الإبادة والديمقراطية

الإبادة والديمقراطية

استمع إلى المقال دقيقة

حين تعلن إسبانيا، وقبلها هولندا وإيرلندا وسلوفينيا، أنها لن تشارك في مسابقة "يوروفيجن" الغنائية في نسختها المقبلة، وهي أحد الرعاة الخمسة الكبار لهذه المسابقة الأضخم أوروبيا، في حال قبول مشاركة إسرائيل فيها، فإن هذا قرار تاريخي بالغ الجرأة، نظرا إلى مكانة هذه المسابقة طوال عقود في وجدان الأوروبيين، وخصوصًا لدى فئة الشباب. وهو قرار ينطوي على مخاطر حقيقية على حكومة بيدرو سانشيز الحاكمة، التي تواجه في الأساس استقطابا سياسيا حادا، ولا يمكن القول إنها مستقرة تماما، إذ قامت على تحالفات حزبية قد تكون مهددة في أي وقت.

صحيح أن الحكومة الإسبانية، في جميع الخطوات والقرارات التي تتخذها ضد إسرائيل، على خلفية حرب الإبادة التي تشنها في غزة منذ عامين، تنطلق من خطاب مبدئي أخلاقي، إلا أنها تنطلق أيضا من معطيات سياسية واقعية. فهي تتوكأ على دعم شعبي قوي يعبر عن نفسه في المظاهرات التي لا تتوقف في عموم الأراضي الإسبانية، وكان آخرها خلال طواف إسبانيا للدراجات الهوائية، حيث أجبر المتظاهرون المسابقة على التوقف في مرحلتها الأخيرة بسبب مشاركة المنتخب الإسرائيلي. ربما لا يكون ذلك كافيا في حد ذاته، لاسيما أمام موجة صعود اليمين المتطرف في معظم أنحاء أوروبا، وتقدمه حتى في إسبانيا، ومحاولات ذلك اليمين الربط بين أزمة المهاجرين المستفحلة وقضايا أخرى مثل الموقف من فلسطين والمسلمين، لكنه ينسجم على الأقل مع الخطاب السياسي العام. إذ يأتي استفحال حرب الإبادة ليزيد من الضغط على الحكومات الديمقراطية لكي تقوم بخطوات عملية ولا تقف عند حد إعلان المواقف، وهذا بالضبط ما تقوم به الحكومة الإسبانية.

مزاج الرأي العام الإسباني شهد تحولات كبرى خلال سنوات قليلة. ففي استطلاع رأي عقد عام 2016، كان معظم المستطلعة آراؤهم يحملون الإسرائيليين والفلسطينيين مسؤولية الصراع المتمادي. أما في استطلاع رأي آخر، في ديسمبر من عام 2024، أي بعد حرب الإبادة، فكانت الغالبية تؤيد وقف الحرب، و17 بالمائة فقط كانوا يؤيدون استمرار بيع السلاح لإسرائيل. ولنا أن نتخيل أن هذه النسبة تراجعت أكثر خلال الأشهر الماضية.

يأتي استفحال حرب الإبادة ليزيد من الضغط على الحكومات الديمقراطية لكي تقوم بخطوات عملية ولا تقف عند حد إعلان المواقف

 إذن، خطوات الحكومة الإسبانية لا تأتي من فراغ، بل تقوم على استشعار المزاج الشعبي، وهو أمر بديهي بالنسبة إلى أي حكومة منتخبة ديمقراطيا. ففي ظل تعطل جميع المنظومات القانونية الدولية وعجزها عن إحداث تأثير في هذه الحرب أو دفع إسرائيل إلى وقف الإبادة، فإن الدول التي تعارض الحرب لا تجد بدا من تصعيد الضغط وفق ما يمكنها القيام به. وهنا يمكن تسجيل أن الآليات الديمقراطية، مثل التظاهر والمقاطعة، نجحت في دفع الحكومة إلى اتخاذ خطوات ما كانت لتتخذها لولا هذه الممارسات.

هناك من يرى أن مثل هذه الخطوات قد ترتد عكسيا، لاسيما خطوة كبرى مثل التهديد بمقاطعة "يوروفيجن" أو التلويح بمقاطعة كأس العالم لكرة القدم العام المقبل. فالغناء والرياضة هما أكثر مجالين شعبيين، وقد يتسبب الانسحاب من فعاليات كبرى كهذه بنوع من الإحباط والغضب لدى فئات كثيرة، ممن قد تقول في النهاية: ما علاقتنا نحن بالشرق الأوسط حتى ندفع مثل هذه الأثمان؟ وما الذي نجنيه من ذلك كله؟ حين تواجه خصما يتمتع بنفوذ هائل مثل إسرائيل، ومدعوما من القوة الأكبر في العالم، أي الولايات المتحدة، فإن هذا القلق يصبح مبررا، لاسيما بالنسبة إلى بلد لا يزال يعاني من آثار أزمة اقتصادية كبرى احتاج سنوات لكي يبدأ بالتعافي منها.

لكن الأمور لا تقاس دوما بهذا المعيار. مجددا، كون الحكومة تتصرف انطلاقا من مزاج الرأي العام الكاسح لديها، فإن ذلك يمنحها نوعا من الثقة، وإن كان لا يمنحها الحصانة الكاملة. فهذا المزاج قد ينقلب في أي لحظة، وقد يعاقب الحكومة التي ذهبت إلى هذا الحد في مواقفها. المبدأ يبقى على حاله بصرف النظر عن المخاطر المستقبلية والعوامل غير المتوقعة في المعادلات الانتخابية والسياسية. ما تقوله القرارات الحكومية هو أنها تستجيب لصرخات الشعب الذي يملأ الساحات احتجاجا وغضبا. وهنا يأتي دور الناخب، ذلك الذي اندفعت الحكومة وراء رغباته، لكي يؤدي دوره أيضا. فالصمود يتعلق بهذا الناخب بقدر ما يتعلق بالحكومة والهيئات التشريعية.

الديمقراطية أمام اختبار حقيقي هنا: إما أن يمضي المدافعون عنها قدما في وجه المخاطر والتهديدات والخسائر المحتملة، وإما أن يتراجعوا. ليس خافيا أن الميل يسارا أو يمينا أو وسطا لا يقوم على السياسات الخارجية والمواقف الدولية فحسب، بل إن العامل الأساس فيه هو الاقتصاد والمظالم الاجتماعية. وقد رأينا ذلك بصورة نموذجية في الانتخابات التي أعادت دونالد ترامب إلى البيت الأبيض العام الماضي، حيث كان سعر وقود السيارات أهم بالنسبة إلى الناخب الأميركي من كل ما يجري في الشرق الأوسط والعالم. وبالتالي فإن المواقف الدولية الأخلاقية والعادلة التي تتخذها حكومة سانشيز لا تعفيها من ضرورة إحداث تقدم حقيقي على صعيد الملفات الداخلية، سواء في مواجهة الفساد أو تحقيق النمو الاقتصادي.

الديمقراطية أمام اختبار حقيقي هنا: إما أن يمضي المدافعون عنها قدما في وجه المخاطر والتهديدات والخسائر المحتملة، وإما أن يتراجعوا

فالخوف الحقيقي يبقى أن تعتبر قضية فلسطين هي العامل الرئيس والحاسم. وبالتالي، في حال خسرت حكومة من الحكومات الانتخابات، أو في حال تحركت الجماهير الغفيرة ضد ملفات معينة، كما رأينا أخيرا في لندن، لبدت تلك خسارة لفلسطين أو تراجعا في دعمها. خيط رفيع يجب التنبه إليه دائما، ويجب عدم الإسراف في تقدير أن المواقف من قضايا الشرق الأوسط، وفي طليعتها قضية فلسطين، هي وحدها التي تغير المعادلات في الحكومات والمجتمعات الغربية.

font change