامضة، التي يعرف أهل القرية قصتها جيدا. وهي بئر ترتبط بأساطير عن الموت والتحول، وعن الغرق كميلاد جديد، "وهنا تكمُن مفارقةُ الغرق، وبالأخص حين يكون الغريقُ مجيدا للسباحة، فهو بعيد كلَّ البعد عن هذا الغرق، لكنه يحدث وسيظل يحدث، بتعدد حكاياتِه ورواياته وتفاصليه، لكنه حادث، الغرق"، يكتب أبو خنيجر.

ليس هناك لحظة حاضر خالصة، فالحاضر هو لحظة فائتة ولحظة مقبلة، ولا يمكننا ضبط الذاكرة وجعلها تسير بشكل خطي

تنطلق الرواية من قصة بسيطة ظاهريا: اختفاء "الريّس جمعة" وفلوكة "شق الريح" ومحاولات العثور على جثته عند البئر. تفتح تلك الواقعة الباب لاستعادة واقعة اختفاء صباح، أجمل فتيات القرية، في ظروف غامضة. بين هذين الحدثين، يفتح الكاتب مساحة واسعة لتفكيك أسطورة البئر في إحدى قرى أسوان بجنوب مصر، وهي ثيمة متكررة في معظم أعماله، حيث تتقاطع الأسطورة/ الحكاية الشعبية مع الواقع المعاصر. يقول الكاتب: "ذلك لأن الأسطورة جزء أصيل من المكون الثقافي والمعرفي للجماعة الشعبية، وبالتالي فهي التي تحدد طبيعة فهمهم للحياة وكيفية التعامل معها في أحوالها وتقلباتها المختلفة، وذلك من المناحي كافة، فلا يمكن فهم طبيعة الفعل إلا في ضوء التصور المسبق له. وما غُرس خلال سنوات طويلة عبر الحكايات والمعتقدات والأمثال والأغاني والطقوس التي تمارسها الجماعة. مثلا هل يمكن فهم الدورة الزراعية أو طبيعة التعلق بالأرض وربطها بالعرض والشرف دون الرجوع الى المنطلقات الأساس التي تعتنقها الجماعة. لذا قد يتصور البعض أن الكتابة بهذه الطريقة هي نوع من اللجوء إلى الغرابة لجذب القارئ، وهذا تسطيح مخل سببه الجهل وعدم المعرفة الكافية".

سلسلة الدراسات الشعبية - أحمد أبو خنيجر

بين الواقع والخرافة

يبدأ السرد باختفاء الفلوكة وقائدها، بالتوازي مع مجلس عزاء شعبي تقيمه القرية دون يقين بموت الرجل. ثم ينتهي بعودة "شق الريح" دون الريّس جمعة، لتظل الحقيقة معلقة بين الواقع والخرافة. خلال هذه الرحلة، ينسج أبو خنيجر سردا رمزيا عميقا، لا يعالج اختفاء الأفراد فحسب، بل اختفاء عالم بأكمله. فالفلوكة لم تكن سوى جزء من مركب كبير حمل يوما البضائع والبشر، قبل أن تهمشه الطرق الحديثة التي صارت تربط محافظات مصر بعضها ببعض. وحين قرر الريّس جمعة تحويل "بت القبايل" إلى "شق الريح" ليُقلّ بها السياح، بدا أنه يحاول إنقاذ ما تبقى من ذاكرة الجنوب. ورغم ذلك فإن أخشاب المركب القديمة التي شهدت تهجير النوبيين من قراهم أثناء بناء السد العالي في ستينات القرن الماضي، امتصت أنين البشر وحزنهم، حتى أنهما ظلا يسمعان بين حين وآخر، في إشارة إلى تجدد الحزن في نفوس المهاجرين وانتقاله من جيل إلى جيل، "غلطت أنا، أيوه غلطت لأنّي أخدت من خشب بت القبايل وحطّيته في المركب الجديدة: شقّ الريح. لكن الخشب قصَّر، وأخدنا من خشب بت القبايل، وأخدنا معاه الأنين".

الأسطورة جزء أصيل من المكون الثقافي والمعرفي للجماعة الشعبية، وبالتالي فهي التي تحدد طبيعة فهمهم للحياة وكيفية التعامل معها

تحتل المرأة موقعا مركزيا في الرواية، كما في مجمل مشروع الكاتب. فصباح، الفتاة الجميلة، تخوض صراعا وجوديا من أجل الحصول على إرثها، في مواجهة أعراف الصعيد الذكورية. محاولة عمها وأبنائه قتلها لم تُنهِ قصتها، بل أعادت إنتاجها بعد سنوات، حين تعود ومعها أبناؤها الثلاثة من الريّس جمعة، الذي أنقذها وتزوّجها. هنا يطرح الكاتب سؤالا حول قضايا الإرث والعدالة الاجتماعية التي لا تموت، بل تتجدد من جيل إلى جيل بصيغ مختلفة.

صورة لا نمطية

يقدم أبو خنيجر صورة لا نمطية للمرأة الصعيدية تناقض الفكرة السائدة بشكل واسع. في هذا الشأن يقول الكاتب: "الدور المتعارف عليه هو ما بثته القاهرة، مركز الثقافة، حول طبيعة الصعيد الذكورية، وهو إن كان صحيحا في بعض النواحي، إلا أنه ليس كذلك على امتداد الخط كما يقولون. في الأصل الثقافة الأسوانية ليست ثقافة الصعيد، وليست أيضا ثقافة النوبة، بل هي وسط بينهما، يمكن اعتبارها ثقافة حدودية، أي على الحدود بين ثقافتين. ويمكن ببساطة مراجعة ذلك في كثير من الممارسات الحياتية اليومية، ثم أن هذا الإجمال (المرأة الصعيدية) هو إجمال مخل، لأنه ليس هناك صعيد واحد. فهل يمكن النظر مثلا الى المرأة الأسيوطية أو الأقصرية أو الأسوانية بالطريقة نفسها دون الأخذ في الاعتبار مسألة اختلاف الثقافة. فإذا كنا نعترض في الدراما على ما يطلق عليه اللهجة الصعيدية، حيث يوجد التنوع الهائل والمفارق مثلا ما بين اللهجة في أسوان وأواسط الصعيد الجغرافي، فكيف لنا حين التحدث عن الانسان أن نصفه بأنه ذلك الصعيدي، دون ان يخطر في بالنا كم الفوارق التي أشرت إليها. مثال على ذلك يمكن لحظ الفوارق بين شخصيتي الكتاب محمد مستجاب (أسيوط) ويحيى الطاهر عبد الله (الأقصر) وعبد الوهاب الأسواني (أسوان)".

أحمد أبو خنيجر

الارتباط بالنيل

لا يزال لدى أهل أسوان ارتباط عميق بالنيل، وفي رواية "شق الريح" إشارات واضحة الى ذلك. مثل شخصية مصطفى الغرقان، كمفتاح آخر للأسطورة. فهو نجا من الغرق، لكنه وُلد من جديد يومها. مصطفى يكبر ويصير مدرسا للتاريخ والجغرافيا، ويسعى لتفسير ما حدث له في صباه، وكأنه يحاول تأريخ الحادثة كما يراها هو، في حالة تمتزج فيها الذاكرة بالخيال، "لم أعرف أقفزتُ عن القارب أم سَقطت، فقط ما أعرفه أنني في الماء، تحديدا عمق الماء اللين، لم أكن خائفا أو هلعا، فقط أحاول شق تلك الحجب التي غلفتني، وكأنني أنفذ من خلال غلالة رقيقة، أقرب إلى سطح المرآة".

الثقافة الأسوانية ليست ثقافة الصعيد، وليست أيضا ثقافة النوبة، بل هي وسط بينهما، يمكن اعتبارها ثقافة حدودية، أي على الحدود بين ثقافتين

يقول أبو خنيجر: "نحن لا ندرك أيهما كان أسبق إلى الوجود، النيل أم الإنسان الذي خلق الحياة على جانبي الوادي. ففي قلب أسوان انوجد الإله خالق البشر على عجلة الفخار، إنه المبجل 'خنوم'، لذا ظل هذا الارتباط قائما من قبل ما يعرف بالتاريخ المكتوب أو المدون، وهو سجل كبير حافل بالسجال بين النهر والبشر، النهر الذي أصبح في النهاية شريكا أساسيا ومحوريا في الحياة. وفي الرواية كما في الحياة، جزء من هذا الحوار الخلاق بين النهر والبشر حتى وإن جار أحدهما على الآخر في لحظة غياب أو انفعال. لكنها الحياة التي يجب أن تستمر بكل ما فيها، نهر النيل هنا هو الحاضن الرؤوم مهما بلغت خيانات البشر وخيباتهم، ربما يجب علينا الانتباه لما هو كامن ويئن بقوة بصوت لا يكاد يحس".

"شق الريح" ليست مجرد رواية عن الاختفاء، بل عن التحولات العميقة التي تطول المكان والناس والوعي. نص مشغول بحرفية شديدة، ينتمي إلى عالم أحمد أبو خنيجر الخاص، تتداخل فيه الحقيقة بالحكاية، والأسطورة بالواقع، والمرأة بالذاكرة الجمعية لصعيد لم ينفصل يوما عن سحره وغموضه.

"مسرحية فوانيس الليل"، أحمد أبو خنيجر

المحلية والعالمية

يمارس أحمد أبو خنيجر العمل الإبداعي، ليس فقط كروائي وقاص، بل أيضا ككاتب مسرحي وكاتب قصص أطفال، بالإضافة إلى دراسات شعبية من بينها "كان يا ما كان" و"في رحاب الصحراء، مدد يا شاذلي - رحلة في المكان والطقوس" وغيرها. حصل أبو خنيجر على جوائز أدبية عدة من بينها جائزة الدولة للتفوق عام 2021 وجائزة الدولة التشجيعية عام 2003 عن رواية "نجع السلعوة" وهي الرواية التي صودرت بعد أيام قليلة من صدورها عن هيئة قصور الثقافة في أزمة ثقافية كبرى عرفت وقتها بأزمة "وليمة لأعشاب البحر" للكاتب السوري حيدر حيدر، والتي صدرت في التوقيت نفسه عن سلسلة "آفاق عربية" التي كان يرأسها الكاتب إبراهيم أصلان. حول هذه المفارقة يقول الكاتب: "المدهش والجميل أيضا هو الانتصار للإبداع والجمال، إذ أن هذه الرواية بعد تلك الأحداث بعام حصلت على جائزة الدولة التشجيعية".

وسائل الاتصال الحديثة قللت نوعا ما المركزية الثقافية، لكنها لا تزال موجودة وفاعلة، لأن القائمين عليها يتصورون أنهم هم المركز

تتسم كتاباته بالطابع المحلي، إلا أنها ترجمت إلى لغات عدة من بينها اللغة الإنكليزية والفرنسية والألمانية. وحول أهمية الترجمة يقول أبو خنيجر: "بالطبع الترجمة إنجاز مهم لتداول الأدب والإبداع الصادر في أي بقعة من العالم، وكل أدب عظيم هو أدب محلي في الأساس، يعني بالإنسان وتقلباته في الحياة وهي موجودة في كل الطبائع البشرية. وربما المحلية هنا تعني المعرفة الصادقة الحقيقة البعيدة عن أي ادعاء، وبالتالي هي تصل إلى القارئ في كل مكان".

منذ بدايته قرر أحمد أبو خنيجر الابتعاد عن المركزية الثقافية في العاصمة حول هذا الشأن يقول: "اخترت الابتعاد عن صخب القاهرة المقلق لروحي وعقلي. ربما لأنني لم أتصالح معها منذ البدايات الأولى، اقصد في مراحل ما قبل الانخراط في الكتابة، ربما لأنني أفضل هدوء الجنوب النسبي وسخونته المفرطة. لكني لم أفقد صلتي بالقاهرة في ضرورة لازمة، ربما من حسن الحظ أن وسائل الاتصال الحديثة قللت نوعا ما المركزية الثقافية، لكنها لا تزال موجودة وفاعلة، لأن القائمين عليها يتصورون أنهم هم المركز".

font change