فلاديمير كورولينكو صوت المهمشين المنسي

روايته "الابن ماكارا" واحدة من أولى ثمار الأدب الإنساني الروسي

GettyImages
GettyImages
فلاديمير كورولينكو

فلاديمير كورولينكو صوت المهمشين المنسي

من بين وجوه الأدب المكتوب باللغة الروسية، الكاتب الأوكراني فلاديمير كورولينكو (1853 – 1921) هو من دون شك المنسي الأكبر. نسيان جائر لأن هذا الكاتب بقي حتى رحيله نقيا وحازما في وجه الظلم، كما يتجلى ذلك في جميع مقالاته النارية، وخصوصا في سردياته المشبعة بالرقة والطرافة، المكتوبة بأسلوب حالم وواقعي في الوقت نفسه، والمسكونة بشخصيات مهمشة ومتشردة، ثائرة في غالب الأحيان على جور مجتمعها وانعدام المساواة فيه.

وقوع هذا العملاق في دائرة الظل منذ زمن طويل، هو ما دفع من دون شك دار النشر السويسرية، "سيرت"، المتخصصة في الأدب الروسي، إلى محاولة رد الاعتبار إليه، عبر نشرها حديثا، تحت عنوان "حلم ماكارا"، الترجمة الفرنسية التي أنجزها شخص مجهول عام 1922 لروايته "الابن ماكارا". سردية قصيرة نسبيا (70 صفحة بالفرنسية)، لكنها ساحرة إلى أبعد حد، وذات أهمية كبيرة لأنها تتضمن كل فن هذا الكاتب الكبير وعالمه الآسر.

عالم سيبيريا المجهول

فن كورولينو، يصفه الكاتب الفرنسي - السويسري جيل سيلبرتان في مقدمته لهذا العمل بـ"فن حكواتي ماهر غالبا ما يتجسد في شخصية رحالة لا نعرف عنه شيئا تقريبا، لكن يحثه لطفه ورحابة صدره على أن يكشف لنا سرا يثقل كاهله، حتى لو تطلب الأمر منه سلوك منعطفات وطرق التفافية في عملية سرده، توحي للمصغي إليه بشعور فاتن بالسفر داخل الزمن والجغرافيا على حد سواء".

أما عالم كورولينكو، فهو، بحسب سيلبرتان، "عالم بقاع سيبيريا النائية، وتحديدا ياقوتيا حيث، مع عودة الشتاء، تكنس ’أنفاس الريح الجليدية’ المساحات الثلجية التي لا يجرؤ كائن – حيوانا كان أم إنسانا – على اجتيازها، بينما يبدو الليل لا ينتهي (...) فضاءات شاسعة كانت تقطعها، حين كتب كورولينكو ’حلقة المتشردين السيبيريين’، طوابير من المحكومين المقيدين بالسلاسل، المرسلين إلى المستعمرات العقابية الرهيبة".

سكان هذه الأقاصي، إضافة إلى الحيوانات المحلية النادرة، وأبناء ياقوتيا الذين تكيفوا تماما مع مناخها القاسي، مستوطنون بؤساء يحاولون قدر المستطاع البقاء على قيد الحياة في قرى نائية، ويتراوحون بين تتار مهجرين، ومتشردين، ومغامرين، ومجرمين، وصعاليك من مختلف الأنواع. وإلى هؤلاء، يجب إضافة حفنة من المثاليين المنفيين لخمسة أو عشرة أو عشرين عاما، هم "مثقفون نسيهم القدر في هذه الأراضي الضائعة". فئة انتمى كورولينكو إليها واختبر حياتها القاسية لمدة سنوات طويلة.

مارس هناك مهنا متواضعة مختلفة، من بينها إسكافي وعامل سكك حديد، وفي أوقات فراغه، خط سردياته، لكن من دون أن يفوت فرصة للاحتجاج على قرار نفيه

لفهم مسيرة هذا الكاتب وكيف انتهى به المطاف باكرا في سيبيريا، تجب العودة إلى مرحلة دراسته الجامعية في موسكو حيث أدت مشاركته في حركة احتجاجية هدفت إلى فضح تواطؤ إدارة جامعته مع الشرطة، إلى سجنه ثم نفيه لمدة عام إلى مقاطعة فولوغدا النائية. وهو ما وضعه على مسار لا رجعة فيه: مسار العمل الثوري.

shutterstock
مدينة ياكوتسك في روسيا، إحدى المحطات التي ارتبطت باسم كورولينكو خلال نفيه

بعد فولوغدا، نفي كورولينكو من جديد إلى مقاطعة فياتكا، ثم إلى بلدة غلازوف الصغيرة، قبل أن يرمى في سجن ذي نظام صارم في منطقة فيشنيفولوتسكي. وبعد إطلاق سراحه، لم يتمكن من الاستقرار سوى في مدينة بيرم التي تقع على أبواب سيبيريا، فمارس هناك مهنا متواضعة مختلفة، من بينها إسكافي وعامل سكك حديد، وفي أوقات فراغه، خط سردياته، لكن من دون أن يفوت فرصة للاحتجاج على قرار نفيه الذي كان لا يزال ساري المفعول، ولا يمكن تبريره.

في 13 مارس/ آذار 1881، إثر اغتيال القيصر ألكسندر الثاني على يد أعضاء من منظمة "إرادة الشعب"، طلب من جميع المنفيين توقيع "إعلان ولاء" للقيصر الجديد، وهو ما رفضه كورولينكو، فنفي إلى ياقوتيا، وتحديدا إلى أمغا، وهي قرية كان يتطلب بلوغها آنذاك رحلة على الأقدام تستغرق ثلاثة أشهر ونصف شهر. عالم آخر إذن ما لبث أن انفتح أمام الوافد الجديد، هو عبارة عن أرض منفى ملعونة منذ زمن طويل، فضاءاتها الشاسعة وحشية وساحرة في آن واحد، ومناخها قطبي نادر القسوة.

إسكافي ومعلم

فور وصوله، شعر كورولينكو بحساسية كبيرة تجاه هذا العالم المنعزل، بخصوصياته وما يوفره لقاطنيه. وبسرعة، ارتبط برفاقه في المحنة، وعاد إلى مهنة إسكافي لكسب قوته، ممارسا في موازاة ذلك دور المعلم لأطفال هذا المكان، ومدونا كل ما كان يراه ويسمعه ويشعر به في حضرة الناس الذين كان يلتقيهم، بما في ذلك العديد من الاعترافات التي استقى منها سرديات مؤثرة. وعلى الرغم من السلبيات التي استنتجها باكرا في عامة الناس (وحشية، كسل وإفراط في السكر)، لم يفقد أبدا ثقته بالإنسان المتواضع، البائس، بل أصبح هذا الإنسان أحد موضوعاته المفضلة، كما يظهر ذلك على وجه الخصوص في روايته "الابن ماكارا".

ثمرة موهبة تجمع بين بصيرة وخيال وتعاطف مع أولئك الذين تهمشهم طريقة سير العالم أو تدفعهم إلى التمرد، حققت هذه الرواية التي كتبها كورولينكو عام 1883، وصدرت بعد عامين، شهرة فورية له. ومع أنها تعكس في مضمونها عشق الطفل كورولينكو لتشارلز ديكنز، وتحديدا لروايته "نشيد عيد الميلاد" (1843)، إلا أنها تتفوق عليها، في نظر بعض النقاد، بتجسيدها أفضل ما كتب من سرديات عن الحالات القصوى التي يمكن أن يدفع البؤس الإنسان إليها.

حققت هذه الرواية شهرة فورية له، ومع أنها تعكس في مضمونها عشق الطفل كورولينكو لتشارلز ديكنز، وتحديدا لروايته "نشيد عيد الميلاد"، إلا أنها تتفوق عليها

بطل الرواية، ماكارا، قروي عجوز وساذج يعيش في قرية تشالغان، في أقاصي التايغا السيبيرية، يتكلم الروسية بشكل سيء، يرتدي جلود حيوانات، ويعمل كالمحكومين بالأشغال الشاقة. لكن ماكارا هو أيضا محتال يغش في معاملاته، ينهب فخاخ الثعالب التي ينصبها الآخرون، ويشرب بعطش لا يرتوي الفودكا المخففة إلى حد كبير بالماء التي يبيعها التتار له على أنها نقية. وحين يبلغ الثمالة، أي دائما، يحلم بتسلق الجبل البعيد، لا لأنه يرغب في عيش حياة زهد، هو أصلا يختبرها كل يوم، بل كي يتوقف عن دفع الضرائب.

في ليلة عيد الميلاد، يتوجه ماكارا إلى حانة التتار المكتظة دائما بالسكارى. وحين لا تعود صالتها تتسع لمزيد منهم، يطرده صاحبها بعدما كان قد بلغ حالة سكر شديد، فيعود أدراجه إلى المنزل وهو يترنح، حيث تستقبله زوجته بالصراخ واللكم والركل لأنه كان قد وعدها بعدم الشرب في تلك الليلة.

GettyImages
رسم بورتريه لفلاديمير كورولينكو

مباشرة بعد الشجار، يقنع ماكارا نفسه بأن ثعلبا وقع في واحد من فخاخه، ويقرر التوجه إلى الغابة في منتصف الليل للإمساك به، فيقع هناك على خصمه أليوشا، الذي جاء مثله لتفقد الفخاخ، ويبدآن في التقاتل على فريسة تنتهز هذه الفرصة للفرار منهما. في خضم تقاتلهما، يفقد ماكارا قبعته وقفازيه. وبعد مطاردة داخل الغابة، يقع هذا المسكين على الثلج، منهكا بفعل سكره والجهد الذي بذله، وينام. وبما أنه لا أحد يستيقظ من غفوة كهذه في أحضان الزمهرير، فإنه يعبر إلى الضفة الأخرى من دون أن يدري.

شقاء حتى بعد الموت

لكن حتى ميتا، لن ينعم ماكارا بالسلام، إذ ها هو كاهن القرية، الذي توفي منذ زمن بعيد، يوقظه لاقتياده أمام "القاضي الأكبر" بغية تقييم سلوكه على الأرض بفضل ميزان كبير يتألف من طبق ذهبي للأعمال الصالحة، وطبق خشبي للأعمال السيئة. وبعد رحلة طويلة مع هذا الكاهن، يرى ماكارا فيها أشياء غريبة عجيبة، يصلان إلى المكان المنشود حيث تبدأ فورا عملية محاكمته في حضور الملائكة. وحين يميل الطبق الخشبي بشكل خطير ويكاد يلامس الأرض، يحضر الإلهام فجأة على ماكارا، فينطلق في سرد حياته البائسة وكل المصائب التي واجهها خلالها، وقادته إلى أن يصبح ما كان قد بات عليه قبل موته.

تتميز "الابن ماكارا" بخصائص تجعل منها واحدة من أولى ثمار الأدب الإنساني الروسي الذي استكشف بعمق النفس البشرية، والمسائل الأخلاقية، والظروف الاجتماعية

تجدر الإشارة هنا إلى أن كورولينكو يتجنب إضفاء طابع مثالي على بطله، بل يصوره بعيوبه وتناقضاته وجانبه البدائي، لكن ضمن تعاطف مؤثر مع معاناته، وكشف لشروط حياته، وهو تحديدا ما يمنح هذه الرواية قوتها وبعدها الأخلاقي. لكن قيمتها الكبيرة لا تقتصر على ذلك، بل تكمن أيضا في نقاط أخرى كثيرة، أبرزها تبديدها جهلنا الكامل بتلك المساحات الشاسعة والجليدية التي تتألف الطبيعة السيبيرية منها، بمدى تنوع الكائنات التي تعيش فيها، بشرية كانت أو حيوانية، وبالظروف المرعبة لحياة هذه الكائنات فيها.

طبيعة عدائية في جوهرها، تسقطنا الرواية مرارا في فضاءاتها، مصورة إياها عن قرب، في كل روعتها ورهبتها، كما حين يضيع ماكارا فيها وهو يتعقب أليوشا في ليلة الميلاد، فنقرأ: "كان كل شيء صامتا في التايغا. كانت الغابة تنغلق عليه وحده بعدوانية شديدة، رافضة منحه أي نور أو أمل". طبيعة لا ترحم إذن من يتيه فيها، بل تجعله يدفع ثمنا باهظا. ولا عجب بالتالي في أخذ قصة ماكارا بعدا خارقا في أرجائها، فلا نعود نعرف أين ينتهي الواقع وأين يبدأ هذيان هذا القروي المسكين.

GettyImages
فلاديمير كورولينكو

تكمن أيضا قيمة "الابن ماكارا" في ردها للمتواضعين والمنبوذين كرامتهم، عبر تصويرها الرقيق والطريف لهم داخل مجتمع لا مكان لهم فيه ولا اعتبار. وفي هذا السياق، تتيح قصتها الزاخرة بالفولكلور الروسي، والنابضة بالحياة، لكورولينكو فرصة فضح الظلم الذي كان يلحق بالفلاحين الروس في نهاية القرن التاسع عشر. وإذ يقترب الكاتب في هذه النقطة من مواطنه ومعاصره تولستوي، إلا أنه ينفصل عنه في نفسه السردي الملحمي الذي يستحضر، بحسب أحد النقاد، أساطير "بابا ياغا" و"الأسطورة الذهبية".

ثمة أخيرا تشابه مثير بين هذه الرواية وخماسية فرانسوا رابليه الروائية، "حياة غارغانتوا وبانتاغرويل"، حيث ينتظرنا أيضا شرب مفرط للكحول الممزوج بالماء والتبغ، وبؤساء يتلذذون لا بمأكولات شهية، بل بثلج متجمد وأطباق مطبوخة بصلصة حصى، وموكب مثير من المجانين الرائعين.

في اختصار، تتميز "الابن ماكارا" بخصائص تجعل منها واحدة من أولى ثمار الأدب الإنساني الروسي الذي استكشف بعمق النفس البشرية، والمسائل الأخلاقية، والظروف الاجتماعية، ومنحنا عمالقة بحجم بوشكين وتولستوي وتشيخوف ودوستويفسكي... وبالتأكيد كورولينكو.

font change