في عام 1887، وقف الكيميائي الألماني هارمون مورس في مختبره بجامعة جونز هوبكنز الأميركية ليحضر مركّبا جديدا، لكنه لم يكن يعلم أن اكتشافه سيغير مستقبل تسكين الألم والحمى. فقد توصل إلى الباراسيتامول، أحد أكثر المسكنات شيوعا في العالم الآن.
كان الأطباء في ذلك الوقت اعتمدوا أكثر على الأسيتانيليد والفيناسيتين، وهما عقاران سرعان ما ارتبطا بمشكلات خطيرة في الدم والكبد والكلى، مما جعل استعمالهما محفوفا بالأخطار، خاصة لدى الحوامل. ومع تراكم الأبحاث تبين أن تلك العقاقير تتحول في الجسم إلى الباراسيتامول نفسه، فبدأ الاهتمام به من جديد. وفي خمسينات القرن العشرين طرح في الأسواق تحت اسم "تايلينول"، ليثبت سريعا أنه الخيار الأكثر أمانا، مقارنة بسابقيه، ويصبح الدواء المفضل لتخفيف الألم وخفض الحرارة، خصوصا للحوامل اللواتي كان أمامهن في السابق خيارات محدودة وغير آمنة.
بعد سنوات طويلة، وفي البلد نفسه -الولايات المتحدة الأميركية- وتحديدا في الثاني والعشرين من سبتمبر/أيلول 2025، أشعل الرئيس الأميركي دونالد ترمب جدلا واسعا بعدما دعا النساء الحوامل إلى تجنب تناول مادة الباراسيتامول والمعروف باسم تايلينول في الولايات المتحدة، مدعيا أنه يرتبط بزيادة "كبيرة جدا" في خطر إصابة الأطفال باضطراب طيف التوحد.
ورغم أن تصريحه استند إلى لغة حاسمة، فإن ما لفت الانتباه هو غياب أي سند علمي مباشر يدعم هذا التحذير. فسرعان ما تحركت منظمات الصحة العالمية، وهيئات الدواء الأميركية والأوروبية والبريطانية لتفنيد الادعاء والتأكيد أن الأدلة العلمية المتوافرة لا تثبت وجود علاقة سببية بين تناول الباراسيتامول أثناء الحمل والتوحد.
القضية ليست بسيطة، فهي تقف عند تقاطع حساس بين السياسة والصحة العامة والعلم. من جهة، يعد الباراسيتامول أكثر الأدوية استخداما حول العالم لتسكين الألم وخفض الحمى، ويوصَف عادة كخيار آمن للنساء الحوامل، مقارنة بأدوية أخرى مثل الإيبوبروفين ومضادات الالتهاب غير الستيرويدية التي قد تحمل أخطارا على الجنين.
من جهة أخرى، فإن التوحد نفسه، بما يحيط به من غموض في أسبابه وتزايد معدلات تشخيصه، يمثل موضوعا خصبا للتكهنات السياسية والاجتماعية. ولذلك، فإن أي إشارة من رئيس دولة بحجم الولايات المتحدة إلى "رابط محتمل"، سرعان ما تتحول إلى مادة جدلية عالمية.
أسباب مجهولة
التوحد اضطراب نمائي عصبي يظهر في مرحلة الطفولة المبكرة، ويؤثر بشكل رئيس على طريقة تواصل الفرد وتفاعله الاجتماعي، إلى جانب أنماط سلوك متكررة واهتمامات ضيقة أو غير اعتيادية، وتتنوع شدة الأعراض بشكل واسع بين الأفراد، مما يجعل البعض قادرين على الاعتماد على أنفسهم بشكل كبير، بينما يحتاج آخرون إلى دعم يومي مستمر.
ورغم عقود من الأبحاث، لا تزال الأسباب الدقيقة للتوحد غير مفهومة بالكامل، لكن العلماء يجمعون على أنه نتيجة تداخل معقد بين العوامل الوراثية والبيئية. فقد أظهرت الدراسات أن بعض الطفرات أو التغيرات الجينية تزيد قابلية الإصابة، بينما قد تساهم العوامل البيئية في تفعيل هذه القابلية، مثل تعرض الجنين لبعض السموم البيئية أو العدوى الفيروسية أثناء الحمل، أو ولادة مبكرة، أو مضاعفات عند الولادة.
كذلك، يلعب نشاط الدماغ غير الطبيعي في مناطق مسؤولة عن اللغة والتواصل دورا ملحوظا في تطور الحالة. ولا يوجد دليل علمي يربط اللقاحات بالتوحد، كما شاع خطأً في الماضي. في ووجه عام، يُنظر إلى التوحد باعتباره حالة متعددة العوامل، تنشأ من مزيج من الاستعداد الوراثي والتأثيرات البيئية المبكرة، أكثر من كونه نتيجة سبب واحد محدد.
من الناحية العلمية، يجب التوقف عند نوعية الأبحاث التي تناولت هذه الفرضية. معظم الدراسات التي بحثت في العلاقة بين الأسيتامينوفين (الباراسيتامول) والتوحد جاءت من النوع الرصدي الارتباطي.