الانتخابات الروسية... هندسات الكرملين لخلق "المعارضة النظامية"

هل تنقرض الأصوات السياسية المناوئة لبوتين؟

رويترز
رويترز
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قبل حفل تنصيبه في الكرملين، موسكو في 7 مايو 2024

الانتخابات الروسية... هندسات الكرملين لخلق "المعارضة النظامية"

اكتسح حزب "روسيا الموحدة" الحاكم نتائج الانتخابات المحلية الروسية الأخيرة. وفيما تصدر مرشحو الحزب لمنصب الحاكم في جميع الجمهوريات والمقاطعات والأقاليم التي نُظمت فيها الانتخابات، انحصر التنافس بين مرشحي باقي الأحزاب الممثلة في البرلمان على المركز الثاني وبأصوات متدنية. وتنظم الانتخابات المحلية في روسيا مرة كل خمس سنوات.

وفي العام الحالي أجرت 21 مقاطعة انتخابات لاختيار حكامها، كما جرت انتخابات لمجالس الحكم الذاتي، والبرلمانات المحلية، وعمداء بعض المدن. وأشاد سكرتير المجلس العام لحزب " روسيا الموحدة" الحاكم فلاديمير ياكوشيف بنتائج الانتخابات، مشيرا إلى الحزب رفع تمثيله في المجالس المحلية والبرلمانات إلى 82 في المائة مقارنة بنحو 73 في المائة في انتخابات 2020 في المقاطعات ذاتها، عن الترشيحات الفردية والقوائم الحزبية.

وتكمن أهمية الانتخابات الحالية في أنها الأخيرة قبل انتخابات عامة لمجلس الدوما ( البرلمان) الروسي خريف العام المقبل، ما يعطي مؤشرا حول شعبية الرئيس فلاديمير بوتين وحزبه.

وكشفت الانتخابات الحالية عن قدرة الكرملين الكبيرة على "هندسة" النتائج بما يخدم سياساته العامة، وتأمين نسب حضور مرتفعة. كما سمحت هذه الانتخابات باختبار مدى فعالية التقنيات الانتخابية المستحدثة مثل التصويت الإلكتروني، وفتح مراكز الاقتراع لعدة أيام، وأنظمة فرز الأصوات، وحماية البيانات وسط تزايد حالات الهجمات السيبرانية على الأنظمة الانتخابية في أكثر من بلد حول العالم.

وقالت رئيسة لجنة الانتخابات المركزية الروسية إيلا بامفيلوفا إن المشاركة بلغت 47 في المائة وهذا المؤشر أعلى بنحو 8 في المائة عن الانتخابات الماضية، وذكرت أن 1.5 مليون روسي أدلو بصوتهم عن طريق التصويت الإلكتروني من اصل 1.7 مليون اختاروا هذا الشكل من التصويت أي بمعدل 90 في المائة، وذكرت أن التصويت الإلكتروني يكتسب شعبية في البلاد وتوقعت زيادة في الاقبال عليه.

رويترز
رجل يحمل لافتة لدعم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بينما يظهر الكرملين في الخلفية، 24 يونيو 2023

المعارضة "النظامية"

وفيما دار جدل حول الحزب الثاني في البلاد، ونية الفريق المسؤول عن السياسة الداخلية في الكرملين تحويل الحزب الليبرالي الديمقراطي إلى القوة السياسية الثانية على مستوى البلاد بدلا عن الحزب الشيوعي الروسي ، تنافس الحزبان على المركز الثاني، وسط غياب لمرشحين عن التيارات الليبرالية.

وأظهرت النتائج تقاربا كبيرا في نتائج الحزبين، وحقق الشيوعيون المركز الثاني في 13 من أصل 20 عملية انتخاب مباشرة للحكام بفارق ضئيل في معظمها عن الحزب الليبرالي الديمقراطي الذي خطف المركز الثاني في باقي المقاطعات. وفي البرلمانات المحلية للمرة حاز الحزب الليبرالي للمرة الأولى على أصوات أعلى من أصوات الشيوعيين.

ورغم الدعم المطلق من الحزب ورئيسه منذ التأسيس غينادي زيوغانوف للحرب على أوكرانيا، فإن بعض تصريحاته أغضبت سيرغي كرينكو النائب الأول لرئيس ديوان الكرملين والمسؤول عن السياسة الداخلية. وبدا ان الكرملين قرر زيادة الدعم للحزب اللليبرالي الديمقراطي برئاسته الجديدة الممثلة بليونيد سلوتسكي الذي وقع عليه الاختيار في شكل غير متوقع لخلافة زعيم ومؤسس الحزب السابق فلاديمير جيرينوفسكي الذي توفي في بداية 2022.

وحضر كرينكو شخصيا مؤتمر الحزب نهاية العام الماضي، في سابقة هي الأولى من نوعها لحضور مسؤول بارز مؤتمر حزب يصنف على أنه معارض، وامتدح سياسات الحزب ومواقف سلوتسكي. ورغم أن حزب "روسيا الموحدة" يمتلك أغلبية دستورية في مجلس الدوما ( البرلمان) بواقع 319 من اصل 450، ولا يحتاج أي دعم من الأحزاب الأخرى لتمرير سياسات بوتين، فإن مسؤولي السياسة الداخلية في الكرملين لا يرغبون في شن حرب على الأحزاب "المدجنة" الممثلة لـ "المعارضة النظامية" بقدر ما يسعون إلى الهيمنة الكاملة عليها وتحويلها إلى مؤسسات تتبنى بالكامل الخطاب الرسمي.

والأرجح أنه إذا حافظ زيوغانوف، الذي تجاوز عمره 80 عاما، على قيادة الحزب، فإن مزيدا من الانشقاقات تنتظر الشوعيين، ما يسهل مهمة الكرملين بتحويل الحزب الليبرالي إلى القوة الثانية في البلاد.

إذا حافظ زيوغانوف، الذي تجاوز عمره 80 عاما، على قيادة الحزب، فإن مزيدا من الانشقاقات تنتظر الشوعيين، ما يسهل مهمة الكرملين بتحويل الحزب الليبرالي إلى القوة الثانية في البلاد

والحزبان مصنفان ضمن "المعارضة النظامية" وهو مصطلح دأب الكرملين على استخدامه في السنوات الأخيرة للإشارة إلى بعض الاحزاب، وإضافة إلى الحزبين المذكورين أعلاه، تضم القائمة حزب "الناس الجدد" وهو مشروع تقول المعارضة إن بوتين أطلقه في الانتخابات البرلمانية الأخيرة لكسب أصوات الليبراليين نسبيا من أبناء كبريات المدن الروسية، وحزب "روسيا العادلة من أجل الحقيقة"  الذي تأسس في العقد الماضي لكسب أصوات يسار الوسط ومنافسة الحزب الشيوعي الروسي. وكشفت النتائج ان حزب "روسيا العادلة من اجل الحقيقة" أعاد ترتيب صفوفه، وربما يتجنب السقوط في الانتخابات البرلمانية العامة العام المقبل، رغم  عدم رضا الكرملين الكامل عن بعض تصريحات رئيسه سيرغي ميرونوف الذي شغل سابقا منصب رئيس مجلس الشيوخ، وهو يتحدر من سانت بطرسبورغ مدينة بوتين.  

واقتصر التنافس على الأحزاب البرلمانية الخمسة، وحزبين آخرين مسجلين رسميا لم يحققا نتائج يعتد بها، وكان لافتا أن جميع الأحزاب المشاركة لم تتحدث عن خروقات جدية في عمليات الانتخابات وفرز الأصوات.  ومن الدلالات المهمة تنافس الأحزاب على تطعيم قوائمها بقدامى المحاربين في الحرب على أوكرانيا. ومعلوم أن الرئيس بوتين قال إن المشاركين في "العملية العسكرية الخاصة" هم " النخبة الجديدة" في روسيا، ويعمل ديوان الكرملين على زيادة مشاركتهم في الانتخابات، ومنحهم مع أبنائهم امتيازات في  المدارس والجامعات إضافة إلى الحوافز المالية. 

Reuters
شخص يضيء شمعة بجوار صورة زعيم المعارضة الروسية أليكسي نافالني

ومع اضطرار "المعارضة النظامية" إلى تأييد الحرب، اختفت كثير من الفروق الهامشية بين الأحزاب. وفي المقابل، وانطلاقا من أن السياسة لا تقتصر على موقف واحد فقط تبرز بعض الخلافات ما يبرر تفضيل الكرملين لحزب على حساب آخر. في مطلع إبريل/ نيسان الماضي انتقدت نائبة حزب "الناس الجدد" كسينيا غورياشيفا مبادرة لمسؤولين محليين تقضي بمنح مكافآت مالية للفتيات المراهقات اللواتي ينجبن أطفالاً، وذلك تماشياً مع سياسة الكرملين الرامية لعكس التراجع الديموغرافي في البلاد. وقالت غورياشيفا في موقف نادر من المعارضة: "أن تُنجب طفلة طفلاً آخر هو مأساة، وليس فعلاً بطولياً". وأيّدت النائبة عن الحزب الشيوعي نينا أوستانينا موقف غورياشيفا، وقدّمت التماساً إلى وزارة العمل تطالب فيه بوقف هذه المدفوعات.

غياب وتشرذم

لا يضم مجلس الدوما ( البرلمان) الحالي على أي ممثل للمعارضة الليبرالية. ومنذ صعود بوتين قبل نحو ربع قرن وتأسيس حزب روسيا الموحدة تراجعت الأحزاب اليمينية وذات التوجه الليبرالي للاقتصاد. وهيمنت هذه الأحزاب على المشهد السياسي في روسيا في مطلع تسعينيات القرن الماضي وفي عام 1993 شكل " خيار روسيا الديمقراطي" اليميني بقيادة غيغور غيدار الحكومة وكان له 70 عضوا في البرلمان، ومثل "يابلوكو" 27 نائبا، وتراجعت قليلا مع فشل السياسات الإصلاحية للاقتصاد، لكنها كانت تحظى بتمثيل وازن بعد الشيوعيين والليبراليين، وتركز جمهورها في المدن الكبرى مثل موسكو وسانت بطرسبورغ.  ومع اطلاق بوتين حربا على الأوليغارشيين تراجع تموسل هذه الاحزب وتشرذمت قاعدتها الانتخابية. 

وعلى سبيل المثال، يعود آخر تمثيل برلماني لحزب " يابلوكو"  إلى عام 2003، وحينها اخفق الحزب في تجاوز عتبة 5 في المائة، لكنه حصل على أربع مقاعد في انتخابات الدوائر الفردية.  وبعد ذلك، لم يتمكن الحزب من الفوز بأي مقاعد في الدوما، وله تمثيل محدود حاليا في برلمانات ثلاث مقاطعات من أصل 89 مقاطعة.

ومنذ بداية الحرب على أوكرانيا، واجه "يابلوكو" والحركات والشخصيات المعارضة للحرب  صعوبة أكبر في الترشح للانتخابات على جميع المستويات بسبب القيود على انتقاد الحملة العسكرية والأحكام القضائية القاسية بحق كل من يعارض الحرب، ولعل الأهم أن غالبية الروس مازالوا داعمين للحرب، مع عدم حصول تغيرات سلبية كبيرة على حياتهم، وارتفاع الحس القومي لديهم، اضافة إلى التجربة المريرة لحكم "الاصلاحيين" في حقبة تسعينيات القرن الماضي وما رافقها من فقر وانعدام للأمن  وانتشار للعصابات والمخدرات.

ظاهرة نافالني

ومنذ أحداث بالوتنينا نهاية 2011 احتجاجا على إعادة ترشيح بوتين لولاية ثالثة، برز المعارض أليكسي نافالني كوجه قيادي جديد للمعارضة، ورغم المآخذ الكثيرة عليه بسبب مواقفه القومية المتطرفة استطاع المعارض الشاب حينها من جمع فريق عمل كبير، وأسس صندوق مكافحة الفساد، واطلق تحقيقات حول تورط كبار المسؤوليين الروس فيها. وحرم نافالني ومحموعته من المشاركة في انتخابات 2019، وشارك في التظاهرات ضد الفساد، وقوانين رفع السن التقاعدي في 2018.  وفي عام 2020 تعرض لمحاولة تسمسم نقل على أثرها لتلقي العلاج في ألمانيا. وبعد تعافيه وبخطوة استعراضية عاد إلى روسيا مطلع 2021، وحينها ألقي القبض عليه وأودع السجن حتى وفاته في فبراير/ شباط الماضي.

وبدأت السلطات الروسية منتصف 2021 حربا بلا هوادة على مؤسسات المجتمع المدني التي تتلقى تمويلا من الخارج، وصنفتها ضمن قائمة " العملاء الأجانب" وذهبت بمساعدة البرلمان المطواع في سن قوانين مشددة تقيد عمل المعارضين.

وفي يونيو/ حزيران 2021 صنفت وزارة العدل الروسية منظمة مكافحة الفساد التابعة لنافالني وشبكة مكاتبه الإقليمية على أنها "متطرفة"، وحظرت عملها، وقال المدعون الروس إنها   تخطط لانتفاضة يدعمها الغرب.

في يونيو/ حزيران 2021 صنفت وزارة العدل الروسية منظمة مكافحة الفساد التابعة لنافالني وشبكة مكاتبه الإقليمية على أنها "متطرفة"، وحظرت عملها

ورغم إيداع نافالني السجن فقد لعب دورا مهما في تحفيز الشباب المعارضين على الاحتجاج. وشكلت وفاته ضربة كبيرة للمعارضة الروسية التي افتقدت قائدا ابتكر أساليب احتجاجية عدة ومن ضمنها " التصويت الذكي" لتوجيه الأصوات الاحتجاجية لمرشح واحد  بغض النظر عن أفكاره بدلا من توزعها على مرشحين معارضين لحزب "روسيا الموحدة".

وبعد وفاة نافالني اقتصر عمل مؤسسته على الخارج، وتركز معظم العمل على اعداد تقارير حول الفساد، من دون اي خطة للعمل في أوساط الجاليات في الخارج، أو المواطنين الروس في الداخل.

وتراجع تأثير أنصار نافالني لأسباب موضوعية مثل حظر "يوتيوب" في روسيا، ومنع إعادة نشر أي مواد  للأفراد والمؤسسات المصنفين ضمن قائمة التطرف والعملاء الأجانب والتي من ضمنها مؤسسة نافالني وفريقه.  وكما دبت الخلافات بين فريق يريد الانفتاح على الجاليات وقضايا، ومحاولة انشاء حزب سياسي في روسيا والخارج. 

وفي مطلع الشهر الحالي، برز الخلاف داخل فريق نافالني. وأعلنت يوليا نافالنيا أرملة ألكسي عن تعيين فلاديسلاف رومانتسوف مديرا جديدا لمؤسسة مكافحة الفساد بديلا عن إيفان جدانوف الذي قال في منشور على قناته في "تيلغرام" إنه "على مدى خمس سنوات، دافعت عن مؤسسة مكافحة الفساد بأقصى ما أستطيع، وهي منظمة تعرضت لأشد أشكال القمع في روسيا الحديثة. عملت بصدق ومن دون خوف. والآن تفترق طرقنا. من دون أليكسي، أصبح الواقع مختلفًا تمامًا. اليوم." وفي تصريحات لاحقة قال إن قرار اقالته اتخذه عضوا مجلس الإدارة  الآخرين ماريا بيفشيخ ، وليونيد فولكوف من دون استشارته، واشار إلى وجود خلافات حول طريقة العمل المستقبلي.

ومع خروج مئات الآلاف من الروس إلى أوروبا وإسرائيل وبلدان أخرى بعد الحرب على أوكرانيا، تفتحت آفاق جديدة للمعارضة الروسية، ولكن بعد نحو ثلاث سنوات ونصف السنة أخفقت المعارضة في تشكيل حالة موحدة ومؤثرة. ومازالت تفتقد قائدا تجتمع عليه بسبب تعدد مرجعياتها الفكرية، وتضارب مصالح مموليها. وأخفقت المعارضة في توحيد الجاليات الروسية في الخارج، وبات الشرخ واضحا بين مكونات هذه الجاليات على أسس مختلفة أهمها الموقف من الحرب على أوكرانيا، وأبناء الجالية القدامى والجدد.

font change