مشاريع فنية تعالج أبرز قضايا وهموم المناطق النائية في مصر

في المسرح والفوتوغرافيا والتصميم

من تصوير عبد الرحمن ابو ليلة ضمن مشروع "سحابة سوداء"

مشاريع فنية تعالج أبرز قضايا وهموم المناطق النائية في مصر

ارتحلت "المجلة" مئات الكيلومترات في مصر، في ثلاث مناطق مختلفة جغرافيا وإثنيا وثقافيا، لكي تستطلع التداخل بين أعمال مبدعين مصريين، في المسرح والفوتوغرافيا والتصميم، وبين المعضلات البيئية والثقافية التي تواجه سكان المناطق النائية وتلك التي تقع خارج المركز. مع بدو سيناء وأمازيغ سيوة ومزارعي الدلتا تبدت المشاهدات التالية.

جلد مطرز لتمكين النساء

تتحلى جيهان إبراهيم بإرادة وصبر عاليين، يجعلانها قادرة على الإرتحال من العاصمة المصرية، القاهرة، في اتجاه شمال غرب البلاد في رحلة بالسيارة، قد تستغرق أكثر من ثماني ساعات، قاطعة خلالها أكثر من 750 كم، من أجل ملاقاة سيدة مصرية أمازيغية اسمها زمزم.

قبل أن تقرر إبراهيم، مع شريكتها منى سرور، أن تؤسسا محترفا فنيا ينتج أحذية وحقائب وإكسسوارات جلدية مستهلمة من حقبات مختلفة من التاريخ الحضاري لمصر، كان عملها في النشاط السياسي والمجال الصحافي، دربها على تلك الروية والنظرة الاجتماعية المسؤولة، التي تحتاج إليهما شابة متوهجة الطاقة، لكي تدرب نساء "واحة سيوة".

شمل التدريب أمرين أساسيين: نقل حرفة التطريز اليدوي السيوي، الشهيرة عبر العصور، من القماش إلى الجلد، إضافة إلى إجراء بعض التعديلات التي تقربه من الحس الفرعوني بعيدا من الفولكلورية الأمازيغية الصاخبة بالألوان، وثانيهما تمكين المشتغلات اقتصاديا بحيث يكن قادرات على التحلي بشخصية مالية مستقلة عن مجتمع الرجال الذين يسيطرون، بسلطة العادات والدين والتقاليد، على مشهد الواحة.

هكذا، ربما تتمكن زمزم وعشرات النسوة اللواتي يعملن لصالح "بلغة" (اسم العلامة التجارية لجيهان ومنى الذي يرمز إلى نعل القدم الخفيف المفتوح من الخلف) من توفير المال الذي يتحصلن عليه لقاء مجهود التطريز، من أجل الالتفات الى أمر آخر أكثر حساسية من تحضير أثواب العروس لفتيات البيت: معالجة آلام المفاصل التي تجعلهن في كثير من الأحيان عاجزات عن المشي.

مفارقة

تقول إبراهيم في حديث خاص مع "المجلة": "تحمل سيوة مفارقة كبيرة من ناحية التنظيم الاجتماعي فيها. اذ هي مجتمع تحتجب فيه النساء في بيوتهن، أو عبر طبقات من الملابس تشبه النقاب، وإن كان مطرزا، لو خرجن في أوقات نادرة، بينما يشكلن في الوقت ذاته رأسمالا اقتصاديا بما تدره أعمالهن في التطريز من دخل يعيل الأزواج والأبناء. المفارقة الأخرى تتمثل في أن هذا الحجب، مع عوامل الرطوبة المتفشية في بيوتهن ذات البناء المتواضع، يحدث في المكان نفسه الذي يقصده السواح من مختلف مناطق العالم من أجل الاستشفاء عبر حمامات الرمال الساخنة والمياه الكبريتية لتحسين عوارض الروماتيزم والروماتويد وآلام المفاصل وتنشيط الدورة الدموية وأمراض الرطوبة وعلاج الكثير من الأمراض الجلدية".

في محترف أنيق، في شقة تقع في شارع دمشق، في "ضاحية المعادي الراقية جنوب القاهرة، يسيطر جو من المرح والمودة العائلية على العمال المهرة في "ورشة بلغة" الذين استقطبوا من الورش التقليدية المتوزعة حول شارع السلاح وحي الدرب الأحمر في القاهرة القديمة. هناك تعرفت رائدتا الأعمال، قبل ما يقارب 10 سنوات الى "الأسطوات" الذين تدربتا على أيديهم، وأسستا ورشة خاصة في منطقة لم يكن معتادا على النساء فيها الاشتغال في مهنة كهذه: "استغرق تحضير تصميماتنا أربع سنوات. تعلمنا خلالها أمورا كثيرة ساعدتنا بعد ذلك لكي نحقق أسرع أهدافنا: أن تكون ’بلغة’ متوفرة على رفوف متجر المتحف المصري الجديد، جنبا إلى جنب تذكارات منتجة من مصممين عالميين ومصريين راسخين".

تضيف: "بعض تلك المهارات يتمحور حول كيفية استخدام أصباغ طبيعية مستمدة من الحجارة والنباتات المصرية لا تلوث البيئة ولا تخنق المسام في جلود الجمال أو الجواميس التي نستخدمها؟ كيف نستوحي من أناقة الموضة العالمية من دون التضحية بأصالة الحس البلدي العريق؟ كيف نطبق مفاهيم التجارة العادلة؟ كيف يمكن النساء قيادة الرجال في نماذج أعمال كفوءة ومنتجة".

تحمل سيوة مفارقة كبيرة من ناحية التنظيم الاجتماعي فيها. إذ هي مجتمع تحتجب فيه النساء في بيوتهن بينما يشكلن في الوقت ذاته رأسمالا اقتصاديا بما تدره أعمالهن في التطريز من دخل يعيل الأزواج والأبناء

جيهان إبراهيم

تبدو تلك المهارات منطقية لكي تمد جسر "تجارة عادلة" بين المعادي وسيوة، وإلى غيرها من المناطق على امتداد الخريطة المصرية التي تطبق فيها الشريكتان أفكارهما عن الاستلهام والتعاضد: "نعمل في شلاتين النائية وأرض سيناء وأيضا في كرداسة خارج القاهرة". وفيما تبدو تلك المحاولات، عبر الموضة والتصميم، أساسية لإحداث تغيير، تظهر الأبحاث الجندرية التي تمحورت حول نساء الواحة تحديات أعمق.

تأثير الانفتاح

يشير استطلاع رأي أجراه مينا كمال مع رجال سيوة، التي تضم 40 ألف أمازيغي مصري وأجنبي يعمل جزء كبير منهم في قطاع السياحة، وذلك في دراسته المعنونة "وجهة نظر الرجال عن العمل من الناحية الجندرية في واحة سيوة المصرية: العادات والجنسانية" إلى كون الرجال، رغم إعالة النساء لهم، ما زالوا يخشون تلك السلطة. اذ عبروا بوضوح عن رغبتهم في "الحفاظ على أدوارهم التاريخية كمعيلين رئيسيين للأسرة وحراس العائلة".

خاص المجلة تصوير إبراهيم توتونجي
ترغب تصميمات "بلغة" في ارساء نموذج من التجارة العادلة يمكّن النساء في الاقاليم النائية

ويقول رجل يبيع تذاكر سياحية وردت آراؤه في هذه الدراسة إنه "يخاف من تأثير الانفتاح السياحي على دقة نظر زوجته، لأن نشاطها يؤدي إلى تعريض عينيها للخطر، كون التطريز السيوي يحتاج إلى دقة وتركيز عاليين". في السياق ذاته، تشير ورقة بحثية منشورة من "جامعة عين شمس"، نيابة عن "اتحاد الجامعات العربية" أن نحو 90% من العينة المستطلعة من النساء يرغبن في الاستمرار بالعمل من أجل إعالة عائلاتهن، بينما رغبت أكثر من 83% بالمساعدة تحديدا في تزويج الفتيات.

"كل امرأة في سيوة من واجباتها أن تطرز ثوب زفاف ابنتها الذي يسمى باللغة الأمازيغية ناشيراح. وإن لم تفعل تقوم الجدة أو الخالة بهذه المهمة. هذا طقس ملح ويستغرق في بعض المرات سنوات طويلة، نظرا الى فنيته ودقته والاحترافية التي يتمتع بها"، تقول إبراهيم مشيرة إلى التحديات التعليمية التي تواجهها المرأة في ذلك المكان النائي من مصر، إذ تندر المدارس والجامعات في الواحة، كما يصطدم تأهيل النساء لأدوار اجتماعية أكثر تشعبا بالجدار الصلب للمجتمع الذكوري والتقاليد. وتوافقها الرأي هالة يسري، أستاذة علم الاجتماع من "مركز بحوث الصحراء"، والتي ترى أنه من الضروري أن تكون المحافظات الحدودية والنائية مثل واحة سيوة على أولوية أجندة الدولة في التعليم والتثقيف والوعي. وتؤكد أن "أهل الواحة رجالا ونساء، لا يكونون على وعيٍ بضرورة المشاركة الاجتماعية للنساء، لأن العادات والتقاليد لا تستجيب للتغيير إلا بصعوبة، ولا بد أن تدرك النساء أنهن بحاجة إلى التغيير، وأن لهن دورا اجتماعيا، وأن يقتنعن أنهن في الواقع، خانعات ومتضررات، ولسن سعيدات بهذه العادات".

في مكان غير بعيد عن مساكن زمزم ورفيقاتها، تضرع الإسكندر المقدوني في العام 331 قبل الميلاد في معبد الإله آمون طالبا استشارة عن النصر والمستقبل المجيد. في "معبدهم" الفني الصغير في القاهرة، يحلم فريق "بلغة"، اليوم، بأن يكون هناك أثر أعمق لعمل التصميمات على صحة النساء، فيما تنتشر روائح الأصباغ الطبيعية، عطرة وفواحة في المكان.

خاص المجلة تصوير إبراهيم توتونجي
ترغب تصميمات "بلغة" في ارساء نموذج من التجارة العادلة يمكّن النساء في الاقاليم النائية

لكن، في عمق الريف الأخضر، وتحديدا داخل المثلث الريفي لـ"الدلتا" الخصيبة، قد تبدو الصورة، أكثر قتامة.

أرض الدلتا: أرز محترق وفوتوغرافيا بالأبيض والأسود

لم يكن المصور الفوتوغرافي عبد الرحمن أبو ليلة ولد بعد حين بدأت مواسم "الخريف الأسود" تتوالى على قرى ومدن الدلتا والقاهرة. في العام 1997 تفاجأ السكان بسحابة سوداء تغطي وجه السماء، على أثر عمليات حرق المخلفات الناتجة من حصاد الأرز، طوال شهري سبتمبر/ أيلول وأكتوبر/ تشرين الأول، منبعثة من الحقول التي يظن فلاحوها، إلى يومنا هذا، أن الرماد هو أقصر طريق للخصوبة، وكذلك أرخص طريقة للتخلص من أكوام القش. وما كان لهذا الواقع أن يصبح ظاهرة بارزة على المستويات السياسية والاقتصادية والصحية، فتجد تمثلا لها في الأعمال الإبداعية، مثل فوتوغرافيا أبو ليلة، لو لم يكن الأرز هو سلعة حيوية واستراتيجية بالنسبة إلى مصر وسكانها. فهو ثاني مكون غذائي للشعب بعد القمح، ويستهلك بمعدلات عالية، تصل إلى 3 ملايين طن سنويا، وهي كمية تحتاج إلى غمر 1.3 مليون فدان بالماء.

تندر المدارس والجامعات في الواحة، كما يصطدم تأهيل النساء لأدوار اجتماعية أكثر تشعبا بالجدار الصلب للمجتمع الذكوري والتقاليد

في زمن مضى، يحب المصريون الدلالة عليه بوصف "الزمن الجميل"، الذي خلت أنباؤه من عناوين مثل "أزمة سد النهضة مع أثيوبيا والأمن المصري المائي" و"الاحترار المناخي المتفاقم" و"تعويم الجنيه المصري" و"التكلفة المتصاعدة للمبيدات والأسمدة والمقويات الزراعية"، تحدثت سرديات الفلاحين "الشاعرية" عن أمرين: بهجة صافية وواثقة تتجدد في كل سبتمبر في "عيد الفلاح" الذي ابتكره نظام الرئيس الأسبق، صاحب "ثورة التأميم الزراعي"، جمال عبد الناصر، اضافة إلى قصص كثيرة عن الماء الغامر الذي كان لوفرته قادرا على احتضان الأسماك فوق شتلات الأرز.

سحابة سوداء

رغم الواقعية الداكنة التي تغلف معانيه، فإن المشروع الفني للمصور الشاب، المولود سنة 2001، والذي يجول في معارض ومنصات محلية وعالمية تحت اسم "سحابة سوداء"، حاصدا الجوائز والتكريمات، يحمل غلالة ذات إيهامات شاعرية.

في التحديق داخل إطار الصور، المظهرة بالأبيض والأسود، يتضح أن الضبابية التي تشكل خلفيات رائعة للتكوينات، ليست أثرا جماليا مرتبطا بالفجر الندي، أو رذاذا مبعثرا من النيل وتفرعاته الريفية، بل هي غمامات خلفها تشبب الحرائق، تحمل نذر الموت بالسرطان والتهاب الرئة وأمراض الربو المزمن.

من تصوير عبد الرحمن ابو ليلة ضمن مشروع "سحابة سوداء"

"حين كنا أطفالا، كان والدي يحذرنا دوما، من فتح أي نوافذ في البيت، خلال أشهر ما بعد الحصاد. كنا نشعر أن قريتنا الصغيرة برمتها تحترق. النوافذ والستائر تصبح سوداء، والجدران من الداخل والخارج تصبح مغطاة بالسخام الغامق. لم تنفع الاحتياطات التي شدد عليها أبي، فجميع من في أسرتي يعاني اليوم من مشاكل في الجهاز التنفسي، ناتجة من تلك الحرائق. وبالنسبة إلي، فإن الأبخرة السامة تسببت لي بحساسية مؤلمة والتهابات مستدامة في الجيوب الأنفية. لقد تعرضت إلى مواسم عديدة من الهواء الملوث"، يقول أبو ليلة في حديث خاص مع "المجلة": "لم يكن الأبيض والأسود أكثر تعبيرا في الفوتوغرافيا يوما عما يرمز إليه في سلسلة صوري".

يحمل المصور الشاب، للمفارقة، سيكارة بيده، قد تحمل معنى صارخا للتناقض بين وعيه الصحي من جهة وهمه البيئي من جهة أخرى: "إنها المعادلة ذاتها التي تنطبق على المزارع الذي يظن أن تخصيب الأرض عبر الحرق هو تمثيل لأقصى درجات الحب لها، متغافلا عن الأثر السيء الذي يخلفه ذلك على أقرب الناس له. لقد شاهدت الأيدي ترتعش وهي تضرم الحرائق لكنها لم تتوقف عن فعل ذلك".

دائرة مسمومة

بين يد الفلاح المرتعشة، وصدر الفلاح ذاته المختنق، كان على جهة خارجية أن تتدخل لكي تكسر "الدائرة السادية" المسمومة تلك. شددت الدولة قبل سنوات من حضورها الإجرائي والرقابي، بعد شيوع بيانات تؤكد أن طقس ما بعد الحصاد ذاك، مسؤول عن تلوث 42% من هواء البلاد الذي يتسبب بدروه بنحو 33.6 % من مرض الانسداد الرئوي المزمن، إضافة إلى ارتفاع أمراض الصدر والحساسية والتهاب الحلق والحنجرة إلى 5 أضعاف. وأيضا مع نشر إحصاءات رسمية من الأمم المتحدة تبين أن تلوث الهواء في مصر تسبب في أكثر من 90 ألف حالة وفاة مبكرة في عام 2019، وهو معدل يفوق بنحو 13.6 مرة أسوأ توقعات منظمة الصحة العالمية نفسها.

الصورة من المصدر
ولد المصور عبد الرحمن أبو ليلة في الريف ووثقت صوره معاناة الأهالي بأثر تلوث الهواء

في واقع الأمر، يقتل الرماد التربة، التي يحبها الفلاح كثيرا، ويحتفل بكرمها في عيده  الربيعي. إذ يزيد الحرق موت جميع الكائنات الحية المفيدة للتربة، كما يؤدي إلى انخفاض نسبة الأوكسجين، مما يؤثر على المحاصيل التالية. وعلى مقربة من الأراضي، تؤدي سمومه المنبعثة الى تشوش أو انعدام الرؤية، وارتفاع نسبة حوادث السيارات على الطرق السريعة.

"هذه أرقام مفزعة. هزتني في العمق. قررت من بعدها أن أحول عدسة الكاميرا الخاصة بي إلى سلاح بيئي للتوعية بهذه المأساة".

حين كنا أطفالا، كان والدي يحذرنا دوما، من فتح أي نوافذ في البيت، خلال أشهر ما بعد الحصاد. كنا نشعر أن قريتنا الصغيرة برمتها تحترق

عبد الرحمن أبو ليلة

في التوقيت نفسه، الذي اتخذت فيه المسيرة المهنية الابداعية لأبو ليلة، ابن قرية سنفا التابعة لمركز "ميت غمر" في محافظة الدقهلية، مسار الفنان-الناشط البيئي، كانت القوانين ماضية في تحديد لوائح المخالفات على المزارعين من غير الملتزمين بالحصص المقننة للأراضي الصالحة لزراعة الأرز، والمقبلين على فعل الحرق، بدل تدوير القش وتحويله إلى علف (تظن السلطات أن هذا جائز ويظن المزراعون أن ماشيتهم وطيورهم تأبى الرعي والتغذي على هذا العلف)، أو توريده إلى مصانع تقوم بتدوير المخلفات وتحويلها إلى مواد صلبة صالحة للاستخدام، مثل الورق والخشب الذي تصنع منه الأدوات وقطع الأثاث.

يزرع الأرز في 9 من أصل 27 محافظة على امتداد مصر، وتحتل أرض الدقهلية، التي يعيش فيها أبو ليلة، حيث يلتقط صدره الانبعاثات كما تلتقط عدسته الصور... المرتبة الأولى على مستوى المحافظات في زراعة وإنتاج الأرز على مساحة 404 ألف فدان بنسبة تصل إلى 30% من إجمالي إنتاج البلاد، مع ما يخلفه ذلك من كميات ضخمة من محصول القش، الذي يباع بأسعار زهيدة لا تغري المزارع بالاستعاضة عن حرقه. كما أن ثمة أسبابا اقتصادية أخرى تثنيه عن ذلك، من بينها المقارنة غير العادلة بين أسعار تصريف منتجه وبين تكاليف الزراعة والحصاد، فكيف إذا أضيفت إليها تكاليف تنظيف التربة من المخلفات؟

خاص المجلة تصوير ابراهيم توتونجي
يقول ابو ليلة ان المزارع يعيش صراع ايذاء نفسه ومجتمعه مقابل حبه لتخصيب الارض عبر الرماد

في مرات كثيرة، تمضي "اليد المرتعشة" للمزارع في إضرام النار، تعبيرا عن الإحباط وربما الغضب من سياسات جائرة: "من دون احتساب تكلفة عملي كمزارع، فإنني أدفع نحو 800 دولار أميركي، شاملة الإيجار، لكي أزرع فدانا (نحو 4200 متر مربع) من الأرز"، يشرح أحد المزراعين، مضيفا: "سيعطيني الفدان الواحد 3.5 طن محصول في الحد الأقصى، تباع  لقاء 400 دولار للطن الواحد. يتفق التجار في ما بينهم، في مرات كثيرة، على "تكسيد" الأسعار ويصرون على شراء الأرز منا بأسعار زهيدة. من جهة أخرى، تقلص الدولة كل يوم المساحات المسموحة لنا لزارعة الأرز، بحجة الشح المائي. نواجه التحديات من كل صوب وحدب، فهل من المنطق بعد ذلك كله أن نتحمل مشقة التخلص من المخلفات أيضا؟".

تشير دراسة حديثة  لفاطمة محمد الحسيني، نشرت في "مجلة جامعة الإسكندرية للتبادل العلمي" في سبتمبر/أيلول 2023 إلى أن "مظاهر التغيرات المناخية في مصر تشمل زيادة حالات الجفاف، وموجات الطقس الحار، وندرة المياه، وتعرية التربة"، بينما يقدر الخبراء أن الأرز من بين 10 محاصيل رئيسة سوف ينخفض إنتاجها خلال السنوات المقبلة بسبب الاحترار العالمي بنسب تتراوح بين 14-18% مع ارتفاع درجة الحرارة بمقدار 1.5 درجة، على أن يصل هذا الانخفاض إلى 50% في حال تضاعف الاحترار. وفيما تتسبب ممارسة حرق الأرز في زيادة الاحترار، عبر بعثها غازات سامة مثل أكاسيد النيتروجين وثاني أكسيد الكربون والغبار الناعم، تلتف الدائرة المفرغة حول حناجر وغدد وأعناق الجميع، وتبدو صورة المستقبل ضبابية، مثل صور أبو ليلة الذي يعدد المراحل اللاحقة لمشروعه "سحابة سوداء": "أرغب في جمع صوري داخل كتاب فني أوراقه مصنعة من تدوير قش الأرز. كذلك أود متابعة تصوير الممارسات التي توفر حلولا مثل لقطات لآلات فرم قش الارز، والأبقار التي تأكل القش، كذلك تصوير المزارعين الذين قرروا التوقف عن الحرق وبيع القش بدلا من ذلك، والنساء والأطفال الذين يجمعون القش يدويا، وفواتير بيع القش أو الأموال التي تسلم باليد من قبل ممثلي مصانع الورق أو مزارع الماشية".

يطمح المصور الشاب إلى أن تلعب صوره دورا في نشر الوعي ببعض التعاطي الإيجابي من قبل الريفيين مع النداءات البيئية والصحية الصارمة للجهات المتخصصة.

يقدر الخبراء أن الأرز من بين 10 محاصيل رئيسة سوف ينخفض إنتاجها خلال السنوات المقبلة بسبب الاحترار العالمي بنسب تتراوح بين 14-18%

تظهر واحدة من صور "سحابة سوداء" طيرا بريش أبيض ناصع البياض، مسمرا على طين الأرض، بين الأعشاب فاتحا منقاره بهدوء، كمن زهق روحه للتو. تدلل الصورة على مجانية الموت وفجائيته في موسم "الأرز الدامي"، إذ تختنق الكائنات شجرا وبشرا وطيورا وتفقد حياتها لأسباب واهية. في تأمل الصورة المقربة يصعب، للوهلة الأولى، التفريق بين ما إذا كان الطائر حقيقيا أم هو لعبة تكسوها الريش.

في مكان آخر ناء، بعيدا من عاصمة مصر، تسأل طفلة صغيرة عن أمها ولعبتها وتبدو وحيدة وتائهة.

أرض البدو: مسرح عن الزواج المبكر والعنف و"الختان الظالم"

في مقابل الطفلة، يتبدى رجل بهيئة عملاقة، يطلب منها أن تهدأ وتتهيأ لـ"ليلتها"، فيما تقطر عيناه اشتهاء مربكا، بتعبيرات وأداء، ولدا مشاعر حيرة، وربما ضيقا خفيا، لدى حشد من المشاهدين تجمعوا ليشاهدوا العرض المسرحي، داخل خيمة رفعت على مسافة أمتار من شاطئ ساحل خليج العقبة، في مدينة دهب المصرية، جنوب شرق منطقة سيناء، وعلى مسافة أكثر من 500 كم من القاهرة.

خاص المجلة تصوير إبراهيم توتونجي
حظيت صور المصور الشاب أبو ليلة بمنح عالمية كونها تستخدم لرفع الوعي البيئي

لم يعتد سكان المدينة، من بدو أو وافدين مصريين وأجانب، ولا من زوارها الراغبين في البحث عن تجارب تأمل واسترخاء، أو سباحة وغوص وصيد مثيرة، على هذا النوع من النشاطات.

بعد تحررها من الاحتلال الإسرائيلي في مطلع ثمانينات القرن الماضي، بعد 15 عاما خضعت خلالها لسيطرة قواته، لم تكن "الحزمة الثقافية" ولا الفنية، هي أولى الجوائز التي دلفت على الأرض السيناوية التي يسكنها نصف مليون بدوي مصري يعيشون في مجتمعات تهيمن عليها العادات القبلية، في الغالب. بل كانت المشاريع السياحية، من منتجعات وفنادق بفئات مختلفة، ونشاطات ما فوق وتحت الماء، ومخيمات وجسور وجلسات طرب ومرح معلقة بين الجبال، هي التي سيطرت على المشهد طوال أكثر من اربعة عقود، وصولا إلى يومنا هذا.

كذلك فإن "أرض الفيروز"، كما تلقب سيناء، لم تكن مشعة دوما خلال تلك الفترة بوهج السياحة. إذ أنه بين الأعوام 2004 و2018 أرخت التوترات الأمنية (برداء أقسى وأكثر تعملقا ورعبا من ذاك الذي يكتسي به الممثل في الخيمة) على المنطقة التي تشرب ترابها الكثير من الدماء في جولات متتالية من "الحرب  على السواح" و"الحرب على الإرهاب" و"الحرب على الجنود" وكتائب قوات الأمن المركزي الزاحفة من القاهرة.

في تقرير بعنوان "نجاح مصر في مكافحة التمرد في سيناء" (2021) يقترح "معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى" أن أساس التوتر في تلك المنطقة يعود إلى ما قبل بداية الألفية بسنوات طويلة: "كانت سنوات الإهمال والتمييز اللذين مارستهما الحكومة المصرية (بعد التحرير) قد فاقمت شكاوى البدو الذين استُبعدوا في الغالب عن التوظيف في سلك الشرطة وقطاع السياحة المربح، وجاءت ردود القاهرة الجائرة لمكافحة الإرهاب بين 2004 و2006 لتؤجج العداوة، واستغل الجهاديون هذه التظلمات لجذب السكان إلى الحركة القتالية"، ويشيد التقرير ذاته بخطط الحكومة المصرية منذ 2018 بالعمل بشكل وثيق مع أبناء المنطقة من أجل مواجهة التحديات الأمنية.

وسط كل ذلك التاريخ المشحون بالقلق، والرغبة بتبديده في الوقت ذاته دفاعا عن الموارد السياحية، لم يترك الكثير من الطاقة ولا الإرادة لتشكيل مشهد ثقافي مواز، في المكان الذي يقصده، للمفارقة، الكثير من الفنانين، كتابا وموسيقيين وراقصين وصناع أفلام ورسامين ونحاتين من مصر وخارجها، بحثا عن الإلهام وشحن طاقاتاهم الحيوية.

لكن شريف القزاز، المخرج المسرحي والرسام التشكيلي المصري، والمعالج بفنون الأداء الفني والحركي، قرر، بعد أن حط رحاله ذات يوم قبل ثلاث سنوات، في قرية نويبع القريبة، ليصل منها إلى مبنى "بيت الثقافة" في "ساحة العصلة" المركزية قرب مطاعم السمك في دهب... أن يحدث اختراقا، ويثير القليل من "الشغب" الفني، داخل المشهد السياحي الهادئ في المدينة، معلنا "تشكيل أول فريق مسرحي في دهب".

الفن هو من أكثر الأدوات التي تحقق أهداف التنمية والادماج والتطور الاجتماعي وحتى الاقتصادي في المجتمعات النائية

شريف القزاز

في مكتبه، وفيما تفلت عروق عشبة النعناع من بين أصابعه في فنجان الشاي، وتتصاعد موسيقى جاز من مذياع مثبت في زاوية صالة فسيحة، يبدو بابتسامة عذبة وشخصية مغرقة في اللطف، غير موح للوهلة الأولى، بذلك البركان الفني الذي يغلي بين جنباته، ويتفجر مشاريع وأعمال وطموحات، يصطدم الكثير منها في جدار الجغرافيا النائية والخصوصية الأمنية للمنطقة وقلة الدعم الحكومي للنشاط الثقافي. لكنه، على الرغم من ذلك، لمس إمكانات واعدة، بعد نجاح معارض رسم جماعية وعروض مسرحية، وورش أداء ورسم موجهة لأطفال البدو، قام بها، بمساعدة فريق صغير، خلال السنوات الماضية.

يقول في حديث خاص مع "المجلة" جرى في دهب: "اؤمن أن الفن هو من أكثر الأدوات التي تحقق أهداف التنمية والادماج والتطور الاجتماعي وحتى الاقتصادي في المجتمعات النائية".

تحت تلك الراية، اجتمع خمس نساء وسبع رجال، بينهم اثنان من بدو المنطقة، تدربوا تحت إشراف القزاز، الذي يحمل لقب مدير الشؤون الثقافية والفنية في "بيت ثقافة دهب" التابع لـ"الهيئة العامة لقصور الثقافة"، في قاعات المبنى الذي يبدو أنه أهمل لفترات طويلة، وعادت الحياة، رويدا رويدا لكي تدب فيه. يضم مكتبة تضم كتبا ودوريات قيمة لا يبدو أنها تحظى بالكثير من الرواج، وصالة ثبتت على جدرانها لوحات رسمها 9 فنانين وفنانات أقاموا في المدينة أو زاروها، ومراحيض في حالة حرجة: "نعمل ضمن الإمكانات المتوفرة ونحاول التغلب على التحديات بحبنا للفن وإيماننا أن أرض سيناء تستحق مشهدا ثقافيا لا يقل توهجا عن الإقبال السياحي عليها".

خاص المجلة تصوير إبراهيم توتونجي
تستوحي "بلغة" تصميماتها من الشخصية المصرية باختلاف مكوناتها على مدى العصور

من ذلك البناء، خرج عرض "كل يوم" الذي كتب نصه ياسر أبو العينين وأخرجه القزاز، ليعتبر عرضا "تاريخيا"، إذ لم يسبقه عمل مسرحي احترافي آخر، تكوّن في دهب، وحضره 300 شخص، وتعرض لموضوعات تمس الروح الاجتماعية والنفسية الأعمق لمجتمعاتها البدوية، بعيدا من تقاطعها الظاهر و"الفولكلوري" مع الصورة السياحية المريحة: "العنف ضد المرأة، عادات الختان المضرة، عادات التزويج المبكر للطفلات، التحرش الجنسي المسكوت عنه... عناوين كهذه من المحتمل أن يثير طرحها تحديات في المناطق المركزية، فكيف في مجتمعات نائية، في سيناء البدوية؟ لكننا نرغب في رفع مستوى الوعي بتلك القضايا بأسلوب ناعم يترك أثره، جنبا إلى جنب الحملات التوعية التي تقوم بها جهات الداخلية والتعليم والصحة في هذه المناطق".

رغم بعض النقاشات الحادة التي تلت العروض الخمسة لـ"كل يوم"، وتمركزت حول العادات والتقاليد، والمواجهة بين تعاليم مغلوطة منسوبة إلى الدين وبين اليوميات المعاشة على شواطئ ترتدي فيها المرأة السائحة زي البحر بطلاقة وحرية، بينما تكاد المرأة البدوية أن تكون شبحا غير مرئي تختفي في بيوت مصنوعة من الطين وبين أزقة غير مرصوفة... تمكن العرض من جذب جمهور مختلط ومنوع، من النادر أن يتجمع في نشاط واحد: "أرى في النقاش وحتى الاعتراض ظاهرة صحية. علينا أن نوسع الهامش وإلا بقيت العقول والأحاسيس متبلدة تعيش على الهامش"، يضيف القزاز، الذي يشرح أنه احتاج إلى وقت ليس باليسير لكي يحظى بثقة الأهالي الذين تركوا أطفالهم يترددون بحرية على الورش الفنية، بينما انتظم ناضجون منهم في فرقة التمثيل: "ترك السواح من اليهود الآتين من اسرائيل خلال سنوات الاحتلال تأثيرا على الثقافة البدوية، بأن علموا الأطفال صناعة أساور قماشية تربط حول اليدين وترمز إلى المنطقة. ثم اعتاد الاطفال أن يسرحوا (بعضهم حفاة) بين أحياء دهب السياحية مثل العصلة والمشربية ومجرى السيل لكي يطلبوا من السواح المال لقاء بيع تلك الأساور... حين دخلوا الي في بيت الثقافة خيّرتهم بين الخروج فارغي الوفاض أو بمهارات فنية مفيدة... تعلقوا بعد حين بالخيار الثاني".

الختان يعد جريمة ترتكب في حق الفتاة، ويترك أضرارا صحية ونفسية وجسدية لها، ويعد شكلا من أشكال العنف ضد المرأة

لم تكن حرفة صناعة الأساور هي كل ما أراد المحتل تركه في سيناء. منذ بداية الاحتلال بعد حرب يونيو/ حزيران 1967 رغب بأن يحدث شرخا في ولاء المجتمع البدوي لوطنيته وتعلقه بأرض مصر. في عام 1968 جمعت إسرائيل مشايخ القبائل في مدينة الحسنة، شمال سيناء، في مؤتمر حاشد ودعتهم لإعلان دولة مستقلة. رفض المشايخ هذا العرض جماعيا، واشتهر، من بين الردود، قول نسب للشيخ سالم الهرش: "باطن الأرض أولى بنا من ظهرها إذا ما قبلنا هذا الأمر‏... ‏مصريين ولدنا واستشهدنا وسنبقى إلى أن نموت، ومن يريد التحدث في شأن سيناء فعليه الذهاب إلى الرئيس جمال عبد الناصر".

على مسافة أمتار قليلة من الحي الذي حمل اسم ذاك الشيخ الشهير والموقر في قبيلته "الشيخ سالم"، يظهر ملصق عرض "كل يوم" تسعة من الممثلين، بينهم خمس نساء (ترتدي واحدة منهن الحجاب). قام المخرج ببسطه قرب حزمة النعناع على مكتبه. أزياء الممثلين تعطي انطباعات بأنها عسكرية. تضفي وقفتهم الجادة مزيدا من الجدية، بينما تبدو في الخلفية صخور جبلية مستمدة من روح المكان. يوحي المشهد بكتيبة أمنية على أهبة تنفيذ أمر ما. لكن مخرج العمل يسارع إلى نفي الانطباع مؤكدا أن الزي الظاهر ما هو إلا أوراق لُفّت حول أجساد الممثلين: "أردت الايحاء بأن الناس هنا متروكون لأقدارهم ومسيرون من دون إرادة حقيقية وكأنهم، وسط التحديات التي يعيشونها، على المستويات كافة، يشبهون الطرود التي تغلف وتنقل من مكان إلى آخر من دون أن يكون لها يد في مسارات حياتها".

خاص المجلة تصوير إبراهيم توتونجي
تظهر خلفيات صور أبو ليلة التي تجول المعارض في القاهرة تلوث هواء قريته بفعل حرق قش الأرز

قد ينطبق إيحاء القزاز بشكل كبير على إرادة المرأة المحلية في تلك المنطقة تحديدا، والتي مستها المحاور الأربعة الرئيسة للمسرحية. وينسجم رأيه مع الرأي الذي أوردته الباحثة نهلة إمام في كتابها المعنون "النهار الزين... عادات الزواج في سيناء" باعتبار أن "جهود التعليم في سيناء لا تزال هشة أمام سطوة التقاليد"، وأيضا مع رأي هبة حمدي، المسؤولة في الإدارة الصحية في رأس سدر على الضفة الأخرى من سيناء، باعتبار أن "الختان يعد جريمة ترتكب في حق الفتاة، ويترك أضرارا صحية ونفسية وجسدية لها، ويعد شكلا من أشكال العنف ضد المرأة، وهو أمر حسمه مجمع البحوث الإسلامية في مصر مصدرا فتوى بتحريم ختان الإناث لما يسببه من أضرار على الفتيات".

في "ميدان العصلة" تتخلى كلاب الشوارع عن سلميتها وتنبح بعنف كلما مر أطفال البدو تحديدا الى جانبها. يعلق أحدهم على المشهد: "بعض الاطفال يتعرض إلى عنف أسري بسبب بيئته المنخفضة الوعي والتعليم. يصرف الطفل بدوره هذا العنف الممارس ضده على كائنات أضعف، غالبا ما تكون الكلاب السائبة. وتلك بدورها باتت خبيرة، وتتناقل حذرها، وعداءها للأطفال، جيلا بعد جيل".

على مسافة 190 كيلومترا من دهب، في طور سيناء، تحاول مبادرة حكومية تحمل اسم "بداية جديدة لبناء الإنسان" نشر الوعي بـ"العنف الأسري وآثاره السلبية" بمشاركة 43 طالبا وطالبة.

هل بالإمكان تعميم تجارب التداوي بالفن عبر تأسيس المزيد من الفرق المسرحية في أرض سيناء؟ يضحك شريف: "آمل ذلك... المهمة صعبة ولكن غير مستحيلة".

font change