عن أوراق "حماس" الوهمية وفقدانها السيطرة

المؤسف أن هذا يحصل لحركة وطنية بات لها من العمر 60 عاما

عن أوراق "حماس" الوهمية وفقدانها السيطرة

استمع إلى المقال دقيقة

أسست "حماس" هجوم "طوفان الأقصى" (7/10/2023)، على إدراكات خاطئة، أو أوهام، انطوت على مبالغة بقدراتها العسكرية، وبرؤيتها لأزمات إسرائيل التي هي "أوهن من خيوط العنكبوت"، والتي لا تستطيع خوض حرب طويلة، ولا تحمّل خسائر بشرية كبيرة، مع مراهنة على ما يسمى "وحدة الساحات"، وبوهم أن إسرائيل لا تستطيع الدخول إلى غزة، ولا تجرؤ على احتلالها. وكلها إدراكات قاصرة ومتسرعة وقدرية، وكان ذلك واضحا منذ البداية، والمشكلة أن ما لم يدرك بالعقل ثبت بالتجربة المريرة والمؤلمة والكارثية، على ما نشهد اليوم من مشهد مئات ألوف البشر هائمين على وجوههم في كل جغرافيا القطاع، تحت طائلة الجوع والعطش والرعب والضياع، وقصف الطائرات والدبابات وتفجير الروبوتات أيضا.

بديهي أن إسرائيل هي المسؤولة عن كل ما يجري للفلسطينيين بين النهر والبحر، لطبيعتها كدولة استعمارية واستيطانية وعنصرية وعدوانية، وكونها دولة إبادة جماعية، وتستمد الدعم من الإدارات الأميركية، سياسيا وعسكريا وماليا وتكنولوجيا واستخباراتيا، ما يفسر تحديها العالم كله، باعتبار ذاتها مستثناة من القانون الدولي، وحتى من القيم الإنسانية الأخلاقية، وأيضا لا مبالاتها بالعالم العربي، وضمنها الدول المنفتحة عليها، إلى حد إعلان رئيس حكومتها، نتنياهو، بأنه يحلم بـ"إسرائيل الكبرى"، وأنه يسعى لفرض السلام بالقوة.

في المحصلة فقد عملت إسرائيل، طوال عامين تقريبا، على تحويل غزة إلى منطقة غير صالحة للعيش، وإنزال نكبة جديدة بالفلسطينيين، ربما أقسى من نكبة 1948، مع حرمان أكثر من مليونين من الفلسطينيين من الغذاء والماء والوقود والدواء والمأوى، وبتحويلها غزة إلى أكبر خرابة، وأكبر سجن، وأكبر مقبرة، وأكبر حقل رماية، في العالم، مع إعلان عزمها معاودة احتلالها، وطرد، أو إزاحة، أكبر عدد من سكانها، سعيا منها لإنهاء فكرة الدولة الفلسطينية، وفرض هيمنتها على الفلسطينيين من النهر إلى البحر، بالوسائل المباشرة وغير المباشرة.

كثير ممن يسمون "محللين استراتيجيين" في وسائل الإعلام العربية، ممن استطابوا المساهمة في ترويج أوهام "حماس"، تساوقوا معها لهدف أيديولوجي أو لأغراض أخرى

إزاء استراتيجية إسرائيل هذه، التي توضحها خططها العسكرية، وانتهاجها حرب الإبادة الجماعية الوحشية، بدا أن الفلسطينيين يفتقدون لأي استراتيجية، ولأي مرجعية سياسية، فالقيادة الفلسطينية، وهي قيادة "المنظمة" و"السلطة" و"فتح"، فوجئت بعملية "طوفان الأقصى"، وفوجئت بردة الفعل الإسرائيلية الوحشية ضد فلسطينيي غزة، وهي في ضعفها، وقلة مواردها، ومشكلات وضعها، وبحكم الحصار الإسرائيلي المفروض عليها، بدت كأنها معزولة عن كل ما يجري في غزة، سياسيا وعسكريا وخدميا، فحتى في المفاوضات كانت خارج القوس.

فيما يخص "حماس"، التي بادرت إلى عملية "الطوفان"، والتي استثمرتها إسرائيل كفرصة سانحة لها للبطش بالفلسطينيين، وتعزيز هيمنتها عليهم، والتخفف من الثقل الديموغرافي للفلسطينيين في غزة، والتحرر من معادلات التسوية، فإن مشكلتها في هذا الإطار أنها لم تعدّ شعبها، الذي كانت سلطة عليه في غزة، طوال 16 عاما (قبل الطوفان)، لهكذا معركة، أو محنة، وأنها لم تضع في حسبانها خطة للتراجع، أو استراتيجية تراجع، إذ ظلت طوال العامين الماضيين، تؤكد أنها تكبد إسرائيل خسائر فادحة، وأن الجنود الإسرائيليين لن يستطيعوا الدخول إلى هذه المنطقة أو تلك، وأن إسرائيل لم تحقق أهدافها، والمؤسف أن كثيرا ممن يسمون "محللين استراتيجيين" في وسائل الإعلام العربية، ممن استطابوا المساهمة في ترويج تلك الأوهام، تساوقوا معها لهدف أيديولوجي أو لأغراض أخرى.

لم تقف المسألة عند ذلك الحد، فمع استمرار الحرب باتت "حماس" تتحدث عن أوراق قوة لديها، ضمنها الأسرى، أو الرهائن، والذي بقي منهم 48 إسرائيليا، 20 منهم فقط أحياء، وورقة الخلافات الداخلية في إسرائيل، بين المستويين السياسي والأمني، وبين الحكومة والمعارضة، وبين أهالي الأسرى والمتظاهرين المتعاطفين معهم والحكومة الإسرائيلية، بيد أن كل تلك الأوراق لم تثبت شيئا، إذ إن نتنياهو، الذي كان في نهاية زمنه السياسي (قبل "الطوفان") على خلفية الخلاف بين التيارين الديني والعلماني، ومحاولته الهيمنة على السلطة القضائية، استطاع إزاحة وتهميش معظم خصومه (غالانت وزير دفاعه السابق، وبني غانتس رئيس حزب "أزرق-أبيض، ولابيد رئيس حزب "هناك مستقبل")، بعد "الطوفان"، بشد عصبية معظم الإسرائيليين، ضد ما روج له كخطر وجودي يتهددهم من غزة، ومن الفلسطينيين عموما.

أوراق "حماس"، بالاعتماد على "وحدة الساحات" وإسناد محور المقاومة والممانعة، انتهى إلى كارثة على الجميع، من لبنان إلى طهران، مرورا بسوريا والعراق وحتى قطر مؤخرا

بالمثل فإن أوراق "حماس"، بالاعتماد على "وحدة الساحات" وإسناد محور المقاومة والممانعة، انتهى إلى كارثة على الجميع، من لبنان إلى طهران، مرورا بسوريا والعراق وحتى قطر مؤخرا، وهذا يشمل عدم نجاعة الضغط الدولي، كما تبين في التصويت في الأمم المتحدة، على قرارات وقف النار في غزة، أو على قرار مشروعية الدولة الفلسطينية، إذ في كل الحالات كانت إسرائيل والولايات المتحدة، في مواجهة العالم كله، الذي لا يستطيع أن يفعل شيئا ضد إسرائيل.

باختصار، فإن "حماس"، التي امتلكت المبادرة والقدرة على السيطرة في يوم واحد، أو جزء من يوم، كانت قد فقدت تلك المبادرة، وتلك السيطرة، على كل المستويات، وبخاصة إزاء إسرائيل خلال 710 أيام، ظلت خلالها إسرائيل تقتل وتدمر وتحاصر وتجوع وتشرد وتعتقل، في وضع غيرت فيه الواقع في فلسطين، وعموم الشرق الأوسط، وضمنه واقع "حماس"، أيضا، في حين أن قيادة هذه الحركة، أو ما تبقى منها، ما زالت عند إدراكاتها الأولية، على الأرجح.

المؤسف أن هذا يحصل لحركة وطنية بات لها من العمر 60 عاما، وتمتلك تجربة  سياسية وكفاحية، غنية ومتنوعة وطويلة ومكلفة، ولشعب يمتلك أكبر نسبة من الباحثين والأكاديميين والمثقفين والمتعلمين، بيد أن الشعب في واد وخيارات قياداته في واد آخر، ما تؤكده التجارب الصعبة والخائبة، من الأردن إلى لبنان، إلى الأرض المحتلة، مع مآلات المنظمة والسلطة والفصائل.

font change