الطباعة الثلاثية البعد: طب حسب الطلب

الثورة مستمرة

Sara Padovan
Sara Padovan

الطباعة الثلاثية البعد: طب حسب الطلب

تخيل غرفة عمليات مكتظة بالأجهزة، وأطباء يقفون في حالة تركيز قصوى: على الطاولة مريض بكسر معقد في عظم الفخذ، فيما يمسك الجرّاح بين يديه أداة من غير المألوف أن تظهر على طاولة الأدوات الطبية إلى جانب المشارط والمقصات والشاش المعقم. أداة تشبه مسدس الغراء العادي الذي نراه في ورش الحرف، لكنها هنا تحمل وعدا بإنقاذ حياة. يوجه الطبيب الأداة نحو موقع الكسر ليبدأ بخطوط دقيقة تُشكّل طبقات متماسكة من مادة حية آمنة، وتتحول أمام أعين الفريق الطبي إلى دعامة عظمية مصممة خصيصا للحالة.

هذا المشهد لم يعد خيالا علميا، بل حقيقة علمية طُرحت أخيرا، إذ طور باحثون جهازا محمولا يشبه "مسدس الغراء" قادرا على طباعة دعامات عظمية مباشرة داخل موقع الكسر أثناء العملية، معتمدا مزيجا من مادة "البولي كابرولاكتون" المتوافقة حيويا ومعدن "الهيدروكسي أباتيت"، مع إمكان تشبيع الدعامة بمضادات حيوية تُطلَق تدريجيا لمنع الالتهابات.

وقد جاءت هذه الخطوة استكمالا لما حققته الطباعة الثلاثية البعد في هذا التخصص من تصميم مفاصل وشرائح مخصصة وترميم كسور معقدة، لكنها تأخذ فكرة التخصيص خطوة أبعد عبر الطباعة داخل غرفة العمليات نفسها.

فالجهاز يسخن خيطا مركبا من "الهيدروكسي أباتيت" و"البولي كابرولاكتون" إلى نحو 60 درجة مئوية ليخرج لدنا دون إيذاء الأنسجة الحية، ثم يحركه الجراح فوق موقع الكسر لملئه بطبقات تتصلب فورا وتكون هيكلا مطابقا لشكل العظم، ومع تعديل نسب المكونين يمكن التحكم في صلابة الدعامة وقوتها بحسب موضع العلاج.

اصبحت الطباعة الثلاثية البعد أكثر حضورا في مجالات متعددة. في الطب ظهرت تطبيقات تشمل الاطراف الصناعية وزرع العظام وحتى محاولات طباعة الاعضاء باستخدام الخلايا الحية

كما يمكن تشبيع الدعامة بمضادات حيوية مثل "الفانكوميسين" و"الجينتاميسين" تطلق موضعيا بصورة مضبوطة لتأمين حماية ضد العدوى. وقد أظهرت التجارب قبل السريرية على الأرانب التئاما أسرع وجودة أعلى مقارنة بالطرق التقليدية، من دون دلائل على التهاب أو نخر خلال أسابيع المتابعة، والأهم أن الهيكل المطبوع مصمّم ليتحلل تدريجيا ويُستبدَل بنسيج عظمي جديد، وبذلك يغدو جزءا طبيعيا من جسم المريض. إلى جانب ذلك، تختصر هذه المقاربة زمن الجراحة بالاستغناء عن تصنيع مسبق وتمنح ملاءمة دقيقة حتى مع الكسور غير المنتظمة، ومع انتقال التقنية إلى التجارب السريرية قريبا يرجَّح أن تحدث تحولا جذريا في علاج إصابات العظام المعقدة بحلول أسرع وأقل تكلفة وأكثر فاعلية.

تاريخ من الانجازات

لم تكن الطباعة الثلاثية البعد مجرد طفرة تقنية ظهرت فجأة، بل هي ثمرة مسار طويل بدأ منذ ثمانينات القرن الماضي. واليوم أصبحت هذه التكنولوجيا قادرة على تغيير قواعد اللعبة في مجالات الطب، والصناعة، وحتى الفضاء.

في عام 1981 في اليابان نشر الباحث هيديو كوداما اول ورقة علمية تتحدث عن تصنيع مجسمات باستخدام اشعة فوق بنفسجية لتصلب طبقات من مادة سائلة. لم ينتشر اختراعه عالميا وقتذاك، لكنه وضع اللبنة الاولى. ثم وفي عام 1984 سجل الاميركي تشاك هال براءة اختراع تقنية الاستريوليثوغرافي وهي اول طريقة عملية للطباعة الثلاثية البعد تعتمد على تصلب الراتنج السائل بالليزر، ويعتبر هال الاب الروحي لهذه التقنية.

وفي التسعينات، جاءت الانطلاقة العالمية الصناعية. ففي هذه المرحلة ظهرت شركات رائدة وقدمت تقنيات جديدة مثل الترسيب المنصهر والتلبيد الانتقائي بالليزر، واقتصرت الطباعة الثلاثية البعد وقتذاك على النماذج الاولية للشركات الصناعية مثل شركات السيارات والطائرات، وذلك لتوفير الوقت والمال مقارنة بالتصنيع التقليدي.

أصبح هناك أطراف وقطع بديلة خفيفة الوزن ومرنة، مصنوعة من مواد متوافقة حيويا، تمنح المستخدم راحة أكبر وتؤدي وظيفتها بكفاءة أعلى.

مع انتهاء بعض براءات الاختراع القديمة في اوائل الالفية، بدأت الشركات الصغيرة والباحثون بتطوير طابعات مفتوحة المصدر. وظهرت ايضا حركة "ريب راب" عام 2005، وهي مشروع مفتوح المصدر لطابعات يمكنها طباعة اجزاء من نفسها. هذه الخطوة جعلت الطابعات اقل تكلفة واكثر انتشارا بين الافراد.

وفي الفترة بين 2010 و2020 اصبحت الطباعة الثلاثية البعد اكثر حضورا في مجالات متعددة. في الطب ظهرت تطبيقات تشمل الاطراف الصناعية وزرع العظام وحتى محاولات طباعة الاعضاء باستخدام الخلايا الحية، وفي المجال المعماري بدأت شركات في الصين واوروبا ببناء منازل كاملة عبر الطباعة الثلاثية البعد باستخدام الخرسانة، اما في الفضاء فقد اعتمدت وكالات الفضاء والشركات الخاصة على هذه التقنية لطباعة قطع غيار في محطة الفضاء الدولية.

shutterstock
أصبح هناك أطراف وقطع بديلة خفيفة الوزن ومرنة مصنوعة من مواد متوافقة حيويا

في عام 2025 اصبحت الطباعة الثلاثية البعد صناعة بمليارات الدولارات تدخل في مجالات مثل الالكترونيات والموضة وصناعة الطعام وحتى الدفاع.

مزروعات بحسب الطلب

شهد المجال الطبي نقلة نوعية بفضل اعتماد هذه الطباعة في تصميم الأطراف الاصطناعية والمزروعات بحسب احتياجات كل مريض على حدة. وعلى خلاف المنتجات الجاهزة ذات المقاسات الموحدة، تتيح هذه التقنية تصنيع طرف أو مزروعة مفصلة تماما وفق قياسات جسم المريض، مما يحسن ملاءمة ووظيفة الطرف الصناعي بشكل كبير. وقد عانت الأطراف التقليدية سابقا من مشاكل عدم الارتياح وصعوبة الاستخدام، مما أدى في كثير من الحالات إلى تخلي المرضى عنها.

اليوم، وبفضل إمكان التعديل الرقمي السريع وإعادة الطباعة خلال ساعات، أصبح في الإمكان تطوير التصميم بشكل آني بناء على ملاحظات الجرّاحين وتجاوب المرضى، وبالتالي تتشكل دورة تحسين متواصلة.

مع توسع الاعتماد على الطباعة الثلاثية البعد، سنشهد حلولا أسرع وأكثر تخصيصا للمرضى

البروفيور إيان جيبسون، أستاذ هندسة التصميم في جامعة تفينتي في هولندا

وأصبح هناك أطراف وقطع بديلة خفيفة الوزن ومرنة، مصنوعة من مواد متوافقة حيويا، تمنح المستخدم راحة أكبر وتؤدي وظيفتها بكفاءة أعلى.

ولعل هذا التطور ينعكس على توقعات السوق، إذ يُنتظر أن يشهد قطاع الطباعة الطبية معدل نمو يتجاوز 20% سنويا خلال الأعوام القليلة المقبلة، مدفوعا بميزات التخصيص وانخفاض التكلفة وسرعة الإنتاج.

وفي تصريحات خاصة لـ"المجلة" أوضح البروفسور إيان جيبسون، أستاذ هندسة التصميم في جامعة تفينتي في هولندا، أن هناك العديد من الحالات التي تبين كيف غيّرت الأطراف والمزروعات المطبوعة حياة المرضى. أبرز الفوائد أنها أكثر ملاءمة لجسم المريض مما يقلل الرفض والالتهابات، كما أنها أكثر دقة تشريحيا وهو ما يحسن المظهر خصوصا في الوجه، "كذلك يمكن تحسين توافقها مع ميكانيكية العظام، مما يقلل مشكلة فقدان الكثافة العظمية واستخدام الهياكل المسامية يخفف الوزن ويعزز اندماج العظم بالمزروعات. ومع توسع الاعتماد على الطباعة الثلاثية البعد، سنشهد حلولا أسرع وأكثر تخصيصا للمرضى".

font change