هكذا فجرت اتفاقية "سيداو" صراعاً أيديولوجياً في الجزائر

وصفها الإسلاميون بأنها تهدف للقضاء على الأسرة

أ.ف.ب
أ.ف.ب
امرأة ملتفة بالعلم الوطني الجزائري تقف أمام طلاب يُشاركون في مظاهرة بالعاصمة الجزائرية، الجزائر، في 16 مارس2021

هكذا فجرت اتفاقية "سيداو" صراعاً أيديولوجياً في الجزائر

يعيش الشارع والمشهد الحزبي والسياسي الجزائري على وقع سجال حاد منذ صدور المرسوم المتضمن رفع التحفظ حول المادة 15.4 من اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة لسنة 1979 (سيداو)، والذي اعتبره شق من الأحزاب لا سيما المحسوبة على التيار الإسلامي والمحافظ "من أخطر الاتفاقيات الهادفة إلى تفكيك الأسرة وبناء مجتمعات تتبع مرجعية واحدة هي المرجعية العلمانية الرأسمالية الاستعمارية" فيما هون شق آخر من هذه المخاوف ووصفها بـ"غير المبررة لأن الأسرة الجزائرية قائمة على قانون الأسرة والعادات والتقاليد الراسخة"، وتأرجح آخرون بينهما مؤكدين أن ثمة خلفية واحدة أوجبت القرار وهي: تقريب المنظومة القانونية الجزائرية من المعايير الدولية لحقوق المرأة.

وجاء رفع التحفظ في شكل مرسوم رئاسي وقعه الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون ونشر في الجريدة الرسمية بتاريخ 4 أغسطس/آب الجاري، وينص البند 4 من المادة 15 على أن: "تمنح الدول الأطراف الرجل والمرأة نفس الحقوق فيما يتعلق بالتشريع المتصل بحركة الأشخاص وحرية اختيار محل سكناهم وإقامتهم".

التباين الأيديولوجي

ومنذ الساعات الأولى من إصدار العدد (55) للجريدة الرسمية للدولة الجزائرية تسارعت وتيرة البيانات الصادرة عن الأحزاب السياسية في ديناميكية لافتة، فسارعت حركة مجتمع السلم الجزائرية (أكبر الأحزاب الإسلامية في البلاد) إلى مناهضة القرار وقدمت "اعتراضات قانونية وموضوعية"، فمن الناحية القانونية: قالت إن "رفع التحفظ يجب أن يحظى بموافقة البرلمان على الأمر الرئاسي"، ومن الناحية الموضوعية، أشارت الحركة المعروفة اختصارا بـ"حمس" إلى أن "الجزائر تحفظت على بعض مواد الاتفاقية عام 1996 ومارست السيادة الكاملة في مواجهة عولمة القوانين الغربية".

القرار "مسألة واقعية" بحكم أن "المرأة الجزائرية تتمتع عمليا بحرية التنقل

واللافت أنها وظفت مصطلح "الاستدراج المتواصل في التعامل مع المعاهدات الدولية غير المنسجمة مع الخصوصية الدينية أو الاجتماعية وتدفع للخضوع للضغوطات الدولية"، وقد يتحول هذا القرار في نظر الحزب إلى عبء على الأسرة الجزائرية وقد يستغل في تفكيكها.

ويخشى آخرون من أن يفتح رفع التحفظ الباب أمام نزاعات أسرية جديدة أمام المحاكم، وحذر السياسي والأستاذ الجامعي الجزائري خرشي النوي، من "اتساع رقعة الطلاق في المجتمع الجزائري التي تقارب 40 في المئة من عدد حالات الزواج"، ومن وجهة نظره فإن "منح المرأة حقا مساويا للرجل في اختيار السكن والإقامة سيخلق أسبابا إضافية للخلاف بين الزوجين بما يزيد من هشاشة البنية الأسرية".

وعلى النقيض من ذلك يأتي الاتجاه المؤيد للقرار لأنه وببساطة يعزز مكانة الجزائر الدولية وفي فئة المؤيدين نجد "حزب التجمع الوطني الديمقراطي" المحسوب على التيار الوطني الداعم للسلطة، ووصف القرار في بيان له بـ"السيادي والدستوري" وقال إن "قرار الجزائر برفع التحفظ يعزز احترامها للقانون الدولي وهي معروفة بدفاعها عن حقوق الشعوب والإنسان في الأمم المتحدة وهذا القرار يعزز صوتها كدولة مسؤولة تحترم التزاماتها الدولية دون أي تفريط في ثوابتها".

الأمينة العامة لـ"حزب العمال اليساري" لويزة حنون

وفي تعليقه على المخاوف المثارة حول "تفكيك الأسرة"، يصفها الحزب بـ"غير المبررة" لأن "الأسرة الجزائرية قائمة على قانون الأسرة والأعراف الراسخة والقرار لا يلغي ذلك بل يضعه في توازن مع الالتزامات الدولية". ويرى "التجمع الوطني الديمقراطي" (ثاني أكبر أحزاب السلطة في الجزائر) أن "القرار السالف الذكر يعكس حقيقة الوضع على أرض الواقع: فآلاف الجزائريات يدرسن ويعملن ويهاجرن للعلاج والدراسة دون عوائق قانونية ولذلك فالقرار جاء ليكرس هذا الواقع في إطار قانوني".

أما الأمينة العامة لـ"حزب العمال اليساري" لويزة حنون، فاعتبرت القرار "مسألة واقعية" بحكم أن "المرأة الجزائرية تتمتع عمليا بحرية التنقل غير أنها طالبت برفع تحفظات أخرى لا تزال الجزائر تلتزم بها بشأن مواد أخرى في الاتفاقية منذ عام 1996".

وسط هذا التجاذب والشد والجذب أثيرت أسئلة ملحة حول تداعيات هذا القرار وعما إذا كان هذا الإجراء سينجر عنه أي تعديلات على القوانين الوطنية

ولا تزال الجزائر تستعمل حقها السيادي في التحفظ على أربعة مواد من الاتفاقية لأنها تتعارض في مجملها مع أحكام قانون الأسرة الجزائري والمنظومة القيمية والدينية والاجتماعية والثقافية الجزائرية، ويتعلق التحفظ الأول بمضمون المادة الثانية والذي عبرت بمقتضاه الحكومة الجزائرية على استعدادها  لتطبيق أحكامها بشرط عدم تعارضها مع أحكام قانون الأسرة الجزائري، ويتعلق مضمون المادة الثانية بالتزام الدول الأطراف بشجب جميع أشكال التمييز ضد المرأة، وانتهاج كل الوسائل المناسبة ودون إبطاء سياسة تستهدف القضاء على التمييز ضد المرأة، لاسيما تجسيد مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة في دساتيرها الوطنية وتشريعاتها، وتقنين جزاءات تعاقب على الأعمال المجسدة للتمييز، والامتناع عن الاضطلاع بأي عمل أو ممارسة تمييزية ضد المرأة.

ويتعلق التحفظ الثاني بمضمون المادة التاسعة الفقرة الثانية من الاتفاقية التي جاء فيها أن الدول الأطراف تمنح للمرأة حقا مساويا لحق الرجل فيما يتعلق بجنسية أطفالها، وقد أصبح هذا التحفظ في حكم الملغى باعتبار أن تعديل قانون الجنسية سنة 2005 جعل الجنسية الجزائرية الأصلية لكل ولد مولود لأب جزائري أو أم جزائرية.

أ.ب
البرلمان الجزائري

أما التحفظ الرابع فيتعلق بالمادة 16 من الاتفاقية المتعلقة بالتزام الدول الأطراف في ضمان المساواة بين الرجل والمرأة في كل المسائل المتعلقة بالزواج، وسبب تحفظ الجزائر كما في الحالات السابقة على الحرص على المحافظة على خصوصية تنظيم الأحوال الشخصية في الجزائر المستمد من الشريعة الإسلامية ومن أعراف المجتمع الجزائري.

هل سيعاد النظر في قانون الأسرة؟

ووسط هذا التجاذب والشد والجذب أثيرت أسئلة ملحة حول تداعيات هذا القرار وعما إذا كان هذا الإجراء سينجر عنه أي تعديلات على القوانين الوطنية لا سيما قانون الأسرة الجزائري الصادر عام 1984، والذي لم يطله أي تعديل منذ عام 2005 رغم اتساع دائرة المطالبين بتعديله بهدف مواكبة التغييرات المجتمعية والدولية ومنح المرأة مزيدا من الحقوق مقارنة بالواقع القانوني السابق.

تقول الناشطة الحقوقية والمحامية والباحثة الجزائرية زينة بلعلام في حديثها إلى "المجلة" إن "القرار لا يعدو أن يكون سوى إجراء تقني بحت ولن تنجر عنه أي تعديلات على قانون الأسرة"، وهو الأمر الذي أكدته وكالة الأنباء الجزائرية التي تدار من مديرية الإعلام بالرئاسة، وقالت إن "المشرع الجزائري لن يكون ملزما بإدخال تعديلات على القوانين الوطنية على اعتبار أن المقاربة الجزائرية بشأن هذا النوع من الاتفاقيات على وجه الخصوص تعتمد على تعديل التشريع الداخلي أولا ثم رفع التحفظات المسجلة على الصعيد الدولي في مرحلة ثانية".

واللافت حسبما نقلته وكالة الأنباء الجزائرية، نقلا عن مصادر حكومية أن الجزائر كانت قد تحفظت فعليا على المادة 15 فقرة 4 من الاتفاقية عام 1996، لتعارضها مع قانون الأسرة الساري المفعول آنذاك. غير أنه، وبموجب التعديلات التي تم إقرارها على قانون الأسرة عام 2005، فإن "التحفظ الجزائري فقد سبب وجوده ولم يعد يستند إلى أي أساس قانوني في التشريع الوطني".

أي مطلب بالتعديل سيؤجل بالنظر إلى الصراعات الأيديولوجية التي ظلت تلاحق قانون الأسرة في الجزائر

لكن المتوقع حسب المتحدثة هو "حدوث تغيير في معالجة بعض النزاعات الأسرية"، وتذكر على سبيل المثال النشوز في قانون الأسرة الجزائري والمقصود به امتناع الزوجة عن تنفيذ الحكم النهائي الصادر ضدها والقاضي برجوعها إلى بيت الزوجية وفي هذه الحالة تفقد حقوقها من نفقة وغيرها، غير أنه رفع التحفظ الجزائري ستتغير طبيعة المعالجة لأن البند يمنح المرأة حرية تقرير محل الإقامة.

ولا يعني القرار بالضرورة بالنسبة للمستشارة القانونية والناشطة الحقوقية عائشة زميت إدراج تغييرات جذرية في التشريعات لأن أي مطلب بالتعديل سيؤجل بالنظر إلى الصراعات الأيديولوجية التي ظلت تلاحق قانون الأسرة في الجزائر فهو مطالب بإدخال تغييرات جوهرية وكبيرة من قبل التيار العلماني مقابل تمسك قوي من طرف التيار الإسلامي والوطني المحافظ، وتعتبر الحقوقية القرار "مسألة شكلية يهدف إلى مواءمة المنظومة القانونية الجزائرية من المعايير الدولية لحقوق المرأة وهو ما أشارت له وكالة الأنباء الجزائرية الرسمية، إذ قالت إن "إبقاء التحفظ على الفقرة الرابعة كان يستغل من الجهات المعادية للجزائر للترويج لدى المنظمات الحقوقية بأن بلادنا تكرس تمييزا بين الرجل والمرأة بخصوص الحق في التنقل والسكن".

وسيظل التنفيذ الفعلي للقرار رهينا بطبيعة المجتمع الجزائري، وللتدليل على هذا المعطى تقول الحقوقية عائشة زميت لـ"المجلة" إنه "يميل إلى الحفاظ على العادات والتقاليد المتوارثة لا سيما في المناطق الداخلية التي تبتعد عن السواحل وتتميز بثقافة تقليدية متجذرة وقيم اجتماعية محافظة حيث إن خيار منح المرأة حرية الخروج والتنقل والسفر داخل الوطن وخارجه من دون الحاجة إلى إذن زوج أو الولي غير متاح مقارنة بالمدن الكبرى فمئات الجزائريات يدرسن ويعملن ويهاجرن حتى للعلاج والدراسة  دون أية عوائق تذكر".

font change