سياسات ترمب... فرص بناء تحالف ثلاثي بين الهند والصين وروسيا

تحولات درامية

.أ.ف.ب
.أ.ف.ب
رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والرئيس الصيني شي جي بينغ، خلال قمة "بريكس" في قازان، روسيا، 23 أكتوبر 2024.

سياسات ترمب... فرص بناء تحالف ثلاثي بين الهند والصين وروسيا

سياسات ترمب تبعث الروح في احتمال بناء تحالف ثلاثي بين روسيا والهند والصين. وتنذر سياسات إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب المتبعة مع الهند بتدمير هيكل علاقات بين البلدين دأبت الإدارات السابقة في ربع القرن الأخير على تمتينها وتحويلها إلى شكل من العلاقة الاستراتيجية في المجالات السياسية والأمنية والاقتصادية. وفي يوم 27 أغسطس/آب الجاري دخلت الرسوم الجمركية الأميركية المفروضة على الهند بواقع 50 في المئة حيز التنفيذ، ما يهدد بتراجع التبادل التجاري بين البلدين، وتباطؤ النمو الاقتصادي في الهند. ومنذ إعلان ترمب عن نيته فرض رسوم إضافية على البضائع الهندية بنحو 25 في المئة بسبب شراء النفط الروسي، بدأت نيودلهي بالانفتاح أكثر على الصين وزادت وتيرة الاجتماعات الثنائية بين المسؤولين الهنود ونظرائهم في الصين وروسيا، وسط خيبة نيودلهي من سياسات ترمب.

وبعد نحو ثلاثة عقود على طرح فكرة التحالف الثلاثي مع الصين والهند من وزير الخارجية الروسي الأسبق يفغيني بريماكوف، وأكثر من 25 عاما على استدارة طائرته فوق الأطلسي، والعودة إلى موسكو بدلا من استكمال الرحلة إلى واشنطن، بأمر منه حين كان رئيسا للوزراء احتجاجا على ضرب يوغوسلافيا، من الواضح أن الظروف الدولية الحالية، أكثر ملاءمة لتحقيق أحلام بريماكوف ببناء تحالف أوراسي بعد خيبته من التقارب مع الغرب. وفي المقابل، لا يمكن التقليل من حجم الخلافات الكبيرة بين الصين والهند، وقدرة الهند على إعادة تموضعها الجيوسياسي من سياسة عدم الانحياز مع بناء علاقات برغماتية مع القوى العالمية الأساسية إلى الالتزام بتحالف قد يتسبب في خسارة أوروبا والولايات المتحدة.

وقد توترت العلاقات الهندية-الأميركية منذ صعود ترمب، ورغم أن الهند كانت من أوائل الدول التي أعلنت استعدادها للتفاوض بشأن الرسوم الجمركية، فقد فرض ترمب 25 في المئة على صادراتها إلى الولايات المتحدة. وفي نهاية الشهر الماضي أعلن ترمب فرض رسوم إضافية بنحو 25 في المئة إضافية بسبب شراء النفط الروسي، واتهم نيودلهي بدعم روسيا على مواصلة حربها على أوكرانيا.

وقبلها نفت الهند توسط ترمب للتوصل إلى اتفاق منع الانزلاق إلى حرب نووية ما أثار غضب الرئيس الأميركي الذي استضاف في يونيو/حزيران الماضي قائد الجيش الباكستاني، عاصم منير، بعدما أيّدت إسلام آباد ترشيحه لجائزة نوبل للسلام. ومنحت باكستان قائد القيادة المركزية الأميركية الجنرال مايكل كوريلا وساما رفيعا. وبدوره أشاد كوريلا بجهود باكستان في مكافحة الإرهاب.

توترت العلاقات الهندية-الأميركية منذ صعود ترمب، ورغم أن الهند كانت من أوائل الدول التي أعلنت استعدادها للتفاوض بشأن الرسوم الجمركية

وفي إطار أوسع، بدا أن الهند تخشى من تغيرات كبيرة في طريقة تعامل الإدارة الأميركية مع قضايا الأمن في جنوب آسيا والمحيط الهندي وبحر الصين، وترى أن واشنطن يمكن أن تتراجع عن سياسة احتواء الصين عبر التحالف الرباعي الذي يضم أيضا أستراليا واليابان والولايات المتحدة.  

وتخشى نيودلهي من أن ترمب ربما يذهب إلى عقد صفقة ثنائية مع الصين تراعي احتفاظها بمناطق نفوذ في بحر الصين الجنوبي وتايوان.  ومن غير المستبعد أن ترمب يتقارب مع باكستان لإبعادها عن الصين، وحينها ستتغير المقاربات الأميركية حول الصراع بين الجارتيين النوويتين اللدودتين.

ومن المؤكد أن الهند تراقب بعناية موقف ترمب بشأن تسوية الحرب الروسية على أوكرانيا، وانفتاحه على حل لا يبتعد كثيرا عن رغبات بوتين، وإنهاء العقوبات على روسيا وزيادة التعاون مع شركاتها في مجال الطاقة، ما يعني عمليا تراجع حاجة موسكو للهند التي لم تدعم أساسا الحرب على أوكرانيا ولكنها حافظت على علاقاتها مع موسكو، ولم تنضم إلى العقوبات الغربية، وهو موقف لم يعجب الأوروبيين والأميركيين، وقبلته روسيا على مضض. ومما أثار غضب الغرب زيادة الهند مشترياتها من النفط الروسي وتحولها إلى أكبر مشتر من روسيا واستئثارها بنحو 40 في المئة من صادرات روسيا النفطية، بعدما كانت هذه النسبة لا تتجاوز 3 في المئة في عام 2021.  

وفي ظل هذه الأوضاع،  وعدم القدرة على التنبؤ بقرارات ترمب بدا أن الهند تتجه نحو تحسين علاقاتها الاقتصادية والتخفيف من التوتر الأمني بين البلدين مع الصين، كما تسعى إلى تعزيز علاقاتها الدفاعية والاقتصادية مع روسيا.

رويترز
الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي يتصافحان في البيت الأبيض في واشنطن، الولايات المتحدة، 13 فبراير 2025

وربما ترقى تحركات الهند الأخيرة مع روسيا والصين إلى انقلاب جذري في علاقات الهند الخارجية. ففي الماضي كانت نيودلهي تستعين بعلاقاتها مع الولايات المتحدة لبعث رسالة للصين حول وجود خيارات اقتصادية ودفاعية، وكذلك الأمر مع روسيا وإن بدرجة أقل، ولكن الصورة الآن معاكسة تماما. وللحد من الضغوط الأميركية، أبدت الهند انفتاحا على منافسي واشنطن لحماية اقتصادها والمضي بمشروعها.

وفي وقت سابق من الشهر، اتفقت الصين والهند، أثناء زيارة وزير الخارجية الصيني وانغ يي إلى نيودلهي على استئناف رحلات الركاب المباشرة بين البلدين، وتسهيل التبادلات التجارية والبرامج الثقافية، بهدف إصلاح العلاقات المتوترة بين الشعبين. وقالت وزارة الخارجية الصينية إن الهند والصين "دخلتا مسارا تنمويا مطردا" ويجب عليهما أن "يثقا ببعضهما البعض ويدعما بعضهما البعض".

وأكدت الصين وعدها برفع القيود التجارية على السلع الأساسية مثل الأسمدة والمعادن النادرة ومعدات حفر الأنفاق، وهي مواد حيوية للصناعات الهندية. وفي ضوء التقارب المتواصل لاحتواء المشكلات الحدودية التي تسببت في اشتباكات كان آخرها عام 2020، اتفق الجانبان على تهدئة التوترات في بؤر التوتر على طول الحدود، ووضع إطار عمل لمنع الاشتباكات العرضية. ووفقا لوسائل الإعلام الرسمية الصينية، ناقش الجانبان إمكانية إحياء مفاوضات ترسيم الحدود، وهو أمرٌ متوقف منذ سنوات. وقال وزير الخارجية الصيني إن "الانتكاسات التي شهدناها في السنوات القليلة الماضية لم تكن في مصلحة شعبينا. ونحن نشعر بالارتياح لرؤية الاستقرار يُستعاد على الحدود".

وفي وقت سابق أوفدت الهند وزير خارجيتها سوبرامانيام جيشينكار إلى موسكو، وفي مؤشر إلى عمق العلاقة التقى الرئيس بوتين. وفي مؤتمر صحافي قال الوزير الهندي في 21 أغسطس/آب الجاري إن العلاقات بين البلدين من أقوى العلاقات بين الدول الكبيرة على مستوى العالم منذ الحرب العالمية الثانية. وذكر جيشينكار أن الدولتين أعادتا تأكيد تطلعهما إلى تعزيز التجارة الثنائية، بما في ذلك زيادة الصادرات الهندية إلى موسكو، وتذليل العقبات التنظيمية أمام زيادة صادرات المنسوجات والأدوية.

وفي المؤتمر الصحافي المشترك، قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف: "نحرز نتائج جيدة في التعاون في قطاع الهيدروكربونات وفي توريد النفط الروسي إلى السوق الهندية... لدينا اهتمام مشترك بتنفيذ مشروعات مشتركة لاستخراج مصادر الطاقة، في أقصى شرق روسيا والجرف القطبي الشمالي".

التحالف الثلاثي في الميزان

وتتجه الأنظار إلى إمكانية عقد لقاء ثلاثي بين زعماء روسيا والهند والصين على هامش قمة مجموعة شنغهاي للتعاون في مدينة تيانجين الصينية نهاية الشهر الحالي، وما يمكن أن تخرج به من نتائج لبناء تحالف ثلاثي بين البلدان الثلاثة الطامحة إلى عالم متعدد الأقطاب.

ورغم المشكلات الكبيرة في العلاقات الثنائية بين الهند والصين والخلافات حول دور القيادة بين روسيا والصين، شكلت البلدان الثلاثة النواة الأساسية لمجموعة "بريكس" للاقتصادات الناشئة منذ 2009، وزاد تنسيقها بعد الأزمة المالية العالمية، وتوسعت المجموعة لتضم حاليا تسع دول من "الجنوب العالمي" في محاولة لتنسيق الجهود في المجالات الاقتصادية. ورغم  أنها أقرب إلى منتدى سياسي لمناقشة قضايا الاقتصاد والتعددية القطبية، فقد دقت نواقيس الخطر لدى الولايات المتحدة من تحولها إلى شكل مؤسسي على غرار الاتحاد الأوروبي أو مجموعة السبعة الكبار، والتخلي عن الدولار في التعاملات، وإيجاد أدوات لتعزيز التجارة بالعملات المحلية، والتعاملات المصرفية، أو التوافق على عملة احتياط جديدة، ما يهدد الهيمنة الأميركية على النظام المالي العالمي.

AFP
رئيس البرازيل لويز إيناسيو لولا دا سيلفا، رئيس الصين شي جين بينغ، الرئيس الأفريقي سيريل رامافوسا ورئيس وزراء الهند ناريندرا مودي وروسيا، وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف خلال قمة البريكس

ومن المؤكد أنه في حال الانتقال إلى العمل المؤسسي، والقدرة على حل الخلافات بين أعضائها لخدمة الأجندة الاقتصادية والتنموية يمكن أن تصبح المجموعة منافسا كبيرا للهيمنة الغربية، فبلدان مجموعة "بريكس"، حسب خطاب الرئيس فلاديمير بوتين في قمة ريوديجانيرو الأخيرة الصيف الماضي "لا تشكل ثلث مساحة اليابسة في العالم وما يقرب من نصف سكانه فحسب، بل تُمثل أيضا 40 في المئة من الاقتصاد العالمي، وقد بلغ الناتج المحلي الإجمالي، مُعادلا للقوة الشرائية، 77 تريليون دولار أميركي. ووفقا لصندوق النقد الدولي، هذا مُتوقع لعام 2025. وبالمناسبة، في هذا المؤشر، تتفوق "البريكس" بشكل ملحوظ على بعض التجمعات الأخرى، بما في ذلك مجموعة الدول السبع  التي يبلغ حجم اقتصاداتها 57 تريليون دولار أميركي".

وبعد انضمام الهند إلى مجموعة شنغهاي للتعاون في 2017 باتت البلدان الثلاثة جزءا من تحالف أمني وسياسي كبير تأسس على أساس "خماسي شنغهاي" في 1996، وتحول إلى منظمة شنغهاي للتعاون في 2001، ويضم عشر دول، من ضمنها بلدان آسيا الوسطى إضافة إلى باكستان وإيران وبيلاروسيا. ولم تتحول مجموعة شنغهاي إلى شكل يشبه حلف "الناتو" كما تضم دولا لديها مشكلات حدودية ونزاعات مفتوحة منذ عقود، ولكنها تنسق في مواضيع سياسية، وعمليات محاربة الإرهاب.

من المؤكد أن سياسات ترمب دفعت الهند نحو تقوية علاقاتها الاقتصادية والاستثمارية مع الصين بما يساعدها على تحقيق هدف بلوغ الاقتصاد الثالث عالميا في وقت قريب

ومن المؤكد أن سياسات ترمب دفعت الهند نحو تقوية علاقاتها الاقتصادية والاستثمارية مع الصين بما يساعدها على تحقيق هدف بلوغ الاقتصاد الثالث عالميا في وقت قريب، ولكن من الصعب الحديث عن الانتقال إلى علاقات استراتيجية تؤدي إلى تحالفات عسكرية وسياسية، فبعيدا عن المشكلات الحدودية، فإن الدعم العسكري الصيني لباكستان وعلاقات البلدين القوية يعطل التقارب الاستراتيجي بين نيودلهي وبكين، ولكنه لا يمنع تحالفا ظرفيا من باب "زواج المصلحة" للتحوط من تبعات سياسات ترمب المتقلبة. وانطلاقا من حجم التبادل التجاري الحالي، وإمكانات رفعه مستقبلا، فإن العلاقات الاقتصادية مع الولايات المتحدة أكثر جدوى من العلاقات مع روسيا خاصة مع الأخذ بعين الاعتبار ما يمكن أن تقدمه الولايات المتحدة في مجال التقنيات المتقدمة، وحجم الاستثمارات الأميركية الممكنة في مجال التقنيات ومخططات شركات أميركية رائدة لنقل مصانعها من الصين إلى الهند.

ويصب جمع الهند والصين في تحالف معها في مصلحة روسيا، ولكن رغم أن التبادل التجاري بين روسيا والصين تجاوز 200 مليار دولار، ووصلت العلاقات حسب مسؤولي البلدين إلى "شراكة بلا حدود" فإن روسيا لا تريد أن تكون "الشريك الأصغر" في أي علاقات ثنائية بينهما. وأخيرا، ربما من المبالغة النظر إلى التحركات الهندية نحو الصين وروسيا على أنها تغير جذري في استراتيجيتها وتموضعها الجيوسياسي وكسر تقاليدها بالانضمام إلى تحالف. والأرجح أن انفتاح الهند الحذر على الصين والتلويح بورقة العلاقات التاريخية مع روسيا يبعث برسالة لواشنطن حول خطورة استمرار سياسات ترمب المتبعة بحقها، ودعوة لتصحيحها، وفي الوقت ذاته الاستمرار ببناء قدراتها العسكرية والاقتصادية لتحظى بمكان لائق في عالم متعدد الأقطاب.

font change