"الطليعة الخفية"... كيف أصبحت العميلات السريّات سلاحا فتاكا لـ "الموساد"؟

"حضور بريء" لا يثير الشك

سارا بادوفان/المجلة
سارا بادوفان/المجلة

"الطليعة الخفية"... كيف أصبحت العميلات السريّات سلاحا فتاكا لـ "الموساد"؟

يروي المسلسل الإسرائيلي "طهران" حكاية عميلة تابعة لجهاز الموساد تتسلل إلى عمق الأراضي الإيرانية لتنفيذ مهمة بالغة الخطورة في قلب الجمهورية الإسلامية. ورغم أن الواقع كثيرا ما يبدو أعجب من الخيال، فإنه هذه المرة لم يكن بعيدا عنه. فقد كشف تقرير حديث نشرته صحيفة "جيروزاليم بوست" أن عميلات في الموساد شاركن في العملية الإسرائيلية الأخيرة المعروفة باسم "الأسد الصاعد".

وبحسب التقرير، شاركت هؤلاء النساء في تنفيذ عمليات سرية داخل العمق الإيراني خلال ضربات يونيو/حزيران 2025، التي استهدفت البرامج النووية والصاروخية لطهران. وقد شكّلت تلك العمليات لحظة مفصلية في مسار الاستخبارات الإسرائيلية، ومرحلة بارزة في تطور دور النساء داخل عالم الجاسوسية.

وصف مدير الموساد، ديفيد بارنياع، مشاركة النساء بأنها "بالغة الأهمية"، وهو توصيف لا يتعلق بالنجاح العملياتي فحسب، بل يعكس أيضا اندماج النساء بشكل كامل في أخطر مستويات العمل الاستخباراتي الإسرائيلي.

لطالما طغت الأساطير الذكورية على صورة عالم التجسس: رجال أنيقون ببدلات رسمية، وأجهزة متطورة فائقة التقنية، ومواجهات مشبعة بالتستوستيرون. لكن خلف كواليس جهاز الاستخبارات الإسرائيلي الأشهر، الموساد، تتبدى صورة مختلفة تماما، حيث برزت نساء بارعات أصبحن من أنجح وأبرز عناصره. من استدراج كاشفي الأسرار النووية في لندن إلى الإشراف على عمليات اغتيال في قلب بيروت، أثبتت عميلات الموساد قدرة لافتة على تحقيق إنجازات متتالية، وإعادة صياغة ملامح التجسس الحديث. كما وصلن إلى مواقع قيادية في جهاز الاستخبارات الخارجية، وأسهمن بفاعلية في ترسيخ سياسة "الذراع الطويلة" التي تقوم عليها العقيدة الأمنية لإسرائيل.

التحول الجندري في الموساد

انبثقت مقاربة إسرائيل لدور النساء في المجال الأمني من ظروف عملياتية قاسية أكثر من كونها نتيجة لقناعة أيديولوجية تقدمية. فقبل إعلان قيام دولة إسرائيل سُمح للنساء بالانخراط في الأدوار القتالية ضمن صفوف "الهاغاناه"، القوة العسكرية التي سبقت قيام الدولة، وشكّلن نسبة لافتة من قوات "البلماح"، وهي الوحدات النخبوية في الهاغاناه. وقد مثّل ذلك سابقة في إشراك النساء في أدوار متعددة، رغم أن البدايات الأولى للموساد ظلت مشبعة بالطابع الذكوري التقليدي.

كان أحد الأسباب الأخرى للتردد في إسناد أدوار ميدانية للنساء خارج المهام الإدارية هو الخوف من تعرضهن للتعذيب، وهو هاجس غذّته حادثة مبكرة تعود إلى عام 1954، حين كُشف أمر شبكة من العملاء الإسرائيليين الذين كانوا ينشطون في مصر. ومن بين هؤلاء مارسيل نينيو، وهي يهودية وُلدت في القاهرة وجُنّدت للمشاركة في العملية الاستخباراتية. اعتُقلت نينيو وتعرضت للتعذيب أثناء الاستجواب ثم حاولت الانتحار، وبعد شهور قضتها في المستشفى للتعافي، صدر بحقها حكم بالسجن خمسة عشر عاما.

مع ذلك واصلت "المؤسسة" الإسرائيلية إشراك العميلات منذ بداياتها، بما في ذلك في واحدة من أوائل العمليات التي لفتت أنظار العالم إلى الموساد: اعتقال أدولف آيخمان. ففي عام 1960 اتخذ رئيس الموساد آنذاك إيسر هاريل قرارا غير مألوف بإشراك امرأة في العملية السرية الرامية إلى القبض على مجرم الحرب النازي آيخمان في الأرجنتين ونقله إلى إسرائيل لمحاكمته. وقد وقع الاختيار على العميلة يهوديت نيسياهو لتنفيذ هذه المهمة الحساسة. وعندما أُبلغ الفريق المكلّف بحراسة آيخمان في المنزل الآمن بانضمام امرأة إلى صفوفه، توقّع أعضاؤه أن يروا شخصية تجسسية فاتنة "مغرية"، لكنهم تفاجأوا بامرأة متديّنة ترتدي عمامة بيضاء ونظارات سميكة ذهبية الإطار.

ولا تزال الصورة النمطية التي تختزل أدوات المرأة في "الإغواء" تثير استياء بعض العضوات السابقات في الجهاز

ولا تزال الصورة النمطية التي تختزل أدوات المرأة في "الإغواء" تثير استياء بعض العضوات السابقات في الجهاز. فقد قالت إحدى العميلات السابقات في مقابلة مع وسائل إعلام إسرائيلية: "في أفلام جيمس بوند يبدو الجميع في غاية الأناقة والجمال من الرأس حتى أخمص القدمين، لكن في حالتنا يكمن الجمال الحقيقي في أننا أشخاص عاديون لا نثير الانتباه، وتكمن قوتنا في القدرة على الاندماج في المحيط".

وليس المقصود بذلك إنكار أن الإغواء قد يشكّل أداة في بعض المواقف، كما ظهر في حادثة اعتقال مردخاي فعنونو، الفني النووي الإسرائيلي الذي سرّب تفاصيل عن البرنامج النووي الإسرائيلي للصحافة البريطانية عام 1986. فقد نجحت شيريل بينتوف، التي استخدمت الاسم المستعار "سيندي"، في استدراج فعنونو من لندن إلى روما حيث اعتُقل وأُعيد إلى إسرائيل. إلا أن نجاح العملية لم يستند إلى إغواء سطحي، بل إلى تلاعب نفسي متقن وحِرفة استخباراتية رفيعة.

أ.ف.ب
مردخاي فعنونو أثناء اعتقاله

كانت بينتوف، وهي عميلة مدرّبة في الموساد، قد تظاهرت بأنها سائحة أميركية وأنشأت ما بدا كعلاقة عاطفية حقيقية مع فعنونو. وكان سر نجاح العملية أن يبدو الأمر وكأن فعنونو هو من بادر إلى العلاقة، إذ قال لاحقا: "أنا من بدأ الحديث معها، ولو كانت هي من اقتربت مني أولا، لكنتُ قد شككت في الأمر". هذا الإدراك العميق للنفس البشرية، عبر إيهام الهدف بأنه المتحكم فيما يكون في الواقع واقعا تحت سيطرة محكمة، يجسّد ذروة الحرفة الاستخباراتية. وقد يكون الإغواء إحدى الأدوات، لكنه لم يكن الأداة الوحيدة، إذ بدأت النساء أيضا بالصعود في مراتب القيادة داخل الموساد.

وقد جسدت عليزا ماغين، التي توفيت عام 2025 عن 88 عاما، هذا التحول بوضوح. فقد خدمت بين عامي 1958 و1999 وأصبحت المرأة الأولى والوحيدة التي تشغل منصب نائبة المدير، لتكسر بذلك السقف الزجاجي داخل واحدة من أكثر المؤسسات سرية وهيمنة ذكورية في ذلك الوقت. وعلى امتداد مسيرتها التي استمرت أربعة عقود شاركت في مئات العمليات السرية، من بينها عملية "داموقليس" التي استهدفت علماء من ألمانيا عملوا على تطوير صواريخ لصالح مصر، وعملية "دايموند" التي جُنّد خلالها طيار عراقي، وعملية "غضب الرب" التي جاءت عقب مذبحة ميونيخ.

أ.ف.ب
ثلاثة فلسطينيين أُعتقلوا في 6 سبتمبر 1972 في ميونيخ بعد فشل قوات الشرطة الألمانية في تحرير الرهائن الذين احتجزتهم جماعة أيلول الأسود

تسارعت وتيرة تحوّل أدوار النساء في الموساد بشكل لافت خلال العقود الأخيرة. وفي عام 2022 بلغ هذا التحول محطة تاريخية حين جرى تعيين امرأتين معا في أعلى المناصب العملياتية. فقد أصبحت "أ" أول امرأة تتولى رئاسة شعبة الاستخبارات، وهو منصب يعادل رئاسة الاستخبارات العسكرية، فيما عُيّنت "ك" على رأس وحدة إيران، إحدى أكثر الوحدات العملياتية أهمية في الموساد.

سيكولوجيا عمليات التجسس النسائية

ما الذي يجعل النساء فعّالات كعميلات استخبارات؟ في مقابلة مع هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، أوضح المدير السابق للموساد تامير باردو أن للعميلات مزايا فريدة تمنحهن تفوقا في جوانب عديدة من العمل السري. وقال باردو: "للنساء أفضلية واضحة في حروب الظل بفضل قدرتهن على إنجاز مهام متعددة في الوقت نفسه، والتخلي عن الأنا من أجل تحقيق الهدف".

وأضاف باردو: "على خلاف الصور النمطية، نرى أن قدرات النساء تتفوق على الرجال في ما يتعلق بفهم المحيط، وقراءة المواقف، والإدراك المكاني. وعندما يبرعن، فإنهن يبرعن إلى أقصى الحدود". وفي مقابلة مع الصحافة الإسرائيلية أكد أيضا: "أسهمت النساء في قيادة بعض من أعظم عمليات الجهاز".

وتتمتع عميلات الموساد بمزايا يصعب على نظرائهن من الرجال مجاراتها. فقد قال أحد رؤساء الأقسام السابقين في الجهاز لصحيفة "واي نت" الإسرائيلية: "في محيط يكتنفه الخطر تُعد النساء أقل إثارة للشك، وهذه ميزة بالغة الأهمية".

وقد يكون الإغواء إحدى الأدوات، لكنه لم يكن الأداة الوحيدة، إذ بدأت النساء أيضا بالصعود في مراتب القيادة داخل الموساد

تُجسّد عملية اغتيال علي حسن سلامة عام 1979، مهندس مذبحة أولمبياد ميونيخ، هذا المبدأ عمليا. أمضت إريكا تشامبرز، المتطوعة البريطانية المقيمة في بيروت، أشهرا عديدة في ترسيخ هويتها الزائفة كعاملة إغاثة ورسامة هاوية. ومن خلال روتينها اليومي الذي تضمّن إطعام القطط الضالة والرسم على شرفة شقتها، وفّرت لنفسها موقعا مثاليا لمراقبة الهدف. وعندما حان الموعد المحدد، فعّلت جهاز التفجير عن بُعد من شرفتها، لِتُنهي حياة أحد أكثر المطلوبين لإسرائيل باستخدام مئة كيلوغرام من المتفجرات. لم يكن بوسع أي عميل من الرجال أن يحافظ على حضور يومي بريء مماثل طوال أشهر من دون أن يثير الشكوك.


وقد أوضحت ميشيل ريغبي أسعد، وهي عميلة سابقة في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه)، هذه الميزة في مقابلة بقولها: "في وكالة الاستخبارات المركزية تستفيد النساء الذكيات من الافتراضات الخاطئة لدى الخصم من خلال استخدام عنصر المفاجأة. الأمر أشبه بلعبة بوكر، فعندما لا يتوقع مجرم أو إرهابي أو حتى شريك محتمل أن تكون المرأة ندا له، تصبح جميع الأوراق في يدها".

تكتسب هذه الميزة النفسية أهمية خاصة في البيئات التي تميل إلى التقليل من شأن النساء أو التعامل معهن على أنهن لسن مصدرا للخطر، كما هو الحال في الجمهورية الإسلامية الإيرانية.

سلاح سري ضد إيران

إن الكشف الأخير عن أن عميلات الموساد أدّين دورا قياديا في الحرب التي دامت 12 يوما بين إسرائيل وإيران يشكّل فصلا جديدا في سلسلة من العمليات التي باتت فيها الوكالة الإسرائيلية تعتمد بشكل متزايد على هذا "السلاح السري".

رويترز
تصاعد الدخان عقب هجوم إسرائيلي على مبنى هيئة الإذاعة والتلفزيون الإيرانية، في طهران، إيران، 16 يونيو

في الواقع ليست هذه هي المرة الأولى التي تضطلع فيها عميلات بأدوار رئيسة في العمليات الإسرائيلية داخل إيران. ففي عام 2018 كشف صحافيان إسرائيليان عن مشاركة عميلات في عملية جريئة استهدفت الاستيلاء على "أرشيف إيران النووي"، وهو مجموعة وثائق سرية تتعلق ببرنامج الأسلحة الإيراني.

كما يُعتقد أن اغتيال العالم النووي الإيراني مجيد شهرياري عام 2010 نُفّذ بمشاركة عميلة لصقت عبوة ناسفة بسيارته. تتطلب مثل هذه العمليات دقة في التوقيت وخبرة تقنية وقدرة على العمل تحت ضغط شديد مع الحفاظ التام على الهوية السرية.

يُعتقد أن اغتيال العالم النووي الإيراني مجيد شهرياري عام 2010 نُفّذ بمشاركة عميلة لصقت عبوة ناسفة بسيارته

ومع موجة الاحتجاجات الأخيرة التي اندلعت إثر وفاة مهسا أميني على يد شرطة الأخلاق الإيرانية، فإنه من المرجح أن تكون إسرائيل قد تعمدت توجيه رسالة سياسية إلى طهران من خلال الكشف عن دور العميلات في الحرب. فشعار الاحتجاجات الذي أعقب وفاة أميني (المرأة، الحياة، الحرية)، جعل قضية المرأة في قلب تطلعات شريحة واسعة من الإيرانيين المناهضين للجمهورية الإسلامية. وفي بلد تُقيَّد فيه أدوار النساء بموجب القانون، لا يُعد إشراكهن في مهام استخباراتية تفصيلا هامشيا.

وبحسب تقارير إسرائيلية تعود إلى عام 2017، تشكّل النساء نحو 40 في المئة من أفراد الموساد، ويشغلن 24 في المئة من المناصب العليا. وبهذا تجاوز الجهاز مرحلة التمثيل الرمزي إلى اندماج عملي حقيقي. غير أن ذلك لا يعني بالضرورة أن الصور النمطية الجندرية اختفت فجأة من المؤسسة الأمنية الأشمل. ففي الواقع كان أحد الأسباب الجوهرية وراء فشل إسرائيل الكارثي في اكتشاف هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول هو نمط من الذكورية دفع ضباطا رفيعي المستوى في الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية إلى تجاهل التحذيرات التي أطلقتها مجنّدات كنّ يراقبن الكاميرات على حدود غزة.

ومع ذلك ظل الموساد، خصوصا في السنوات الأخيرة، يبحث عن الكفاءات أينما وُجدت. وقد أثبت إشراك عميلات في الحرب ضد إيران أن السلاح الأكثر فاعلية في عالم التجسس الدولي ليس بالضرورة الأكثر وضوحا، وأن الأصول الأكثر قيمة غالبا ما تكون هي نفسها تلك التي يستهين بها الخصم بشكل تلقائي.

font change

مقالات ذات صلة