زلزال منتصف الليل... أفغانستان وحيدة مع جراحها

أ.ف.ب
أ.ف.ب
مروحية عسكرية تنقل جرحى أفغان بعد الزلازل الذي ضرب قرية مزار دارا في مقاطعة نورجال، ولاية كونار، شرق أفغانستان، في 1 سبتمبر 2025

زلزال منتصف الليل... أفغانستان وحيدة مع جراحها

بدأت تلك الليلة في جلال آباد كأي ليلة أخرى. غابت الشمس الخافتة خلف جبال هندوكوش المتعرجة، ملقية بظلالها الشبحية على الوديان. عاد المزارعون من حقولهم، وحملت النساء الماء من الجداول، وكان الأطفال يلاحقون بعضهم بعضا على دروب القرى المغبرة، فيما صدى ضحكاتهم يتردد في الهواء البارد. ومع حلول الليل، تلألأت أضواء الفوانيس خلف جدران الطين والقش، وتجمعت العائلات لتناول وجبات بسيطة، وأرخى الصمت سدوله على الريف.

ولكن تحت الأرض، ثمة شيء غامض يتحرك.

ففي الساعة 12:47 صباحا، اهتزت الأرض بعنف وزمجر هدير مدوٍّ كما لو أن الأرض نفسها كانت تتصدع، مطلقة صوتا وصفه الناجون لاحقا كأنه "صوت غضب الله". وفي غضون ثوان معدودة انهارت الجدران الهشة أصلا. تهدمت قرى مبنية من الطين والقش بأكملها، حتى قبل أن يفتح سكانها أعينهم. والأمهات اللاتي كن يحاولن الوصول إلى أطفالهن دفنوا تحت الطوب والآباء الذين كانوا يهرعون نحو الأبواب لم يتمكنوا من الخروج.

وبحلول الصباح، تحولت المنطقة بأسرها إلى أنقاض تطوف في أرجائها الفجيعة والحزن. وجاءت الحصيلة الرسمية بعد ساعات: أكثر من 812 قتيلا و2600 جريح. عائلات بأكملها اندثرت ولم يعد لها أثر، ومنازل سُوّيت بالأرض، وماشية دُفنت تحت جدران من الحجر والطين. ضرب الزلزال المدمر أرضا بالقرب من وادي مزار في ولاية كونار، يعيش فيها أناس بسطاء من رعاة ومزارعين وصغار التجار، أشخاص نجوا من الحروب والجوع لكنهم وقفوا عاجزين أمام غضب الطبيعة.

في بلدان مثل تركيا واليابان، تستجيب للكوارث المروحيات وكلاب البحث والفرق المدربة. أما في أفغانستان، فلا شيء متوفر من هذا القبيل

"كل ما نملك ذهب أدراج الرياح" همس المزارع حميد الله، الذي كان يجلس بالقرب من أنقاض منزله حيث دفنت زوجته وابنتاه. رفع وجهه المغطى بالغبار والدموع وأكمل قائلا: "حفرت بيدي حتى سالت منهما الدماء، لكنني لم أستطع إنقاذهم".

في إحدى المدارس الدينية في كونار، انتشل رجال الإنقاذ 18 طفلا، ولم يكن بينهم أي ناج. وفي قرية أخرى، تحولت قاعة الأفراح التي كانت تعج بالموسيقى والاحتفالات، إلى مقبرة للعشرات عندما انهار سقفها فوق رؤوس الجميع.

وفي حديثه مع "المجلة" عبر الهاتف، وصف ذبيح الله مجاهد، المتحدث باسم إمارة أفغانستان الإسلامية، الأمر بأنه "فاجعة حلَّت بأمتنا". وكان صوته، الذي لطالما كان واثقا في وجه العواصف السياسية، يتهدج تحت وطأة حزن غير معهود.

عمليات إنقاذ بلا موارد وأرواح بلا مأوى

مع بزوغ الفجر، تحول المتطوعون من المزارعين وأصحاب المتاجر والطلاب إلى رجال إنقاذ. راحوا يحفرون بالمجارف والعصي، وحتى بأواني الطبخ. وكشط بعضهم الأنقاض وأزاحوها بأيديهم العارية، لا يرشدهم إلا الصراخ الخافت تحت السقوف المنهارة.

أ.ف.ب
أفغان يسيرون أمام منازل متضررة جراء الزلزال في مزار دارا في مقاطعة نورجال، ولاية كونار، شرق أفغانستان، في 1 سبتمبر 2025

قال الشاب أحمد شاه، وهو صاحب متجر في كونار: "كنا نسمع أصواتا تحت الأنقاض. كانت هناك طفلة تنادي والدتها. ولم يكن لدينا أي شيء- لا أدوات من أي نوع. وعندما وصلنا إليها، كان الصمت يلفها".

في بلدان مثل تركيا واليابان، تستجيب للكوارث المروحيات وكلاب البحث والفرق المدربة. أما في أفغانستان، فلا شيء متوفر من هذا القبيل. لا رافعات لإزاحة الخرسانة، ولا مستشفيات ميدانية تتجهز وتنقل جوا بين عشية وضحاها. إن عقودا من الحرب خلفت في البلاد بنادق بدل سيارات الإسعاف، ومقاتلين بدل رجال الإنقاذ.

منذ عودة طالبان إلى السلطة في عام 2021، أصبحت أفغانستان معزولة عن معظم دول العالم

في مستشفى جلال آباد الإقليمي، كان الأطباء يخيطون الجروح على أضواء هواتفهم عندما انقطعت الكهرباء. وبحلول الظهيرة نفذت مسكنات الألم. وكانت أكياس الدم تتدلى من خطافات صدئة، بينما كان أفراد العائلات يخففون الحر عن مرضاهم باستخدام قصاصات من الورق المقوى في أجنحة المستشفى خانقة الحرارة.

قال الدكتور فريد، الجراح الذي أنهكه العمل: "سبق وعالجنا جروح الحرب، وطلقات الرصاص، وانفجارات القنابل، إلا أن هذا أسوأ بكثير. أطفال سحقوا أثناء نومهم. أمهات بكسور في العمود الفقري. وليس لدينا شيء، لا أدوية، ولا معدات، ولا حتى أسرّة كافية".

وصلت وكالات الإغاثة الإنسانية الدولية متأخرة خالية الوفاض. أرسل بعضها خياما وطرودا غذائية وبعض المستلزمات الطبية. لكن لم تكن هناك فرق مزودة بمعدات ثقيلة، ولا مستشفيات متنقلة. قاد متطوعو الهلال الأحمر الأفغاني سياراتهم لساعات على الطرق المدمرة ولم يجلبوا معهم سوى بطانيات للناجين الذين ينامون في العراء.

ثمة أسباب سياسية تكمن وراء هذه العزلة. فمنذ عودة طالبان إلى السلطة في عام 2021، أصبحت أفغانستان معزولة عن معظم دول العالم. جمّدت العقوبات الغربية القنوات المالية. وغادرت معظم المنظمات غير الحكومية البلاد، متذرعة بمخاوف أمنية. أما وكالات الأمم المتحدة، فهي تعمل بتمويل محدود، وغالبا ما تصب جلّ اهتمامها وأولويتها على أزمات الغذاء واللاجئين بدل التأهب للكوارث.

قال شهيد خان، الصحافي المقيم في كابول: "العالم لا يتجاهلنا لأنه لا يعرف، بل يتجاهلنا لأنه اختار ذلك. عندما تضرب الزلازل إيطاليا أو اليابان، تحط فيها فرق الإنقاذ في غضون ساعات. أما فيما يخص الأفغان، فالتعاطف يأتي أسرع من المساعدة".

بحلول عصر يوم الاثنين، بنى الناجون ملاجئ مؤقتة من الألواح الخشبية والبلاستيكية التي استطاعوا إنقاذها. وفي أحد المخيمات بالقرب من أسد آباد، عاشت العائلات تحت أقمشة مشمعة تبرع بها السكان المحليون. كان البرد قارسا في الليل، وعلا صوت سعال الأطفال في الظلام.

وكان من بين أولئك الصغار أمينة، طفلة في التاسعة من عمرها، تحمل ذراعها في حمالة، توفي والداها في الزلزال، ولم يبق لها أي أقارب. وعندما سُئلت أين ستعيش الآن، همست: "ربما مع الله".

كانت كلماتها صدى يردد يأس الآلاف من الناس، أشخاص لم يصبحوا بلا مأوى فحسب، بل تملكهم اليأس أيضا، في انتظار عالم قد لا يأتي أبدا.

يحذر الخبراء من تزايد خطر الزلازل في أفغانستان مع تزايد الكثافة السكانية في الوديان المعرضة للخطر

نداء من أجل الغد

تقع أفغانستان فوق خطوط صدع متعددة حيث تصطدم الصفائح التكتونية الهندية والأوراسية. والزلازل هنا قديمة قدم الجبال نفسها. ففي عام 1998، أودى زلزالان متتاليان في تخار بحياة أكثر من 6000 شخص. وفي عام 2002، أدى زلزال إلى تدمير قرى في نهرين عن بكرة أبيها، ما أسفر عن مقتل 1000 شخص. وفي الآونة الأخيرة، في عام 2022، أسفر زلزال بقوة 5.9 درجات عن مقتل 1163 شخصا في باكتيكا.

غير أن شيئا لم يتغير. فلا أنظمة إنذار مبكر، ولا قوانين بناء مقاومة للزلازل. وما زال القرويون يبنون منازلهم بالطوب المجفف بالشمس كذاك الذي استخدمه أسلافهم منذ قرون، لتهتز الأرض كل بضع سنوات، وتنهار الجدران، وتنقل وكالات الإغاثة الخيام والبطانيات، وتستمر الحياة متعثرة حتى الكارثة التالية.

أوضح المهندس رحيم، الجيولوجي المتقاعد من جامعة كابول، قائلا: "الكوارث هنا لا تقتل بسبب قوتها، بل بسبب ضعفنا: سوء البناء، وغياب الاستعداد، وانعدام التخطيط. الطبيعة تختبرنا، لكننا لا نتعلم أبدا".

أ.ف.ب
متطوعون أفغان وأفراد أمن من طالبان يعملون على نقل مصابين قرب مروحية عسكرية إثر زلزال ضرب قرية مزار دارا في نورجال، شرق أفغانستان، في 1 سبتمبر 2025

ويحذر الخبراء من تزايد خطر الزلازل في أفغانستان مع تزايد الكثافة السكانية في الوديان المعرضة للخطر. ويقدر مكتب الأمم المتحدة للحد من مخاطر الكوارث أن أكثر من 12 مليون أفغاني يعيشون في مناطق معرضة للزلازل، معظمهم في منازل لن تصمد على الأرجح حتى بوجه الهزات الخفيفة.

وقال البروفيسور نزار جان، وهو عالم اجتماع في كابول: "نحن بحاجة إلى الاستثمار في العلوم والهندسة والتعليم. دربوا فرق الإنقاذ المحلية. علموا الأطفال إجراءات السلامة من الزلازل. ابنوا مدارس ومستشفيات لا تنهار مثل علب الثقاب. إذا كان العالم قادرا على إنفاق المليارات على الحروب هنا، فسيكون قادرا على إنفاق الملايين على إنقاذ الأرواح".

ورغم حجم الكارثة، جاء رد الفعل الدولي خجولا. فقد أرسلت باكستان قافلة من الأغذية والأدوية عبر حدود تورخام. وقدمت إيران فرقا طبية. وتعهدت الأمم المتحدة بتوفير ملاجئ مؤقتة ومستلزمات شتوية. أما الدول الغربية المنشغلة بحروب أوكرانيا وغزة، فبعيدا عن التعازي لم تقدم الشيء الكثير.

وقال الدكتور محمد أحمد، خبير الإغاثة من إسلام آباد: "إن الزلازل لا تكترث بمن يحكم، لكن المساعدات تفعل. وهنا تكمن المأساة: الوصمة السياسية للتعامل مع طالبان تُترجم مباشرة إلى معاناة للناس العاديين."

الآن يعيش آلاف الأفغان، معظمهم من النساء والأطفال، تحت أقمشة مشمعة وفي خيام مؤقتة، معرضين لليالٍ شديدة البرودة

النداء الذي لن يُلبى

بحلول مساء الاثنين، انتهت الجنازات الجماعية. غطت قبور جديدة سفوح التلال في كونار ونانغرهار. وراح الناجون يتجولون بين أنقاض منازلهم، يستخرجون أواني طهي نصف مدفونة، وكتبا مدرسية ممزقة، وإطارات صور زفاف مكسورة.

دفن جول رحمان زوجته وأطفاله الخمسة في حفرة واحدة. وعندما سُئل عما سيفعله لاحقا، قال: "لا يوجد ما هو قادم. هناك فقط ما قبله وما بعده".

والآن يعيش آلاف الأفغان، معظمهم من النساء والأطفال، تحت أقمشة مشمعة وفي خيام مؤقتة، معرضين لليالٍ شديدة البرودة. بدأت الأمراض تنتشر بين الأسر النازحة. وتقضي الأمهات وقتها بانتظار مياه نظيفة، بينما يبحث الآباء عن طعام لا يصل.

بدأ بعض الشيوخ بكتابة رسائل إلى السفارات الأجنبية، يناشدونها طلبا للمساعدة، في حين حثّ رجال الدين الدول المجاورة على فتح حدودها لإجلاء المرضى. ومع ذلك، لا تزال معظم العائلات عالقة بين منازل منهارة وعالم لا يكترث.

هل سيتحرك العالم للمساعدة في محنتهم؟ أم ستُترك هذه العائلات، التي تعاني أصلا من وطأة الحرب والفقر، مرة أخرى لرحمة الجبال والطقس؟

أ.ف.ب
سكان محليون يسيرون بجوار منزل دمره زلزال أودى بحياة العديد من الأشخاص ودمر قرى في شرق أفغانستان، في 1 سبتمبر 2025

أصبحت الحياة اليوم في شرق أفغانستان منقسمة إلى ما قبل الزلزال وما بعده. فقبل الزلزال، كان ثمة حفلات زفاف ومدارس وأسواق وصلاة. أما بعده، فلا شيء سوى الفقد والجوع والعمل البطيء لإعادة الإعمار، عمل يدرك الأفغانيون أنه سيقع على عاتقهم وحدهم ما لم يقرر العالم مد يد العون لهم.

لم يكن ما شهدته البلاد مجرد زلزال، بل كان الليلة التي انقلبت فيها الأرض على أهلها. وما زال الصمت الذي خلّفته يصرخ طلبا للمساعدة عبر مختلف القارات.

font change