في مثل هذا اليوم قبل أربعة وعشرين عاما، اهتز العالم على وقع الطائرات التي اخترقت قلب نيويورك وواشنطن. لم يكن الحادي عشر من سبتمبر/أيلول مجرد هجوم دموي، بل كان زلزالا سياسيا وفكريا، أعاد تعريف الولايات المتحدة لنفسها، وقد أسقط وهم الجغرافيا الآمنة خلف محيطين، كما سقط وهم أن الداخل الأميركي معزول عن صراعات الخارج، ومنذ تلك اللحظة، بدأت واشنطن تنظر للعالم بعين جديدة، عين ترى في السيطرة الخارجية وسيلة لحماية الداخل.
كنت وقتها في واشنطن، وبعد عشرة أيام من الحادث التقيت السيناتور تشارلز فريمان جي آر، الذي قال لي: "لقد استيقظنا نهار الحادي عشر من سبتمبر لنكتشف أن الأطلسي قد اختفى فجأة"!
لم تخرج أميركا من ذلك اليوم بغزو أفغانستان والعراق فقط، بل خرجت بولادة عقلية إمبراطورية كاملة، صار الأمن الداخلي عنوانا للهيمنة الخارجية، وصارت الضربات الاستباقية قاعدة، وتمدد الحلف الأطلسي بروح أميركية عسكرية، تفرض تصورها على الحلفاء والخصوم معا، وهكذا بدأ الارتداد الأول، حدث وقع في نيويورك لكنه غيّر شكل العالم كله، والأهم أنه بدأ يغيّر شكل الدولة الأميركية من الداخل.
في السياسة الداخلية تحولت المؤسسات إلى أذرع تنفذ سردية الأمن القومي، وفي الاقتصاد صار الخوف جزءا من المعادلة، فارتجفت الأسواق وصارت الاستثمارات تحسب حساب التهديدات، أما الخطاب السياسي فانزاح نحو التبرير العسكري والوطني المبالغ فيه، فظهرت موجات يمينية محافظة ترى في أميركا حصنا يحتاج إلى قائد لا مؤسسة، ومع صعود دونالد ترمب تجسد كل هذا التحول في شخص واحد، وشخصية هي الأكثر إثارة للجدل في العصر الحديث.
إدارة ترمب الأولى كما رصدها بوب وودوارد لم تكن مجرد أربع سنوات عادية، بل مختبرا لصراع شرس بين رجل واحد ومؤسسة كاملة، وقد وصفها وودوارد بـ"فوضى القرار وغرائزية الرئيس"، حتى إن كبار رجال إدارة ترمب الأولى، مثل ماتيس وتيلرسون وجون كيلي، وصفوا ما يجري بأنه معركة يومية لإبقاء الأمور تحت السيطرة، أما ترمب فكان يصر على أن الغريزة أهم من التحليل، والسردية أهم من التفاصيل. وفي ذروة جائحة كورونا قالها لوودوارد صراحة: "إنه أراد دائما أن يقلل من شأن الجائحة حتى لا يخلق ذعرا. لم يكن هذا اعترافا بخطأ، بل إعلانا لأسلوبه: التحكم في السردية قبل التحكم في الأزمة".
لكن الفوضى التي سجّلها وودوارد تحولت في الإدارة الثانية إلى مشروع متكامل، عاد ترمب ومعه حزب بكامله، "الحزب الجمهوري" الذي كان يوما حزب المؤسسة، أصبح اليوم حزب ترمب، وقياداته أعيد تشكيلها لتناسبه، ومنصاته الانتخابية كتبت بروحيته.. وحتى مشروع "هيريتيج" (المعروف بـ (Project 2025 صار بمثابة دليل لإعادة هندسة الدولة، وإن حاول ترمب أن ينأى بنفسه عنه علنا، إلا أن قراراته منذ اليوم الأول حملت بصماته، ففي يناير/كانون الثاني أعاد إحياء التصنيف الذي يحوّل آلاف الوظائف العامة، إلى مواقع ولاء سياسي، وألغى برامج التنوع والمساواة في مؤسسات الدولة، واندفع نحو تقييد حق المواطنة بالميلاد رغم العوائق القضائية، كل تلك السياسات وأكثر، كانت مؤشرات باللون الأحمر، تقول إن ترمب الثاني نسخة أكثر وضوحا وصراحة وشراسة لكن أيضا أكثر تنظيما.
صار الحديث اليومي للدولة "ومراياها الإعلامية" عن حماية الداخل من الخارج، وعن اقتصاد سيادي، يستخدم الرسوم كسلاح لا كأداة مالية فقط
الاقتصاد بدوره لم يسلم من هذه التحولات، ففي ربيع 2025 أعلن ترمب حالة الطوارئ الاقتصادية، وفرض رسوما جمركية شاملة، وأعاد تعريف التجارة كأداة أمن قومي، ولم يعد الحديث عن حرية الأسواق فلسفة اقتصاد المنفعة التي قامت عليها الدولة منذ التأسيس، بل صار الحديث اليومي للدولة "ومراياها الإعلامية" عن حماية الداخل من الخارج، وعن اقتصاد سيادي، يستخدم الرسوم كسلاح لا كأداة مالية فقط، وهذا يعكس جوهر الحزب الجمهوري الجديد، من حزب ليبرالي اقتصاديا إلى حزب يتبنى قومية اقتصادية صلبة.
وبينما كان الجمهوريون يعيدون تعريف أنفسهم، كان الديمقراطيون يتفتتون، وتجلى ذلك في انسحاب بايدن المفاجئ من سباق 2024 وظهور هاريس كمرشحة عاجلة، ثم خسارتها مما خلق صدمة في الحزب. هذا غير انقسامات بين جناح تقدمي يائس من مواقف المؤسسة في غزة وفلسطين، وبين قيادة تقليدية لا تريد التخلي عن التحالف مع إسرائيل، وبينهما قاعدة انتخابية محبطة ترى في الحزب كيانا تائها.
العلاقة مع إسرائيل تفاقم الشرخ الداخلي في أميركا، فإدارة ترمب الأولى ثم الثانية قدمت لتل أبيب ما لم يقدمه أي رئيس سابق
لكن الانقسام تجاوز الحزبين، فقبل يومين كان اغتيال تشارلي كيرك، أحد أبرز وجوه اليمين المحافظ بين الشباب، وقد مثّل لحظة كاشفة، فالانقسام لم يعد خطابات ومنابر، بل أصبح رصاصا ودما يراق داخل أميركا نفسها، وكشف الاغتيال أن وهم الانسجام الداخلي قد تهاوى تماما، كما تهاوى وهم الجغرافيا في 2001.
وفي قلب هذا كله تقف العلاقة مع إسرائيل كعامل خارجي يفاقم الشرخ الداخلي، فإدارة ترمب الأولى ثم الثانية قدمت لتل أبيب ما لم يقدمه أي رئيس سابق: نقل السفارة، وشرعنة الاستيطان، وتجاوز حل الدولتين، كل ذلك منح حكام إسرائيل رخصة استباحة وتصرفات هوجاء، وبينما كانت مؤسسات واشنطن "العميقة وقليلة الحيلة أمام سيد البيت الأبيض" تتحسب لهذا الانزلاق، جاء العدوان الإسرائيلي الأخير على قيادات "حماس" في الدوحة ليكشف إلى أي مدى تستغل تل أبيب منهجية ترمب السياسية: سياسة فرض الأمر الواقع بالقوة، حتى لو أدى ذلك إلى إحراج المؤسسات الأميركية أمام حلفائها في الخليج والعالم. فلم يكن الهجوم مجرد عملية عابرة بل مؤشر على أن إسرائيل لم تعد تحسب حساب التوازنات الدقيقة، بل تتصرف بثقة زائدة "ومتعجرفة" بأن الغطاء السياسي موجود، وأن الشرخ بين الرئيس ومؤسساته فرصة لمراكمة مكاسب على حساب هيبة واشنطن نفسها.
بهذا كله يمكن القول إن ما بدأ يوم 11 سبتمبر كزلزال خارجي، صار اليوم ارتدادا داخليا يعصف بالدولة الأميركية نفسها، إمبراطورية ولدت على وقع الخوف من الخارج، لكنها تواجه اليوم خطر الضعف من الداخل: بين حزب يزداد تطرفا، وحزب يتآكل في انقساماته، ومجتمع يرفع السلاح في وجه نفسه، وحليف إسرائيلي يستهلك ما تبقى من رصيدها الدولي. وأميركا التي صاغت العالم، صارت عاجزة عن صياغة تعريفها لنفسها. وهنا يكمن التحدي الأخطر: أن تتحول الولايات المتحدة من دولة تملك كل عناصر القوة، إلى دولة تبحث بيأس عن معنى وجودها. وكأن القرن الحادي والعشرين، يكتب لها الحقيقة المرة: أن الانهيار قد لا يأتي من ضربة خارجية، بل من شرخ داخلي، إن لم تنقذها عراقة المؤسسات التي قد– نقول قد- تنتفض.