ينحو معظم الكتاب العرب اليوم نحو كتابة متحررة من كل تحديد أو تصنيف. بل أكثر من ذلك، يسعون ما أمكنهم إلى كتابة نصوص تجول بين مختلف التصنيفات، والأنواع والتحديدات والموضوعات، أي إلى كتابة تستطيع أن "تتنزه" قدر استطاعتها، أن تتنزه أحيانا بالقفز من نوع إلى آخر من أنواع الكتابة، وأن تتنزه أحيانا أخرى داخل النوع نفسه، بالخروج على قوانينه المعروفة، والابتعاد عما تراكم له من مزايا عامة.
شعراء يكتبون الرواية، وروائيون يكتبون الشعر، ومؤرخون يكتبون الرواية أو الشعر، وكذلك كتاب سياسيون أو صحافيون يكتبون الشعر أو الرواية. ومن هؤلاء جميعا من يكتبون السير الذاتية أو المذكرات. وفي هذا كله يختلط الأدب بالتأريخ بالسرد الروائي، بالتسجيل بالتوثيق بالتحليل بالاقتباس... إلخ.
نتوقف قليلا عند الشعر وكتابته، فنجد الشاعر يكتب القصيدة الموزونة حينا، والقصيدة النثرية حينا آخر، وقد يجمع بين الموزون والمنثور في قصيدة واحدة. ومن حيث الموضوعات، يمكن أن نجد لدى الشاعر قصائد لا تلتزم بموضوع معين، وإنما تحتوي الواحدة منها على موضوعات عديدة، ينتقل الشاعر من واحدها إلى الآخر، وكأنه يريد لكتابته، في القصيدة الواحدة، أن تكون "نزهة" بين الموضوعات.
يمكننا أن نضيف إلى هذه المظاهر للطواف أو التنزه مظاهر أخرى، أبرزها ما يوحي به تاريخ كتابة النص ومكان كتابته، اللذان يحرص معظم الكتاب على تسجيلهما في ذيل النص. وكأنهم بذلك إنما يوحون للقارئ، بأن كتاباتهم مرتبطة بظروف مكانية وزمانية، أي بأنها متحولة في الزمان والمكان، متأثرة بهما. والكاتب يرضيه كثيرا أن تكون كتابته "سفرا" في المكان والزمان، أن تكون رحلة توازي في كثير من الأحيان رحلته في الأرض، أي سفره بين البلدان. هكذا نقلب أحيانا صفحات ديوان من الشعر، فنجد الكثير من أسماء المدن أو المواضع في نهايات قصائده، إلى جانب تواريخ تتقارب أو تتباعد في زمن، قد يبلغ القليل أو الكثير من الأعوام.
هل نقول إن هذا كله هو مظهر من مظاهر التخبط تمارسه الكتابة حيال التحديات الكثيرة التي تواجهها في عصرنا هذا؟
إذن، هي الكتابة التي تبحث عن مساحات أو آفاق أو فضاءات جديدة، وتحاول أن تجد ضالتها في التنوع. هل نقول إن هذا كله هو مظهر من مظاهر التخبط، تمارسه الكتابة حيال التحديات الكثيرة التي تواجهها في عصرنا هذا؟ هل نقول إن الكتابة اليوم تجد نفسها مضطرة إلى الخروج من دوائر الاختصاص، التي رسمت لها في السابق، وإلى الانتشار خارج حدود أنواعها المعروفة؟ وذلك إزاء سهولة التنقل والسفر، وحيال التقنيات المتطورة في تقديم المواد الثقافية وغير الثقافية لجميع الناس بأهون السبل السمعية والبصرية وغيرها. هل نقول إن الكتابة باتت تناضل من أجل البقاء، ولهذا بات عليها أن تغادر مواطنها المعهودة وأن ترحل أو تشرد أو تتنقل بين مواطن كثيرة ومختلفة؟ هل نقول إن بعض الكتابات القلقة بطبيعتها (الكتابة الأدبية خصوصا) تزداد اليوم قلقا على قلق؟
هنا نستدرك فنقول إن الأدب كان دائما مرتبطا بالسفر أو الرحيل، لأنه هو، في ذاته، سفر أو ارتحال. ألم يكن من المقومات الأساسية للشعر الجاهلي، وللمعلقات بخاصة، الاحتفاء بالرحلة وبالتنقل بين الأمكنة؟
نعم، كان الأدب مرتبطا دائما بالسفر، إلا أننا أشرنا إلى مظاهر متعددة للتنقل أو الارتحال أخذت تلجأ إليها الكتابات المعاصرة، بسبب من ظروف حياتنا المأخوذة بوتيرة سريعة جدا من التطور. فمنذ خمسين عاما أو أكثر بقليل، وجدت الكتابة نفسها أمام تحديات لم تعرفها من قبل، وكانت قصيدة إليوت "الأرض الخراب" مثالا على كتابة لم تعد تكتفي بالكلام على رحيل بين الأمكنة، وإنما عبّرت أيضا عن رحيل بين اللغات، وعن رحيل بين الإيقاعات الشعرية، مما حدا بالبعض إلى تسميتها "معلقة العصر".
هكذا يمكننا القول إن بعض ما يصح على الكتابة اليوم، لا يصح على الكتابة أو القول (الأدبي بخاصة) في كل آن. إذ إن هناك تحديات غير قليلة، تجابه الكتابات المعاصرة، فتجبرها على التنفس خارج حقولها المعتادة، وعلى التنوع داخل هذه الحقول وخارجها.
ينبغي أن تفتح التحديات الراهنة آفاقا جديدة للأدب، وأن تتيح له من الفرص ما يجعله يذهب أبعد وأبعد
وقد يكون في طليعة هذه التحديات تحديان اثنان: الأول يتمثل بالتقدم العلمي في استكشاف المزيد من مظاهر الكون وأسراره، والثاني يتمثل بالتعقيد المستجد في حياة البشر، التي تتزايد فيها الصراعات بدلا من أن تتناقص. التحدي الأول يغذي تصوراتنا إزاء الكون والوجود بمعطيات جديدة، من شأنها أن تفتح لنا نوافذ واسعة للتفكر والتخيل. أما التحدي الثاني فيلقي علينا أعباء التبصر، في حاضر يحكمه التناقض بين سهولة العيش من جهة، وتفاقم المشكلات من جهة ثانية. فإزاء التقدم في مجالات التكنولوجيا والاتصال والتبادل الثقافي، لا يبدو أن النزاعات بين الشعوب أو الجماعات تتراجع، ولا يبدو أن وتيرة العنف في حياة البشر تخف، بل ربما هي في تصاعد.
والكتابات على أنواعها، وبالأخص الأدبية منها، ينبغي أن تجد في التحديات المتنوعة محفزات لها. ينبغي أن تفتح التحديات الراهنة آفاقا جديدة للأدب، وأن تتيح له من الفرص ما يجعله يذهب أبعد وأبعد.