ارتحلت "المجلة" مئات الكيلومترات في مصر، في ثلاث مناطق مختلفة جغرافيا وإثنيا وثقافيا، لكي تستطلع التداخل بين أعمال مبدعين مصريين، في المسرح والفوتوغرافيا والتصميم، وبين المعضلات البيئية والثقافية التي تواجه سكان المناطق النائية وتلك التي تقع خارج المركز. مع بدو سيناء وأمازيغ سيوة ومزارعي الدلتا تبدت المشاهدات التالية.
جلد مطرز لتمكين النساء
تتحلى جيهان إبراهيم بإرادة وصبر عاليين، يجعلانها قادرة على الإرتحال من العاصمة المصرية، القاهرة، في اتجاه شمال غرب البلاد في رحلة بالسيارة، قد تستغرق أكثر من ثماني ساعات، قاطعة خلالها أكثر من 750 كم، من أجل ملاقاة سيدة مصرية أمازيغية اسمها زمزم.
قبل أن تقرر إبراهيم، مع شريكتها منى سرور، أن تؤسسا محترفا فنيا ينتج أحذية وحقائب وإكسسوارات جلدية مستهلمة من حقبات مختلفة من التاريخ الحضاري لمصر، كان عملها في النشاط السياسي والمجال الصحافي، دربها على تلك الروية والنظرة الاجتماعية المسؤولة، التي تحتاج إليهما شابة متوهجة الطاقة، لكي تدرب نساء "واحة سيوة".
شمل التدريب أمرين أساسيين: نقل حرفة التطريز اليدوي السيوي، الشهيرة عبر العصور، من القماش إلى الجلد، إضافة إلى إجراء بعض التعديلات التي تقربه من الحس الفرعوني بعيدا من الفولكلورية الأمازيغية الصاخبة بالألوان، وثانيهما تمكين المشتغلات اقتصاديا بحيث يكن قادرات على التحلي بشخصية مالية مستقلة عن مجتمع الرجال الذين يسيطرون، بسلطة العادات والدين والتقاليد، على مشهد الواحة.
هكذا، ربما تتمكن زمزم وعشرات النسوة اللواتي يعملن لصالح "بلغة" (اسم العلامة التجارية لجيهان ومنى الذي يرمز إلى نعل القدم الخفيف المفتوح من الخلف) من توفير المال الذي يتحصلن عليه لقاء مجهود التطريز، من أجل الالتفات الى أمر آخر أكثر حساسية من تحضير أثواب العروس لفتيات البيت: معالجة آلام المفاصل التي تجعلهن في كثير من الأحيان عاجزات عن المشي.
مفارقة
تقول إبراهيم في حديث خاص مع "المجلة": "تحمل سيوة مفارقة كبيرة من ناحية التنظيم الاجتماعي فيها. اذ هي مجتمع تحتجب فيه النساء في بيوتهن، أو عبر طبقات من الملابس تشبه النقاب، وإن كان مطرزا، لو خرجن في أوقات نادرة، بينما يشكلن في الوقت ذاته رأسمالا اقتصاديا بما تدره أعمالهن في التطريز من دخل يعيل الأزواج والأبناء. المفارقة الأخرى تتمثل في أن هذا الحجب، مع عوامل الرطوبة المتفشية في بيوتهن ذات البناء المتواضع، يحدث في المكان نفسه الذي يقصده السواح من مختلف مناطق العالم من أجل الاستشفاء عبر حمامات الرمال الساخنة والمياه الكبريتية لتحسين عوارض الروماتيزم والروماتويد وآلام المفاصل وتنشيط الدورة الدموية وأمراض الرطوبة وعلاج الكثير من الأمراض الجلدية".
في محترف أنيق، في شقة تقع في شارع دمشق، في "ضاحية المعادي الراقية جنوب القاهرة، يسيطر جو من المرح والمودة العائلية على العمال المهرة في "ورشة بلغة" الذين استقطبوا من الورش التقليدية المتوزعة حول شارع السلاح وحي الدرب الأحمر في القاهرة القديمة. هناك تعرفت رائدتا الأعمال، قبل ما يقارب 10 سنوات الى "الأسطوات" الذين تدربتا على أيديهم، وأسستا ورشة خاصة في منطقة لم يكن معتادا على النساء فيها الاشتغال في مهنة كهذه: "استغرق تحضير تصميماتنا أربع سنوات. تعلمنا خلالها أمورا كثيرة ساعدتنا بعد ذلك لكي نحقق أسرع أهدافنا: أن تكون ’بلغة’ متوفرة على رفوف متجر المتحف المصري الجديد، جنبا إلى جنب تذكارات منتجة من مصممين عالميين ومصريين راسخين".
تضيف: "بعض تلك المهارات يتمحور حول كيفية استخدام أصباغ طبيعية مستمدة من الحجارة والنباتات المصرية لا تلوث البيئة ولا تخنق المسام في جلود الجمال أو الجواميس التي نستخدمها؟ كيف نستوحي من أناقة الموضة العالمية من دون التضحية بأصالة الحس البلدي العريق؟ كيف نطبق مفاهيم التجارة العادلة؟ كيف يمكن النساء قيادة الرجال في نماذج أعمال كفوءة ومنتجة".