كانت زياراتي المتكررة إلى الولايات المتحدة ولقاءاتي مع مسؤولين وخبراء وأصدقاء في السنوات الماضية، تجربة غنية وفرصة للاطلاع على مجتمع واسع يغلي بالتنوع والتعقيد.
في أصقاع "الحلم الأميركي"، أكثر ما كان يلفت انتباهي تعايش الكلمة مع الكلمة وقبول الآخر. تلك القيم التي طالما اعتبرتها من أبرز مكاسب الديمقراطية الأميركية وصادراتها إلى العالم. كنت أعايش نقاشا حادا أحيانا، لكنه يجري في أطر "حبية"، ومستوى من الاحترام المتبادل والتباهي بنبذ الرصاصة. كثير من أصدقائي المعارضين لسياسات أميركا في الشرق الأوسط، أميركيون ويعيشون في أميركا.
هذه أميركا التي عرفناها. لكن مع اغتيال تشارلي كيرك، الناشط الأميركي، نجد أنفسنا أمام مشهد غريب ومقلق، ليس فقط لأنه يعكس عنفا غير مسبوق في السياسة، بل لأنه يحمل دلالة أعمق على حالة الانقسام العميق في أميركا. قتل ناشط سياسي أو محاولة قتله، بسبب آرائه وأفكاره هو تطور خطير ومفاجئ، يثير تساؤلات جوهرية في أميركا التي عرفناها. وعلى خطورة استهداف الرئيس المرشح دونالد ترمب العام الماضي، فإن اغتيال كيرك، خطر لأنه قتل لناشط و"هدف هش" لا يحظى بحماية رئاسية، بل إن المشتبه بالاغتيال هو شاب، كان قبل فترة سعيدا بحصوله على منحة، كأي طالب جامعي عرفناه في الجامعات العظيمة.
لا شك في أن اغتيال كيرك، الذي أثار موجة استنكار داخل البلاد وخارجها، يطرح تحديا أمام المؤسسات الأميركية: كيف يمكن لهذه البلاد الواسعة- التي عُرفت عبر تاريخها بأنها منبر حرية التعبير- أن تواجه تحولا متصاعدا نحو الدم؟ هل نحن أمام ظاهرة فردية أم "نقطة انعطاف أميركية" (اسم البرنامج الذي كان يبثه كيرك) تهدد جوهر الديمقراطية نفسها؟ هل بالفعل أميركا تسير نحو حرب أهلية أم إنها في قلب رياح دموية؟
عندما يضيق البعض بالكلمة المضادة، الرصاصة لا تقتل الضحية وحسب، بل تضعف الروح التأسيسية وتهدد نسيج المجتمع وتفتح الباب لرصاصة مضادة
أميركا ميزتها أنها ولايات متعددة المهاجرين والثقافات والاتجاهات، يختلف فيها الناس في القناعات. هذه الاختلافات قوبلت سابقا بتوترات واختبارات، لكن ما كان يميز النظام الأميركي هو وجود آليات قانونية واجتماعية تحمي الاختلاف أولا، وأن السياسيين يحرضون على السلمية ثانيا. كانوا، رغم خلافاتهم، يحترمون القانون ويعترفون بحق الآخر في التعبير عن رأيه، ويقبلون الكلمة المضادة والتصويت المضاد ويرحبون بالهزائم الانتخابية، ويتغنون باختلافاتهم ويمدحون هزائمهم.
الاغتيال الأخير، الذي يؤمل أن يكون الأخير، يدل على أن هذه الآليات باتت مهددة، أو على الأقل تواجه اختبارات دامية. تحوّلُ التعبير السياسي من الكلمة إلى الرصاصة مؤشر خطير، يحمل معه انعكاسات على الاستقرار السياسي والاجتماعي. عندما يضيق صدر البعض بالكلمة المضادة، فإن الرصاصة لا تقتل الضحية وحسب، بل تضعف الروح التأسيسية وتهدد نسيج المجتمع وتفتح الباب لرصاصة مضادة.
ما يزيد الأمر تعقيدا هو السياق الذي حدث فيه الاغتيال. إنه خطاب الكراهية الذي انتشر على منصات التواصل الاجتماعي وأحيانا في الإعلام التقليدي، يغذي حالة من الاستقطاب الحاد، ويضعف من فرص التفاهم. ولسوء الحظ أن الضحية ذاتها، كيرك، كان أحد "أبطال" الإعلام الجديد، بل إنه تحدث عن العنف والقتل.
مطمئن وجود أصوات أميركية تدعو إلى الحوار، وتؤمن بأن الاختلاف يجب أن يظل في إطار الكلمة والنقاش وأن يعبر عنه بمكبر الصوت وليس بالقناص
قد يشكل اغتيال كيرك، فرصة لإعادة النظر في كيفية إدارة الحملات السياسية والحشد الجماهيري وحرية التعبير في أميركا الجديدة والعالم الجديد، وخيط التوازن بين حرية التعبير ومنع تعميم خطاب الكراهية وتبرير العنف. فالديمقراطية لا تعني فقط حق الكلام، بل تعني أيضا تحمل المسؤولية عن أثر هذا الكلام على المجتمع والتفكير في تداعيات الكلمات في الأثير العام.
مطمئن وجود أصوات أميركية تدعو إلى الحوار، وتؤمن بأن الاختلاف يجب أن يظل في إطار الكلمة والنقاش وأن يعبر عنه بمكبر الصوت وليس بالقناص. هذه الأصوات تمثل قوة أمل في مواجهة موجات العنف والتطرف. هي التي يمكن أن تعيد التوازن إلى النظام السياسي والاجتماعي الذي يمر بمرحلة دقيقة. وطالما كنا نعتقد أن النظام الديمقراطي قادر على إصلاح نفسه ولديه أدوات الإصلاح.
قوة أميركا في اختلافها. يجب أن لا تصبح الرصاصة بديلا للكلمة وأن لا يعلو أزيز القناص على مكبر الصوت وأن لا تفيض نوافير الدم على منصات الحوار
مع ذلك، فإن المقلق هو تباطؤ الطرفين المستفيدين من الانقسام، إلى الآن، في التعاون والظهور معا لنبذ العنف الآتي من فريقيهما. بل إن ما سمعناه وشاهدناه إلى الآن هو الاستثمار في الدم والحديث عن "صراع الحضارات" داخل أميركا ورغبة البعض في إبقاء "إرث كرك" حيا.
التحدي الأكبر الذي يواجه الولايات المتحدة: كيف يمكن الإبقاء على الكلمة وإبعاد الرصاصة؟ وكيف يمكنها أن تحمي الديمقراطية من أن تتحول إلى ساحة عنف؟ كيف يفكك كل فريق القنابل الموجودة في حضنه قبل تلك الألغام الموجودة في حقول الخصوم؟
الإجابة عن هذه الأسئلة لا تهم أميركا وحسب، بل هي مهمة للعالم بأسره، لأن أميركا كانت ولا تزال نموذجا لكثيرين. الأميركيون في حاجة أكثر من أي وقت مضى إلى التمسك بثقافة الحوار والاحترام المتبادل على ضفتي نهر الانقسام. قوة أميركا في اختلافها. يجب أن لا تصبح الرصاصة بديلا للكلمة وأن لا يعلو أزيز القناص على مكبر الصوت وأن لا تفيض نوافير الدم على منصات الحوار.