الفيلم البريطاني "اكتناز" والبحث عن الحبّ بين الركام

حصد 3 جوائز في مهرجان البندقية السينمائي

الفيلم البريطاني "اكتناز"

الفيلم البريطاني "اكتناز" والبحث عن الحبّ بين الركام

يعدّ الفيلم البريطاني "اكتناز" Hoard الذي عُرض للمرة الأولى في أسبوع النقاد الدولي في الدورة الثمانين من مهرجان البندقية السينمائي، الفيلم الأول للمخرجة البريطانية لونا كارمون، وقد حصل على ثلاث جوائز في المهرجان منها جائزة أفضل ممثلة وجائزة الجمهور لأفضل فيلم.

هل استحق "اكتناز" كل هذا الاحتفاء؟

على مر تاريخ السينما العالمية نستطيع القول إن أكثر الأفلام التي تلقى احتفاء نقديا وتنال الجوائز في المحافل الدولية هي تلك التي تستطيع اختراق المشاعر الخفية وتطرحها على الشاشة.ينتمي "اكتناز" إلى هذه المدرسة التي تعرّي العواطف المكثّفة بسياقاتها، بكل ما تملك من أسلحة حسية ومادية تبدو منفرة، وبعيدا من مسألة الاستحقاق هناك إشكالية مستمرة بين عناصر النفور المبررة دراميا وجاذبية الفيلم كمشاهدة.

تدور أحداث "اكتناز" عام 1984 في جنوب لندن حيث تعيش ماريا البالغة من العمر 7 سنوات (تؤدّي دورها ليلي ب ليتش) مع والدتها سينثيا (تقوم بالدور هايلي سكوايرز) المصابة باضطراب الاكتناز وتكديس المخلفات في منزل أشبه بمكبّ نفايات داخلي.

تسعى سينثيا داخل المنزل إلى قطع أي شكوك قد تراود فطرة طفلتها حول أسلوب حياتها الغرائبي من خلال ابتكار عبارات سحرية تنتهي أحيانا بمونولوغ غنائي، ولا عجب أن نرى ماريا مستلقية على ورق مكوّم وبقايا خردوات، تمدّ يدها تتلمس شيئا لزجا تسأل عنه، تخبرها والدتها بابتسامة مريبة إنه "ملك القوارض".

لم تفزع ماريا حين اكتشفت أنها تجلس فوق تل من قوارض متحللة تشابكت ذيولها، وفي المجمل نحن لا نرى أمامنا طفلة متوجّسة من كمّ النفايات المحيطة بها، بل إن كل شيء بالنسبة إليها يبدو مريحا ومطمئنا كما يجب لكل منزل عائلي أن يكون، فالفضلات والأشياء المهترئة وبقايا الطعام التي تأتي من القمامة تجذب المخلوقات الغريبة وتتخذ من هذه البيئة الفاسدة مسكنا لها.

إنه تفصيل صغير ينمو في منزلهما مثلما تنمو النباتات في الطبيعة.

أما صراع ماريا بقدرتها الجسمانية الضئيلة مع طبيعة منزلها فلا ينتهي، بدءا من تحركاتها وسط الركام في محاولة فتح الباب الخارجي والعبور من المدخل حتى تشابك هذا الصراع مع أزمات التواصل الخارجية.

"اكتناز" هو فيلم مكثف لكنه غير جذاب، عاطفي بلا إنسانيات مفرطة، دقيق ومكتمل في صنعته الفنية لولا افتقاره إلى مرونة الإيقاع، لكنه في المحصلة حكاية درامية طويلة تتعمّق في الألم الدفين، وفي التواطؤ مع الذات والإفراط في الحب

وعلى الرغم من عدم وعي ماريا لمعايشة الصراع، إلا أنها تشعر للحظات بالحزن جراء المواقف المحرجة التي تصادفها في المدرسة. هنا يأتي دور الأم ذات الطاقة الهائلة عندما تتحول الى خلية متحفزة من المتعة وتمارس ذلك بكثير من الهياج المرح والصراخ الذي يهزّ المكان، بينما تمتزج طفلتها مع هذا الصراخ المخيف بل وتتفاعل معه كأنها أمام عرض مسرحي.

لكن هل يستمر هذا التماهي إلى الأبد؟

في أحد الصباحات تتلقى ماريا التوبيخ والإنذارات المتكرّرة من المدرسة، خاصة بعد حضورها من دون بنطال! وحين وُجّه إليها السؤال عنه أجابت: لم أعثر عليه. فكانت تلك لحظة سخط ماريا على عالمها المختلف عن كل شيء. تعود إلى المنزل باكرا وتصرخ في وجه والدتها: "أين بنطالي؟  لماذا ملابسي غير مكوية ورائحتي نتنة؟ لماذا كل هذة النفايات والأشياء المكدّسة حولنا؟ أنا أخجل من حالنا وأكره ما نحن عليه".

يتبع هذه العبارات الاستنكارية هجوم متراشق بين الأم والطفلة، ثم يحدث هدوء العاصفة الذي لن يتم لولا ابتزاز سينثيا العاطفي عبر الكلمات المشفرة والمضطربة مثل تلك التي هتفت بها لماريا عندما حان موعد النوم: "سأتحدث وأتحدث حتى تتمني لو كنت ميتة".

يمتزج الشعور بالذنب والإشمئزاز والتعلق والإساءة بمشاعر معقدة لا تستطيع ماريا تحديدها. الإحساس الوحيد الذي تمكّنت من احتضانه بفطرتها البريئة هو رابطة الحب الذي يدفع بكل شيء تنفر منه داخل المنزل، حيث استمرت الأم سينثيا في ربط جسر الحطام المنزلي المكدّس بجسر العاطفة بينها وبين طفلتها مشدّدة عليها: "لا تنسي كتالوغ الحب بيننا".

لم تدرك ماريا أن هذا الحب سوف يتلاشى حالما تعبر إلى حياة أخرى.

رائحة الصدمة

تنتهي طفولة ماريا بعد نصف الساعة الأولى من الفيلم. ويقفز الزمن إلى عام 1994 حيث تعيش ماريا ذات السبعة عشر ربيعا (تؤدّي الدور الممثلة الشابة سارة لايتفوت ليون) في منزل الخدمة الاجتماعية مع حاضنتها الحنونة جانيس، وهي بخلاف والدتها تهتم بالدقة والنظافة والترتيب.

على عكس الشائع في الإنعكاسات التي تحدث نتيجة الطفولة المشوّشة، تبدو فتاة مليئة بالنشاط والفكاهة والصخب وتجد مساحتها الآمنة مع صديقتها العربية (تقوم بالدور الممثلة الكردية ديبا حكمت). تمارسان النزق وارتياد الملاهي الليلية وسرد المغامرات الخارجة عن نطاق السلطة الأبوية، أثناء ذلك يظهر مايكل الشاب الثلاثيني (يؤدّي دوره جوزيف كوين) في المنزل وينشأ انجذاب غير معلن بينهما.

كل شيء يبدو روتينيا حتى تتلقى ماريا صندوقا من الرماد يعلن وفاة والدتها. من هذا المشهد يبدأ المغزى الذي يشكّل محور حبكة الفيلم وتحوّلاته لاحقا إلى سرد سوريالي.

لقد فتح الصندوق الأسود أبوابا على الماضي واندفعت ماريا بتيارها العاطفي الذي تفجّر بكل ما له علاقة بـ"كتالوغ الحب" بينها وبين والدتها. ينضم مايكل معها في هذا التيار من باب الدعم والتقارب ويسعى معها إلى اختلاط عناصر من ذكريات لم تعد تتواءم مع شخصيتها الحالية مثل فرزها أكياس القمامة الخارجية في غياب الحاضنة وحشو المخلفات تحت السجاد وبين طيات الأريكة وتحويل الغرفة إلى مستودع قمامة.

وقبل ذلك استعادة "الروائح العفنة". 

يبدأ كل من ماريا ومايكل بالتصرف بحرية أكبر في رحلة الاكتشاف ويخلقان عوالم مختلفة في العلاقة التي تأخذ شكلا عدوانيا ثم يصلان إلى ذروة الشهوة والتعلق وذلك بالتزامن مع ألم ماريا النفسي حتى تسير الأمور بطريقة حادة لكنها تُبقي ماريا في نهاية مفتوحة وغير مؤطرة.

نجحت المخرجة لونا في إدارة الحبكة وتحولاتها دون الرجوع إلى الفلاش باك ولو مرة واحدة، فهي لا تسمح للمتفرج باختراق ما يدور في ذهن ماريا بالمكاشفة السردية وعلى وجهها غالبا سيماء التبلد، بل يتعين عليه أن يقرأ اللغة التعبيرية التي تترجم الخيالات من خلال الشريط الصوتي للفيلم الذي جعلنا نشعر بكل الأحاسيس المختلفة والمتنقلة وأيضا التصوير السينمائي الذي يُضفي على الفيلم شخصيته المستقلة.

قبل ذلك كله جاهدت المخرجة في تصدير الرائحة بأثرها المنفّر الخارج عن المألوف كحيز يكتفي بأن يشرح الشرخ الطفولي وتحويله إلى أثر نوستالجي حالم.

"اكتناز" هو فيلم مكثف لكنه غير جذاب، عاطفي بلا إنسانيات مفرطة، دقيق ومكتمل في صنعته الفنية لولا افتقاره إلى مرونة الإيقاع، لكنه في المحصلة حكاية درامية طويلة تتعمّق في الألم الدفين، وفي التواطؤ مع الذات والإفراط في الحب.

 

font change

مقالات ذات صلة