فيلم "سوار" السعودي يفوز بالرهان وينال إعجاب النقاد ودعم الجمهور

أول تجربة إخراجية روائية طويلة لأسامة الخريجي

فهيد بن محمد في فيلم "سوار"

فيلم "سوار" السعودي يفوز بالرهان وينال إعجاب النقاد ودعم الجمهور

ماذا لو اكتشفت يوما أن كل ما عشته حتى اللحظة مجرد وهم وأن الحقيقة لم تأت بعد؟ ماذا، في المقابل، إذا تبيّن لك فجأة أن كل ما عشته واقعا بالفعل بُني على خطأ، وأن ذكرياتك تخص شخصا سواك، وأن أولئك الذين شاركتهم حياتك ومشاعرك ليسوا في المكان الصحيح من حياتك؟ هذا بالضبط ما حدث للطفلين، السعودي علي والتركي يعقوب، اللذين ولدا في مستشفى بمدينة نجران السعودية عام 2003 وحصل خطأ بتسليم كل منهما الى عائلة الآخر، لتتكشف قضيتهما بعد مرور ست سنوات.

يجسد فيلم "سوار" من تأليف وإخراج أسامة الخريجي ومن إنتاج شركة "حكواتي إنترتينمنت" بالتعاون مع "مؤسسة فيلم العلا"، قصة هذين الطفلين ومعاناة ذويهما، مشيرا عبر ملصق الفيلم إلى أنه مستوحى من قصة حقيقية، منطلقا من عنوانه ليذكر بذلك السوار الذي يوضع على معصم المولود الجديد، وكيف يمكن لخطأ بشري تبديل هذا السوار بآخر، ومعه مصير صاحبه.

تحديات

وعلى الرغم من أن القصة ذاع صيتها في المجتمع السعودي وأحدثت ضجة إعلامية آنذاك، إلا أن فضول الناس لا يزال يدفعهم لمشاهدة الفيلم، الذي افتتح النسخة 11 من "مهرجان الأفلام السعودية" ونال استحسان النقاد والجمهور، للتعرف الى تفاصيل هذه الحادثة الغريبة، مما جعله يحجز مكانا له ضمن قائمة الأفلام الخمسة الأكثر مشاهدةً في صالات السينما منذ بدء عرضه الجماهيري في 31 يوليو/ تموز الماضي. ويأتي نجاح "سوار"، إلى جانب "هوبال" للمخرج عبد العزيز الشلاحي، وما سبقهما من تجارب خلال السنوات القليلة الماضية، ليؤكد أن هذا النوع من الأفلام لا يزال يحظى باهتمام رواد السينما، على الرغم من طغيان الأعمال الكوميدية والحركية التي تشكّل بدورها رافدا مهما في الحراك السينمائي الحالي في السعودية.

يأتي نجاح "سوار"، إلى جانب "هوبال" للمخرج عبد العزيز الشلاحي، وما سبقهما من تجارب خلال السنوات القليلة الماضية، ليؤكد أن هذا النوع من الأفلام لا يزال يحظى باهتمام رواد السينما

ولم تكن ولادة الفيلم سهلة بسبب التحديات اللوجستية التي واجهها حيث صور في مدينة العلا لتمثل مدينة نجران، بسبب توفر التجهيزات هناك وتهيئة بعض المواقع، أما مدينة أنطاكية التركية فسجلت مشاهد الفيلم المتعلقة بها في إسطنبول جراء الزلزال الذي وقع في المدينة أثناء التصوير في 2023، ولو لم يصرح منتجو الفيلم بهذه التفاصيل لما لاحظ المشاهد الفارق، بسبب شدة تشابه الأمكنة في الأجواء والتضاريس، وهو نجاح يحسب للفيلم.

ملصق فيلم "سوار"

واعتمد فريق التصوير السعودي بقيادة بلال بدر على توظيف طيف الإضاءات الباهتة في بعض المشاهد لكي يوازن المعادلة الزمنية ويضعنا في الماضي، ويعود بنا إلى أسلوب الحياة في السعودية في نهاية العقد الأول وبداية العقد الثاني من القرن الحالي، وقد حرص على إبراز تفاصيل تعبر عن سمات تلك الفترة مثل الأجهزة والديكورات التي تأخذ حيزا كبيرا في بعض المشاهد.

اعتمد المخرج على خيط رفيع في تركيب فصول الفيلم الثلاثة، التي جاءت مليئة بالعناصر المعقدة بحيث احتوى كل مشهد على مجموعة إلماحات تشير إلى خطب ما في يوميات الطفلين علي ويعقوب، لم تدركه العائلتان إلا متأخرتين، عندما كشفت الفحوص الطبية لكل منهما أن الصبي الذي ترعرع في وسطها لم يكن يوما ينتمي إليها.

آلام الولادة والفراق

يقدم "سوار" وجبة عاطفية دسمة، تتجلى خصوصا في المشاهد التي تعرض آلام الولادة، وهو الألم الذي لا يضاهيه سوى شعور أن تدرك الأم أن عليها التخلي عمن بذلت في سبيله الكثير من الجهد والحب طوال سنوات، بعد ان اكتشفت أنه ليس ابنها البيولوجي، وأن ابنها الحقيقي غريب تراه للمرة الأولى في حياته. هنا نتعرف الى الوجه الآخر لآلام المخاض الجسدية، وهو آلام الفراق النفسي، وما تطرحه من أسئلة حول الهوية، ومن انفتاح على المجهول.

هذه الحقيقة تتجرّع مرارتها العائلة التركية أولا، وقد ساهم في وصولها إلى هذه النتيجة شك الأب ينار (سركان جينتش) الذي ظل يبحث عن إجابة عن السؤال المؤرق: هل الطفل الذي في بيته هو بالفعل ابنه وإذا لم يكن هو فكيف حدث ذلك ولماذا؟

نتعرف الى الوجه الآخر لآلام المخاض الجسدية، وهو آلام الفراق النفسي، وما تطرحه من أسئلة حول الهوية، ومن انفتاح على المجهول

يسيطر هذا الهاجس على الأب كاللعنة ويشغل تفكيره طوال الوقت، ويجلب عليه نقمة زوجته فاطمة (توغتشي يولجو) التي تلقي باللوم عليه بسبب حدسه الذي لا ينفك يصرخ بداخله حتى يصبح أقوى من أي كلام يحاول الآخرون إقناعه به، ليدفعه إلى تجربة ك شيء مقابل التيقن من أن هذا الطفل هو ابنه بالفعل، حتى لو اضطر إلى الاحتيال على زوجته لتقتنع بإجراء فحص الحمض النووي. لكن بالنسبة إلى الأم، يجب أن تكون النتيجة واحدة وهي أن الطفل هو ابنها أيا يكن رد المستشفى، وعلى الرغم من إصرارها على أن الأمر مجرد أوهام في عقل زوجها، إلا أن الشك يبدأ بالتسرب إليها بعد زيارة الطبيب، وفي تلك الليلة تعانق طفلها يعقوب بشدة كأنها تخاف أن تكون المرة الأخيرة. تشعر أن هناك سحابة تحوم حول العائلة وتغير كل شيء، حتى ابنتها زينب بدا أنها كبرت ونضجت فجأة. كل شيء لم يعد على حاله منذ صباح ذلك اليوم.

توغشي يولجو في فيلم "سوار"

في الجانب الآخر، يبرز تباين وتشابه بين الأبوين، السعودي والتركي، فالأب التركي ينار يبحث عن ابنه في الخارج، في المستشفى والمدرسة وفي علاقته مع عائلته وأقاربه، في حين يبحث الأب السعودي حمد (فهيد بن سويد) عن ولده في طفله نفسه ويحرص طوال الوقت على تعليمه ما يجب فعله كما أخذه عن أبيه ويدعه يقضي بعض الوقت مع شقيقه، ويمارس الفروسية ليتعرف الى مختلف الجوانب التي تعكس أسلوب حياتهم، وعندما يريد التحدث معه يكلمه باعتباره شخصا بالغا وليس طفلا ليشكل منه شخصية الرجل الذي يشبهه ويتمنى في الوقت نفسه، كما جميع الآباء، أن يتفوق عليه.

وصفة الخريجي

"سوار" هو أول تجارب الخريجي في عمل روائي طويل، وكانت له تجارب عدة إخراجا وإنتاجا، إذ شارك في إنتاج فيلمي "فخر السويدي" وقبله "الحقيقة" الذي حاز جوائز في "مهرجان أفلام السعودية 2008"، وفيلم "جود"، وفي العملين التلفزيونيين "فرسان قريح" و"أوريم"، أما قصة "سوار" فأعادته إلى ذكريات جلبت مزيدا من اللحظات المحورية في حياته المهنية عندما أثارت القضية اهتمامه أثناء إكماله مرحلة الماجستير في السينما والإنتاج في "أكاديمية نيويورك للأفلام"، ولحسن حظه لم يشرع أحد من ذلك الحين في سرد القصة من خلال عمل سينمائي حتى بادر هو إلى نقلها إلى الشاشة.

تؤكد تجربة "سوار" نضجا سينمائيا متزايدا في السينما السعودية، حيث يتكامل الدعم الإنتاجي الرسمي والخاص، مع مواهب قادرة على إثبات حضورها والمنافسة عربيا ودوليا

برع الخريجي في اختيار الممثلين الذين جلهم لم تكن لهم تجارب سابقة، واستطاع إظهار مكامن القوة لديهم، فبدا أداؤهم مقنعا  ضخّ في الفيلم واقعية قريبة من السردية الوثائقية، وقد أتقن الممثلون لهجة أهل نجران، وكثير منهم من أبنائها، واعتمدوا التوازن في نسق استخدامهم لنغمة مفرداتها دون الوقوع في المبالغة.

علي آل شكوان في فيلم "سوار"

ولدى الخريجي وصفة خاصة يسهل تمييزها وإن كانت متفاوتة في درجة توظيفه لها في أعماله، وهي معالجته المبتكرة لقضايا ومشكلات اعتيادية كامنة في المجتمع يحاول إبرازها ضمن نسيج الفيلم في قالب درامي أو كوميدي، وأحيانا الاثنين معا. ولعل "سوار" هو بمثابة الوجبة الرئيسة في مطبخه ومحطة نضج أساسية في تجربته حيث تمكن من الإفادة من خبراته المتراكمة على مر السنين.

عمد الخريجي إلى استخدام يوميات حياة الطفل علي (يؤدي دوره علي آل شكوان) الذي يعيش في نجران في الفيلم والواقع معا، ليعكس من خلالها بعض مفردات ثقافة المنطقة وإرثها، ومن هذا القبيل حرص أهلها على ارتداء حزام "الجنبية" أو الخنجر التي تتميز به قبائل جنوب السعودية، وحتى الأطفال أثناء لعبهم عليهم لا يغفلون عن وضعها، وفي مشهد مأدبة العشاء يبرز الفيلم التقاليد الاجتماعية المتبادلة بين الضيوف والمستضيف، وما تحتويه من مظاهر شعبية.

تؤكد تجربة "سوار" نضجا سينمائيا متزايدا في السينما السعودية، حيث يتكامل الدعم الإنتاجي الرسمي والخاص، مع مواهب قادرة على إثبات حضورها والمنافسة عربيا ودوليا، وأيضا مع جمهور متعطش لسرديات مختلفة ومستعد لاحتضان هذه التجارب الجديدة وتقديم الدعم اللازم لأصحابها.

font change

مقالات ذات صلة