سينما جيم جارموش التي تخترق الواقع وتحول العالم إلى قصيدة

توج بالأسد الذهبي في "مهرجان البندقية السينمائي"

جَارموش يدين تَمويل "موبي" من صندوق مرتبط بإسرائيل في مهرجان فينيسيا

سينما جيم جارموش التي تخترق الواقع وتحول العالم إلى قصيدة

يعد المخرج الأميركي جيم جارموش المتوج بجائزة الأسد الذهبي ضمن فعاليات الدورة الأخيرة من مهرجان البندقية السينمائي، علامة بارزة في السينما الأميركية المستقلة. ذلك إن أفلامه تتميز بأصالة قل نظيرها داخل هوليوود التي أصبح يطبعها في السنوات الأخيرة حرص مؤسساتها الإنتاجية على السينما الاستهلاكية التي تشاهد وتنسى. نحن أمام سينما حقيقية لها أبعادها الإنسانية ودوافعها الفكرية، لا الجمالية فحسب، تجاه الواقع. فالمشهد في حد ذاته يغدو مختبرا للتفكير وإدانة للواقع عبر آلية فلسفية تصور الواقع وتجعله ضربا من التخييل السينمائي.

لذلك تأتي أفلامه امتدادا لطبيعة الحياة الأميركية في عيشها وجمالياتها ومآسيها، فهي أفلام يغلب عليها البعد الفلسفي والاشتغال المكثف على تفاصيل الحياة اليومية كما هو الحال في فيلم "باترسون" الذي عرض ضمن "مهرجان كان السينمائي" سنة 2016 وهو عبارة عن قصيدة فلسفية يرصد من خلالها جارموش يوميات الكائن في فسحة وجوده. إذ على الرغم من الإمكانات الجمالية التي تحبل بها أفلامه الأخرى، فإن هذا الفيلم يتنزل مكانة خاصة في ريبرتواره السينمائي، لأنه يكشف بطريقة مذهلة كيف يمكن توظيف الشعر في السينما، لكن من دون أن تغدو القصيدة بذخا يعطل وظيفة الصورة السينمائية وتأثيرها على البناء البصري.

شعرية التفاصيل

يحرص جارموش في مجمل أفلامه على تجاوز البعد الاستهلاكي، بل بدا منذ فيلمه "القطار الغامض"(1989) غير مهتم بالسينما التجارية ومفاجآتها، بعدما غدت ركيزة أساسية في صناعة الراهن السينمائي العالمي. ولعل اهتمام جارموش بهذه الفلسفة السينمائية، جعله يحظى مع كل فيلم بشهرة واسعة ويفتح آفاقا مغايرة أصبح من خلالها أحد الوجوه السينمائية الأكثر إثارة للانتباه داخل السينما العالمية.

لعل اهتمام جارموش بهذه الفلسفة السينمائية جعله يحظى مع كل فيلم بشهرة واسعة ويفتح آفاقا مغايرة أصبح من خلالها أحد الوجوه السينمائية الأكثر إثارة للانتباه


حين نشاهد "باترسون" نشعر بالذهول حول الطريقة التي بها قبض المخرج على العالم من خلال قصيدة شعرية تبني شعريتها وجمالياتها على عنصر التكرار، لا داخل القصيدة وإنما عبر المتواليات الازدواجية البصرية التي يستخدمها المخرج.

 وقد أحدث الفيلم عند عرضه في "كان" جدالا كبيرا بين النقاد، إد جعلهم يتساءلون حول إمكان القبض على اللغة الشعرية داخل صورة. فعادة ما يتجنب الشعراء الكبار الحديث عن أعمالهم الشعرية على خلفية أن الشعر لا يشرح ولا ينبغي الحديث عنه، لذلك يتهرب مجمل الشعراء من الحديث عن دواوينهم ويفضلون تقديم مواقفهم وآرائهم حول قضايا وإشكالات ذات صلة بالثقافة عموما والكتابة الأدبية بشكل خاص.

يقدم الفيلم تصورا بصريا جديدا، فهو يعتمد في متوالياته البصرية على قاعدة منهجية تشبه فصول الروايات. ففي كل فصل يظهر لنا جارموش مجموعة من الأحداث العادية والقادرة عبر متواليات سردية بصرية على خلق المعنى، إنه يعمل بطريقة ما في جعل الحوار السينمائي متقشفا بين الشخصيات كمحاولة منه لإعطاء الشرعية كل ما هو عادي وعابر وزائر. ورغم وفرة المخرجين الذين اشتغلوا بشعرية التفاصيل داخل أفلامهم، فإن الاختلاف مع جارموش أنه جعل من هذه التفاصيل الصغيرة عماد الصورة السينمائية، لكونها تشكل رهانه الكبير في بناء الصورة في مخيلة المشاهد. حقق هذا الفيلم تقديرا نقديا، كمعظم أفلام جارموش، بسبب الاشتغالات البصرية المكثفة التي تطبعها وتجعلها تندرج ضمن الأفلام التي تأخذ من المخرج وقتا كبيرا للتفكير فيها وكتابة مشاهدها وحواراتها وترميم صورها قبل أن تظهر بتلك الحلة التي تطالعنا على الشاشة الكبيرة.

السينما المستقلة

ينتمي جيم جارموش إلى السينما المستقلة، وهو نمط سينمائي مبني على المغايرة والاختلاف، سواء تعلق الأمر بالإنتاج أو الكتابة أو الإخراج. فهي أفلام "راديكالية" في تصورها السينمائي وتتعامل مع الواقع بنوع من الصراع التخييلي المقاوم للتفاهة المقننة التي يحبل بها الواقع. لذلك تأتي أفلام جارموش، من قبيل "العشاق فقط يبقون أحياء" و"الليل على الأرض"، بوصفها أفلاما ثائرة ليس من جانبها السياسي ـ الأيديولوجي وإنما من جانبها البصري، حيث تدخل في مناوشات مع الواقع وتحول الصورة السينمائية وسيلة بصرية قادرة على التفكير في قضايا ذات صلة بالمجتمع. ويحرص جارموش في مجمل أفلامه على جعل مفهوم الهامش مركزا للتفكير، بحيث أن كل الأفكار والمفاهيم والتصورات والأحلام والرؤى تنطلق من هامش المجتمع الأميركي ويحاول عبرها بناء سردية بصرية جديدة للواقع الذي ينتمي إليه.

جيم جارموش مع إسحاق دي بانكولي في كواليس فيلم "حدود السيطرة" (2009)

بهذه الطريقة تغدو سينما جارموش عبارة عن سينما واقعية مفتوحة على متاهات الواقع الأميركي المتحول، إذ على الرغم من اهتمامها بأصوات الهامش، فإنها تضمر في طياتها نقدا حقيقيا للمركز.

نحن هنا أمام كتابة لا تحتفي بالمرئي وتجعله أفقا للتخييل، وإنما تحاول القبض على اللامرئي فتجعله مرئيا

تتأسس الصورة في أفلام جارموش على ما يمكن تسميتها بجماليات اللامرئي، أي أن المخرج رغم مدى حرصه على تصوير الأجساد والفضاءات والليل وفق طريقة خالية من الأضواء الاصطناعية، فإنه يحرص بشكل كبير على تصوير سيرة اللامرئي الذي يغدو بمثابة مرئي ـ بصري وأكثر قيمة من ذلك الذي كنا نتوهم أننا نعرفه. هذه الطريقة في القبض عن اللامرئي واللامفكر فيه، تجعل أفلامه عبارة عن مختبر تجريبي يفكر في السينما ويبحث لها عن أشكال إبداعية جديدة بها يضمن سيرورتها وأصالتها في وجدان المشاهد.

فيلم "أب أم أخت أخ" لجيم جارموش يفوز بـالأسد الذهبي في مهرجان البندقية السينمائي

غير أن هذا الاشتغال على اللامرئي يجد ملامحه الجمالية في فعل الكتابة وليس الإخراج فحسب، فالكتابة هنا تتميز بطابع تجريدي مبني على الشعر والحلم، وبالتالي، حين يكون النص شعريا وموغلا في الحلم، يصعب من خلاله على المخرج بلورته بصريا ضمن تضاريس المشهد السينمائي. نحن هنا أمام كتابة لا تحتفي بالمرئي وتجعلهه أفقا للتخييل، وإنما تحاول القبض على اللامرئي فتجعله مرئيا.

سيرة اللامرئي

هذا الافتتان بالصمت والإيماءات والهامش والعلامات والرموز عند جيم جارموش، يكاد يكون هوسيا الى درجة أصبحت معه هذه العناصر الجمالية بمثابة أسلوب بصري يميز صاحب "أب أمّ أخت أخ"، فيلمه الأخير المكرم في "مهرجان البندقية"، ويجعله من المخرجين القلائل الذين يريدون إنتاج وكتابة وإخراج سينما مغايرة. سينما تثقف وتعلم وتدعو الناس إلى التفكير في حياتهم وأجسادهم وواقعهم. وهو مشروع سينمائي بدأ جارموش بالاشتغال عليه منذ سنوات وحاول في كل فيلم له أن يجعل هذه العناصر تبرز لا كمفاهيم وإنما كبراديغمات بصرية تمثل هوية سينماه وتمنحها ألقها وأصالتها في تخييل الواقع، إنما من الأسفل، أي إعطاء مفهوم الهامش بعدا مركزيا في النظر إلى العالم وتأمله. غير أن هذا الاهتمام بقاع المجتمع لا ينزع عن المخرج نظرته الجمالية تجاه الواقع الذي ينتمي إليه.

حرص جارموش في فيلم الأخير على وضع مفهوم العائلة فوق طاولة التشريح، لكن وفق أسلوب بصري يكتسي فيه الصمت بلاغة جمالية خاصة


حرص جيم جارموش في فيلم الأخير على وضع مفهوم العائلة فوق طاولة التشريح، لكن وفق أسلوب بصري يكتسي فيه الصمت بلاغة جمالية خاصة، وذلك من خلال لوحة ثلاثية تتوزع بين نيوجيرزي ودبلن وباريس، ويضم نخبة من النجوم السينمائيين، بينهم آدم درايفر وكايت بلانشيت، وتوم وايتس. وحسب آراء النقاد والصحافة العالمية، فإن الفيلم لا يخرج عن أسلوب جارموش في الكتابة والإخراج، فهو يفكك العائلة ويطرح من خلاله مجموعة من الأسئلة الفلسفية. وحرص المخرج في تصويره على الاكتفاء بالإيماءات وتقليل حدة الحوارات وعدم الدخول في التفاصيل الصغيرة التي تجعل أحيانا الصورة السينمائية تفقد فلسفتها وعمقها وجمالياتها.

يشدد جيم جارموش في العديد من مقابلاته الصحافية على أن السينما فن حركي لا تحركه أي قاعد مسبقة، شأنها شأن الحياة في تلقائيتها وفوضاها. لهذا يختار في صناعة أفلامه الطريق الصعب الشائك الذي لا يلهث وراء تقديم كل شيء للمشاهد وتحويل هذا الأخير كائنا يتلقى الأفكار والصور دون أي يفكر فيها ويمتحن أصالتها أو على الأقل دفقها الشعري، مشتغلا بطريقة مغايرة على توجيه النقد اللاذع للسينما التجارية التي ترتكز على مبدأ الربح والخسارة.

font change