يعد المخرج الأميركي جيم جارموش المتوج بجائزة الأسد الذهبي ضمن فعاليات الدورة الأخيرة من مهرجان البندقية السينمائي، علامة بارزة في السينما الأميركية المستقلة. ذلك إن أفلامه تتميز بأصالة قل نظيرها داخل هوليوود التي أصبح يطبعها في السنوات الأخيرة حرص مؤسساتها الإنتاجية على السينما الاستهلاكية التي تشاهد وتنسى. نحن أمام سينما حقيقية لها أبعادها الإنسانية ودوافعها الفكرية، لا الجمالية فحسب، تجاه الواقع. فالمشهد في حد ذاته يغدو مختبرا للتفكير وإدانة للواقع عبر آلية فلسفية تصور الواقع وتجعله ضربا من التخييل السينمائي.
لذلك تأتي أفلامه امتدادا لطبيعة الحياة الأميركية في عيشها وجمالياتها ومآسيها، فهي أفلام يغلب عليها البعد الفلسفي والاشتغال المكثف على تفاصيل الحياة اليومية كما هو الحال في فيلم "باترسون" الذي عرض ضمن "مهرجان كان السينمائي" سنة 2016 وهو عبارة عن قصيدة فلسفية يرصد من خلالها جارموش يوميات الكائن في فسحة وجوده. إذ على الرغم من الإمكانات الجمالية التي تحبل بها أفلامه الأخرى، فإن هذا الفيلم يتنزل مكانة خاصة في ريبرتواره السينمائي، لأنه يكشف بطريقة مذهلة كيف يمكن توظيف الشعر في السينما، لكن من دون أن تغدو القصيدة بذخا يعطل وظيفة الصورة السينمائية وتأثيرها على البناء البصري.
شعرية التفاصيل
يحرص جارموش في مجمل أفلامه على تجاوز البعد الاستهلاكي، بل بدا منذ فيلمه "القطار الغامض"(1989) غير مهتم بالسينما التجارية ومفاجآتها، بعدما غدت ركيزة أساسية في صناعة الراهن السينمائي العالمي. ولعل اهتمام جارموش بهذه الفلسفة السينمائية، جعله يحظى مع كل فيلم بشهرة واسعة ويفتح آفاقا مغايرة أصبح من خلالها أحد الوجوه السينمائية الأكثر إثارة للانتباه داخل السينما العالمية.


