هل يستطيع "الحوثيون" البقاء دون حرب؟

تفتعل المشكلات في أي جانب متاح

رويترز
رويترز
متظاهرون، معظمهم من أنصار الحوثي، يتظاهرون لدعم الفلسطينيين في قطاع غزة، في صنعاء، اليمن 3 يناير 2025

هل يستطيع "الحوثيون" البقاء دون حرب؟

في الوقت الذي يجري فيه العمل بهمة على نزع سلاح حركة "حماس" وحصر ترسانة "حزب الله" أو ما بقي منها بيد الدولة، في ما يؤمل أن يكون نهاية للحرب الإسرائيلية في قطاع غزة وجنوب لبنان، تعود جماعة الحوثيين في اليمن إلى التهديد مجددا بذات السلاح، الإيراني المصدر، وهذه المرة ليس ضد إسرائيل والولايات المتحدة، بل ضد الجارة المملكة العربية السعودية.

مساء الاثنين الماضي، عادت الجماعة إلى إطلاق تهديداتها، مهددة باستئناف هجماتها. ونقلت وسائل إعلام تابعة للجماعة عن القائم بأعمال رئيس الحكومة غير المعترف بها، محمد مفتاح، قوله إن "معادلة البنك بالبنك والمطار بالمطار والميناء بالميناء لم تسقط".

بعض المراقبين والباحثين في شؤون حكومة الجماعة، قلل من أهمية تلك التصريحات، معتبرا أنه لا قيمة ولا وزن لها. وأفاد الخبير في شؤون الجماعة، عدنان الجبرني، بأن من يقدمون أنفسهم كـ"قيادات متخبطة ومنفلتة" إنما يعبرون عن "مأزق مع الناس ومطالبهم ترتبط بوضع الجماعة المرتبك، بفعل ضربات الشهور الماضية، وتحديدا بين مارس/آذار، وسبتمبر/أيلول".

أياً تكن جدية تلك التصريحات، فلابد من فهم الأيديولوجيا المتطرفة لهذه الجماعة المسلحة، التي ثبت أنه يستحيل عليها العيش دون حرب.

خارطة طريق "الحوثيين" للسلام

في ما يراه سياسيون مطلعون في عواصم عربية وغربية عدة، نموذجا على استهتار أو انعدام إدراك لدى الجماعة، بموازين القوة التي تعمل لصالح السعودية، وبعض حلفائها في الخليج، أعلن الناطق باسم الجماعة، محمد عبدالسلام، أنه بحث مع المبعوث الأممي إلى اليمن، ما سماه القيادي الحوثي "مسار السلام" المتمثل بخارطة الطريق "المسلمة للأمم المتحدة، والمتفق عليها مع الجانب السعودي برعاية سلطنة عمان".

أعجب من ذلك قول عبدالسلام إنه "تم لفت نظر المجتمع الدولي إلى ضرورة استئناف العمل على تنفيذ ما تضمنته الخارطة، وفي مقدمتها الاستحقاقات الإنسانية، وأنه لا يوجد أي مبرر للاستمرار في المماطلة"، على حد قوله.

السعودية، قبلت في وقت ما، أن تلعب دور الوسيط، لا أن تكون طرفا كما يزعم الحوثيون في أي تسوية لا تكون الحكومة الشرعية اليمنية، التي يتجاهلها الحوثيون، طرفا أساسيا فيها

لا أحد يعرف بندا واحدا لخارطة الطريق الحوثية التي يقول إن السعودية وافقت عليها، لكن الجميع يعرف أن السعودية، ربما قبلت في وقت ما، أن تلعب دور الوسيط، لا أن تكون طرفا كما يزعم الحوثيون في أي تسوية لا تكون الحكومة الشرعية اليمنية التي يتجاهلها الحوثيون طرفا أساسيا فيها، ما يعني أن جماعة الحوثيين تريد افتعال أزمةٍ جديدة مع السعودية كمبرر للتصعيد العسكري معها.

الحوثيون هنا يتعامون عما تقف عليه "السعودية الجديدة" اليوم من مركز قوة عالمي، عسكري واقتصادي ضخم، لا يمكن السماح بتهديده واستفزازه، بمثل هكذا تصريحات أو وعيد ببضع صواريخ أو ما يصفه البعض ببضع "مفرقعات" ثبت فشلها في تحقيق أي إنجاز عسكري خلال ما وصفته الجماعة بـ"حرب الإسناد لغزة".

رويترز
مسلح حوثي يؤمن محيط مكاتب الأمم المتحدة حيث تظاهر الناس للمطالبة بإعادة فتح مطار صنعاء، 10 ديسمبر 2018

معضلة داخلية

رغم كل الأبحاث والدراسات والمؤتمرات والملتقيات التي خُصصت لاستقراء الظاهرة الحوثية ولاستنباط أفضل السبل للتعامل مع الجماعة، سلما أو حربا، إلا أنه من الواضح أنه لا يزال هناك بعض الخلط وعدم التمييز بين صراع غالبية اليمنيين، مع جماعة الحوثيين في اليمن، من ناحية، وانخراطها في التوترات الإقليمية بشكل متهور وغير محسوب النتائج، من ناحية أخرى.

الحوثية في الأساس مشكلة يمنية، راكمتها عقود من الفشل وسوء الإدارة، وإهمال النظر في ظروف نشأتها وتطورها، وفي طريقة استغلالها بتخطيط إيراني، حالة الانقسام السياسي العميق الذي شهدته البلاد قبل وبعد تنحي الرئيس الراحل علي عبدالله صالح عام 2012، ما أدى في النهاية إلى سقوط العاصمة صنعاء، والسلطة بيد هذه الجماعة المتربصة.

عندما استولى الحوثيون على العاصمة صنعاء بقوة السلاح، قبل ما يزيد على عشرة أعوام، قال وزير الدولة البريطاني، آلان دنكن، إن الحوثيين "ابتلعوا لقمة فوق قدرتهم على الهضم"، لكن هذه المقولة فسرت موقف الغرب آنذاك، بأنه ربما آثر أن يترك الحوثي يموت مع الوقت بعسر الهضم دون الحاجة إلى مواجهة مباشرة معه، وهو ما لم يحدث فورا وإن كان لا يزال يتم على نحو بطيء.

... ومشكلة إقليمية وعالمية

في الوقت نفسه كانت "الحوثية" الموالية عقائديا والمتحالفة عسكريا مع إيران، تتنامى تنظيميا وعسكريا لتصبح في النهاية ذراعا قوية لتزج بنفسها والبلاد، في أتون حرب مع الخارج دون هدف سوى خدمة الأجندة الإيرانية، جهارا نهارا.

مع هذا، لا يزال العالم يصم أذنيه عن سماع أي شيء، يتعلق بمسؤوليته عما آل إليه واقع هذه الجماعة والمسارات الخطرة، التي يمكن أن يتشعب إليها صراعها مع الداخل اليمني، وفي محيطها العربي والدولي بعد نهاية الحرب في قطاع غزة.

في عالم أحادي القطب، لا يتجاوز التفكير في التعامل مع خطر الجماعة حدود الرد على هجماتها "الإرهابية" برد فعل مقابل، يزداد حدة حينا، ويقل درجات أحيانا أخرى، يقتل ويجرح ويقصف ويدمر. لكنه لم يكن ذا أثر فعال إلا في حالات محدودة جدا، كان آخرها مقتل، وليس اغتيال، رئيس هيئة أركان الجماعة، محمد عبدالكريم الغماري، وذلك بقصد أو دون قصد خلال استهداف إسرائيل اجتماعا لحكومة الحوثيين غير المعترف بها دوليا.

معالجة العَرَض

منذ أول يوم على اندلاع الصراع في اليمن في 21 سبتمبر/أيلول 2014، حاول العالم الإبقاء على اعترافه الرسمي بالحكومة الشرعية، التي انقلب عليها الحوثيون بدعم سياسي إيراني من وراء ستار، وبدعم عسكري واستخباري ولوجستي من قبل "الحرس الثوري" الإيراني و"حزب الله" في لبنان.

كثير من العواصم الغربية، وعلى رأسها واشنطن، تنظر إلى ما يحدث في اليمن على أنه نزاع سياسي داخلي، لا ينبغي التدخل فيه، ويتعين فقط الرد على أنشطة الحوثيين في المياه الدولية بما يتناسب معها، ليس أكثر

ورغم اتساع نطاق المواجهة مع الحوثيين من اليمن إلى الإقليم، ليشمل الأمن العالمي لاحقا، فإن النظرة في الكثير من العواصم الغربية، وعلى رأسها واشنطن، إلى ما يحدث في اليمن جرت على أساس أنه نزاع سياسي داخلي، لا ينبغي التدخل فيه، ويتعين فقط الرد على أنشطة الحوثيين في المياه الدولية بما يتناسب معها، ليس أكثر.

يخطئ كثير من الساسة، في الغرب، في الاعتقاد بصواب ذلك، إذ إن الواقع يقول إن "خذلان الغرب" تحديدا لحق اليمنيين في استعادة دولتهم، وعدم الوقوف إلى جانبهم بحزم، ليس فقط مجرد نفاق أو تحاش لمكايدات سياسية داخلية، أو عدم الرغبة في توريط بلدانهم وحكوماتهم، في مزيد من الحروب والصراعات المسلحة، لكنه يثبت كذلك أن دولا غربية في مأزق مع الحوثيين طالما استمر التوتر مع إيران.

المؤسف أن ذلك أدى إلى "استقواء" الحوثيين، رغم ضعف حالهم، بالسلاح والمال الإيرانيين اللذين قادا في النهاية، إلى ما رأيناه في الماضي القريب، من تهديد لأمن الدول الخليجية والإقليم، ونشاهده الآن من تحد صارخ واستفزاز مهين ومتكرر، لإرادة العالم أجمع.

عود على بدء

ثمة ما يبدو اليوم في الغرب محاولة للعودة إلى المربع الأول في فهم الحوثيين، وذلك بإعادة طرح السؤال: "من هم الحوثيون، وماذا يريدون؟". يتم ذلك من خلال جهات أكاديمية أو مراكز بحثية ممولة كليا أو جزئيا من طرف مؤسسات تابعة لبعض الحكومات الغربية، ولا ينفي هذا بالطبع أن تكون هناك جهود يبذلها كثير من الدارسين والكتاب المستقلين، الذين يسعون إلى الإجابة على السؤال نفسه.

عاشت الباحثة، ماريكي براندت، خمس سنوات في صنعاء في محاولة لفهم من هم الحوثيون، وماذا يريدون، وخرجت من تجربتها بكتاب قيِّم عن القبائل والسياسة في اليمن، لا يخلو من ذات الهنات والفجوات التي يقع فيها أي باحث من خارج اليمن في "التاريخ المعقد للحوثية" كظاهرة.

الحرب بالنسبة للجماعة الحوثية هي "الآلية" التي تدير عجلة الحياة لديها، لهذا تفتعل المشكلات في أي جانب متاح، وكان آخرها المواجهة غير الدبلوماسية مع الأمم المتحدة

ترى أن إصرار الحوثيين على "إعادة التفوق والقيادة الهاشمية، هو نقطة ضعف الحركة، كلفهم الكثير من التعاطف والدعم محليا، وأثار عداوة مريرة ومقاومة بين اليمنيين، حتى بين الزيديين الآخرين" وهم الفئة التي يفترض انتماء عائلة الحوثي إليها.

عام 1962، سعت الجمهورية كما قالت الكاتبة، إلى خلق هوية وطنية جديدة تقوم على إسلام الدولة غير الطائفي والتراث القبلي، أي غير الهاشمي. وتضيف أنه "بعد أربعين عاما من الجمهورية، لم تعد المطالبة الهاشمية المتجددة بالقيادة، والتي يجسدها اليوم قادة الحوثيين، مقبولة بالنسبة للكثير من اليمنيين، حتى بالنسبة للكثير من الزيديين"، كما ذكرت.

تخلص براندت إلى أن الأهم من ذلك بعد النتائج التي أسفرت عنها الحرب مع التحالف العربي، أن الحوثيين "بحاجة ماسة إلى عدو جديد". لقد وصلت الحركة، في رأي براندت، إلى نقطة لا يمكنها أن تعمل فيها دون حرب. ينقسم معها المجتمع اليمني بسهولة بالغة، حيث لن يبقي على تماسك الحركة، سوى عدو خارجي مشترك فبمجرد عدم وجود المزيد من الأعداء، تنهار وحدة الحركة.

رويترز
يرتدي أحد أتباع الحوثي سترة تحمل صورة زعيم "الحوثيين" عبد الملك الحوثي خلال عرض عسكري أقيم في إطار حملة تعبئة "الجيش الشعبي" التي نظمتها الحركة في صنعاء باليمن في 7 فبراير 2024

هكذا تتجلى مقاربات بعض الساسة والكتاب الغربيين للوضع في اليمن، غير أن الحديث عن جماعة الحوثيين المسلحة المدعومة من إيران لا يزال "نخبويا" ويتم النظر إليه من برج عال يرى السطح، ولا ينفذ إلى العمق، رغم كل محاولات سبر أغوار هذه الجماعة المعزولة والمنغلقة على نفسها.

صحافي بريطاني صديق لليمن، ومتابع لشؤونه يقول بوضوح : "الحوثيون عقائديون، وعلينا أن نفهم جيدا أنهم لا يكترثون بالخراب أو الدمار أو الموت، هم يعتقدون أنهم يجاهدون، وأهلاً بالموت للانتقال"، ما يعني، في رأيه، "ليس في بالهم دولة ولا تنمية ولا سياسة ولا هم يحزنون".

كلا الرأيين السابقين صحيح، وإن بدت على الأول مسحة من الموضوعية الأكاديمية، حتى وإن أقرت صاحبته بأن اليمنيين "مرهقون ومتعبون ومجوفون، وفقراء على نحو متزايد بسبب عقود من الحرب وضرائبها الوحشية".

أما الرأي الثاني فهو يحاول أن يحسم الجدل في الغرب حول الحوثيين، بوضع نقطة على آخر السطر، ويعلن يأسا شديدا من أي خلاص للعالم من هذه الجماعة لا يقوم على استئصالها، ونزع سلاحها على غرار ما يجري مع حركة "حماس" و"حزب الله". فالحوثيون في رأيه "سيظلون على هذا المنوال حتى ظهور أقوى العلامات على ظهور إمام آخر الزمان لديهم، تحضيرا لمشهد النهاية الذي يعتقدون به"، كما يقول.

خلاصة القول، إن الحرب بالنسبة للجماعة الحوثية هي "الآلية" التي تدير عجلة الحياة لديها، لهذا نجدها تفتعل المشكلات في أي جانب متاح، إذ كان آخرها المواجهة غير الدبلوماسية مع الأمم المتحدة، وبعض وكالات الإغاثة العالمية، عندما احتجزت الجماعة في سجونها ما يزيد على 55 موظفا من العاملين في تلك الهيئات بذريعة التجسس والتخابر لصالح إسرائيل، ولا نعلم بعد من ستكون الجبهة التالية التي ستختار الجماعة المواجهة معها.

font change

مقالات ذات صلة