خطة ترمب لأوكرانيا... نسخة جديدة من "الأرض مقابل السلام"

اقتناص الفرص الدبلوماسية الدقيقة

ناش فيرسكيرا/المجلة
ناش فيرسكيرا/المجلة

خطة ترمب لأوكرانيا... نسخة جديدة من "الأرض مقابل السلام"

ثمة تقليد راسخ في الدبلوماسية الأميركية يفترض أن معظم البشر طيبون في جوهرهم، وأن القادة إذا ما التقوا، يستطيعون التوصل إلى حلول لنزاعاتهم بالعقل والمنطق. ويُعد تفكير الرئيس ترمب بشأن الحرب في أوكرانيا مثالا واضحا على هذا التوجه، إذ مارس ضغوطا على الرئيسين بوتين وزيلينسكي لعقد اجتماع عاجل.

حين زار زيلينسكي البيت الأبيض في 19 أغسطس/آب، كان يرتدي بدلة جديدة، وقدّم للسيدة ميلانيا ترمب رسالة يشكرها فيها على اهتمامها بأطفال أوكرانيا، وهو ما أسعد الرئيس الأميركي.

زيلينسكي حريص على عدم إثارة غضب ترمب، إذ يحتاج بشدة إلى أنظمة الدفاع الجوي الأميركية لمواجهة الهجمات الروسية المتزايدة بالطائرات المسيّرة على المدن الأوكرانية. وحتى إن لم تُمنح هذه الأنظمة لأوكرانيا مباشرة، فقد يوافق ترمب على بيعها لدول أوروبية، تزود بها كييف لاحقا. وهذا ثمن يراه زيلينسكي مقبولا مقابل الموافقة على لقاء الرئيس الروسي، حتى لو لم يُنهِ هذا اللقاء الحرب.

أما بوتين، فلم يرفض الفكرة في ألاسكا لأنه لا يرغب في إغضاب ترمب، خشية أن يؤدي ذلك إلى فرض عقوبات جديدة على الاقتصاد الروسي المتدهور. ويدرك أن استمرار اهتمام ترمب بلقاء زيلينسكي سيحول دون تشديد العقوبات الأميركية. وعلى الرغم من أن بوتين لطالما عبّر، لأكثر من عقد، عن شكوكه في شرعية الدولة الأوكرانية وحكومتها، فإن عدم رفضه لقاء زيلينسكي بدا وكأنه تنازل كبير لفريق ترمب.

لكن لا لقاء مرتقب بين الرئيسين في القريب العاجل. فقد أشار مسؤولون روس، بمن فيهم وزير الخارجية سيرغي لافروف، إلى أن ثمة الكثير من التحضيرات التي يجب إنجازها قبل عقد أي اجتماع.

يرى ترمب أن جذور الحرب تكمن في نزاع على الأراضي، في حين يرى كل من زيلينسكي وبوتين أن الحرب هي صراع وجودي لأوكرانيا كدولة مستقلة وذات سيادة

إعطاء روسيا المزيد من الأراضي الأوكرانية؟

يرى لافروف أن من بين المسائل التي ينبغي حسمها، موافقة أوكرانيا على تقديم تنازلات إقليمية لروسيا. وقد أبلغ الروس هذا الموقف أولا إلى مبعوث ترمب، ستيف ويتكوف، في موسكو يوم 6 أغسطس، ثم إلى ترمب شخصيا في ألاسكا يوم 15 أغسطس. وعرضوا وقف إطلاق النار مقابل سيطرة روسيا على بقية إقليم دونيتسك، الذي لا تزال القوات الأوكرانية تسيطر على أجزاء منه.

وبما أن خط المواجهة يمتد عبر أربعة أقاليم أوكرانية، فإن ترمب وويتكوف يعتبران العرض الروسي بمثابة تنازل، لأن القتال سيتوقف في دونيتسك وفي الأقاليم الثلاثة الأخرى، كما سيتوقف القصف على المدن الأوكرانية. لكن ترمب وويتكوف لم يدركا في البداية أن زيلينسكي والدول الأوروبية سيعتبرون وقف إطلاق النار بمثابة اعتراف بسيطرة الجيش الروسي على معظم إقليمي خيرسون وزاباروجيا، وعلى كامل لوهانسك، بالإضافة إلى الجزء الأكبر من دونيتسك. يعيش نحو 250 ألف مدني أوكراني على الثلاثين في المئة المتبقية من دونيتسك، التي لا تزال تحت سيطرة الجيش الأوكراني، وهي المنطقة التي يطالب بها بوتين. وعليه، فإن ما ستناله أوكرانيا من عرض بوتين لن يتجاوز وقف إطلاق النار.

أ.ف.ب
صورة تذكارية للرئيسين الأميركي دونالد ترمب والروسي فلاديمير بوتين، في آلاسكا، 15 أغسطس 2025

ينص القانون الأوكراني على ضرورة إجراء استفتاء عام للتصديق على أي تنازل عن الأراضي، وهو ما يعني أن زيلينسكي سيتحمل كلفة سياسية باهظة إن وافق على منح موسكو بقية مقاطعة دونيتسك. علاوة على ذلك، فإن هذه المنطقة المحررة تتمتع بخط دفاعي قوي، وإذا ما خضعت للسيطرة الروسية، فستمنح الجيش الروسي موقعا يمكّنه من تهديد العاصمة كييف بشكل أكبر.

يرى ترمب أن جذور الحرب تكمن في نزاع على الأراضي، في حين يرى كل من زيلينسكي وبوتين أن الحرب هي صراع وجودي لأوكرانيا كدولة مستقلة وذات سيادة. وبعد الهجمات الروسية في عامي 2014 و2022، لم يعد زيلينسكي يثق في أن بوتين سيحترم أي اتفاق للسلام.

بدلا من مواجهة ترمب بشدة خلال اجتماعهم في 19 أغسطس/آب بالبيت الأبيض، أمضى زيلينسكي والقادة الأوروبيون معظم الوقت في مناقشة الضمانات الأمنية

الأمن لأوكرانيا؟

يهدف الجزء الثاني من إطار عمل ترمب إلى توفير ضمانات أمنية كافية لأوكرانيا، لطمأنة زيلينسكي والدول الأوروبية بأن بوتين لن يجرؤ على مهاجمة أوكرانيا مرة أخرى. وقد تعهدت كل من فرنسا وبريطانيا علنا بإرسال قوة عسكرية مشتركة إلى أوكرانيا للمساعدة في ردع روسيا، كجزء من اتفاق السلام، غير أن اقتراحهما لم يحرز تقدما يُذكر، ويرجع ذلك جزئيا إلى غياب الوضوح حول ما إذا كانت الولايات المتحدة ستشارك أم لا، ما جعل من المستحيل على الأوروبيين وضع خطط تفصيلية.

خيبة الأمل كانت حاضرة لدى زيلينسكي والدول الأوروبية، حين تراجع ترمب في 15 أغسطس في ألاسكا عن موقفه الداعم لوقف إطلاق النار أولا، ثم الدخول في مفاوضات حول نقل الأراضي لاحقا، وهو الموقف الذي اتُفق عليه في مكالمة هاتفية مشتركة يوم 13 أغسطس. وبدلا من مواجهة ترمب بشدة خلال اجتماعهم في 19 أغسطس/آب بالبيت الأبيض، أمضى زيلينسكي والقادة الأوروبيون معظم الوقت في مناقشة الضمانات الأمنية. وقد سرّهم أن ترمب بدا منفتحا على فكرة التدخل العسكري الأميركي، رغم رفضه تقديم أي التزام محدد.

وفي اليوم التالي، يوم 20 أغسطس، أوضح ترمب أنه لن يرسل أي قوات برية أميركية إلى أوكرانيا ضمن أي قوة عسكرية أجنبية تتمركز هناك. ولا ترغب القاعدة السياسية لترمب، ولا المسؤولون البارزون في إدارته، وعلى رأسهم نائب الرئيس فانس، في الانخراط عسكريا في أوكرانيا. وخلال اجتماع طارئ للقادة العسكريين الأوروبيين والأميركيين عُقد في البنتاغون في اليوم ذاته، أكد وكيل وزارة الدفاع الأميركية، كولبي، أن دور الجيش الأميركي في الترتيبات الأمنية في أوكرانيا سيكون محدودا، وشدد على ضرورة أن تتولى الدول الأوروبية قيادة الجهود لنشر القوات البرية.

وفي 21 أغسطس، وجّه وزير الخارجية روبيو، الذي يقود الجانب الأميركي في إعداد الحزمة الأمنية، تحذيرا لمسؤولي الأمن الأوروبيين بأن الولايات المتحدة ستشارك في الترتيبات، لكن ينبغي على أوروبا أن تقود الجهود. وقد حرص، بحسب شبكة "سي إن إن"، على عدم تقديم أي التزام محدد. وفي المقابل، يريد المسؤولون العسكريون الأوروبيون، بحسب تقارير إعلامية أميركية، أن تقدم واشنطن على الأقل دعما في مجالات الاستخبارات والمراقبة واللوجستيات، وهي مجالات تعاني فيها الجيوش الأوروبية من نقاط ضعف كبيرة.

يتوقع الخبراء الأميركيون أن توافق واشنطن على إرسال طائرات دون طيار لمراقبة تحركات الجيش الروسي على طول الحدود. غير أن اتفاقا من هذا النوع سيُلزم الدول الأوروبية بتوفير قوات برية ووحدات جوية قتالية، وهو مشروع ضخم ومكلف يتطلب قرارات صعبة من حكوماتها.

وتشمل المحادثات بين واشنطن وأوكرانيا والدول الأوروبية، إلى جانب مسألة القوة العسكرية بقيادة أوروبية، التزاما علنيا من الولايات المتحدة والعواصم الأوروبية بدعم أوكرانيا في حال تعرضها لهجوم روسي ثالث. ويُقترح التزام مشابه لما تنص عليه المادة 5 من معاهدة حلف شمال الأطلسي، رغم إصرار ترمب على أن هذا الالتزام لا يمكن أن يشمل حلف الأطلسي نفسه.

رغم أن زيلينسكي قد يثق أكثر بقادة أوروبيين، فإن عليه أن يطرح السؤال الصعب: هل سيخوض الأوروبيون حربا للدفاع عن أوكرانيا في وجه هجوم روسي واسع، دون دعم أميركي مباشر؟

وتنص المادة 5 ببساطة على أنه إذا تعرض أحد أعضاء الحلف لهجوم، فإن الدول الأعضاء الأخرى "ستتخذ كل منها الإجراءات التي تراها ضرورية، بما في ذلك استخدام القوة المسلحة". وقد صيغت هذه العبارة عمدا بقدر من الغموض، أثناء إدارة الرئيس ترومان، لأن الأخير لم يكن يعتقد أن بوسعه إقناع مجلس الشيوخ الجمهوري في عام 1948 بقبول معاهدة تتضمن التزاما مباشرا بنشر قوات أميركية للدفاع عن أوروبا. وكان وزير الخارجية المؤثر حينها، دين أتشيسون، قد طمأن المجلس بأن المعاهدة لا تعني دخول الولايات المتحدة تلقائيا في الحرب إذا ما تعرّض عضو آخر لهجوم.

يدرك زيلينسكي أن ترمب لم يُبدِ حماسة كبيرة خلال ولايته الأولى للاعتراف بأي التزام بالمادة 5 للدفاع عن أوروبا عسكريا. كما يعلم أن ترمب لا يحمل أي ارتباط عاطفي أو سياسي بأوكرانيا كدولة مستقلة. وقد شهد زيلينسكي بنفسه تبدل موقف ترمب بعد ساعات فقط من اتفاقه مع الأوروبيين على أولوية وقف إطلاق النار. كما لاحظ أن أقرب أصدقائه في إدارة ترمب، المبعوث الخاص كيث كيلوغ، لا يملك من النفوذ ما يملكه ستيف ويتكوف، الذي يتبنى مواقف تميل إلى دعم الطرح الروسي.

ناش فيرسكيرا/المجلة

ورغم أن زيلينسكي قد يثق أكثر بقادة أوروبيين مثل الرئيس الفرنسي ماكرون، ورئيس الوزراء البريطاني ستارمر، والمستشار الألماني ميرس، فإنه يعلم أيضا أن عليه أن يطرح السؤال الصعب: هل سيخوض الأوروبيون حربا للدفاع عن أوكرانيا في وجه هجوم روسي واسع، دون دعم أميركي مباشر؟

هل يستطيع ترمب التوصل إلى اتفاق؟

قال ترمب في 15 أغسطس في ألاسكا: "لن يكون هناك اتفاق حتى يتم التوصل إلى اتفاق"، قاصدا أن جميع عناصر الاتفاق يجب أن تُعتمد كحزمة واحدة. وتراقب موسكو المناقشات الأمنية بدقة، مكررة التأكيد على ما تصفه بـ"الخطوط الحمراء"، إذ لطالما رفضت نشر قوات غربية في أوكرانيا، وتطالب بتخفيضات في تعداد الجيش الأوكراني.

وقد ذكر ويتكوف أن روسيا وافقت، خلال لقاء ألاسكا، على ترتيب مشابه للمادة 5، غير أن وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، صرّح في 21 أغسطس بأن مجموعة من الدول، تضم الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا والصين، يجب أن تكون الأطراف التي تقدم الضمانات الأمنية. أما كييف، فترفض إشراك روسيا في تحديد حجم قواتها المسلحة، كما ترفض أن تتمتع الصين بحق النقض في تنفيذ أي ضمانات أمنية متعددة الأطراف.

وفوق ذلك كله، وبينما تتطلع أوكرانيا إلى دعم أصدقائها في الترتيبات الأمنية، طالب لافروف في اليوم ذاته بمشاركة روسيا في المفاوضات المتعلقة بالأمن المستقبلي لأوكرانيا، محذرا من أن التفاوض من دون موسكو لن يؤدي إلى أي نتيجة.

يُعرف ترمب بحبه للأحداث الكبرى، مثل لقاء القمة مع بوتين في ألاسكا، وزيارة سبعة من كبار القادة الأوروبيين إلى البيت الأبيض، إلا أن التفاوض على اتفاق سلام هو مهمة من نوع مختلف. وقد اعترف في مقابلة مع قناة "فوكس نيوز" يوم 20 أغسطس بأن وقف الحرب في أوكرانيا أصعب مما كان يتوقع.

في واشنطن، ثمة رئيس لا يتحلى بالصبر، ويواجه شركاء عنيدين في موسكو وكييف، ويعتمد على فريق يفتقر إلى الخبرة في اقتناص الفرص الدبلوماسية الدقيقة

وتشير تقارير إعلامية صدرت في 21 و22 أغسطس إلى أن ترمب قد ينتظر اتفاقا مباشرا بين موسكو وكييف لعقد لقاء بين بوتين وزيلينسكي، من دون وساطة أميركية. لكن احتمال التوصل إلى مثل هذا الاتفاق ضعيف للغاية، خصوصا وأن ترمب ليس رجلا صبورا، ومع تصاعد التحديات، قد يتخلى عن المبادرة، كما فعل من قبل في ملف غزة والمحادثات النووية مع إيران. في المقابل، قد يواصل روبيو العمل مع الأوروبيين على الترتيبات الأمنية لأوكرانيا، التي تشكل أحد الأعمدة الأساسية لأي اتفاق نهائي.

يثق ترمب بوزير خارجيته، روبيو، إلا أن الأخير يتولى كذلك رئاسة مجلس الأمن القومي ويتحمل مسؤولية السياسة الخارجية الأميركية ككل، ما يحدّ من الوقت الذي يستطيع تخصيصه لمفاوضات أوكرانيا المعقدة. أما نائباه الأولان لشؤون أوروبا، في وزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي على التوالي، فلا يملكان الخبرة اللازمة: أحدهما مستثمر مالي سابق في وول ستريت، بخبرة دبلوماسية محدودة، والثاني ضابط عمليات خاصة سابق في الجيش، انتقل إلى قطاع الأعمال بعد تقاعده، ويكاد يخلو سجله من الخبرة التفاوضية أو في شؤون الأمن الأوروبي.

أما ويتكوف، فقد ظهرت حدود قدراته بوضوح من خلال أدائه المرتبك في ملفات غزة والبرنامج النووي الإيراني وأوكرانيا. وفي ظل غياب دبلوماسيين مخضرمين، يبرز تأثير شخصيات أخرى مثل نائب الرئيس فانس ووكيل وزارة الدفاع كولبي، وهما من أشد المتحفظين على أي تدخل أميركي في أوكرانيا.

وفي واشنطن، ثمة رئيس لا يتحلى بالصبر، ويواجه شركاء عنيدين في موسكو وكييف، ويعتمد على فريق يفتقر إلى الخبرة في اقتناص الفرص الدبلوماسية الدقيقة. والنتيجة المرجحة: ستستمر الحرب.

font change