عيسى مخلوف لـ"المجلة": السجال في العالم العربي متأخر عن الأسئلة الأساسية

فاز بجائزة ابن بطوطة عن كتابه "باريس التي عشت"

facebook
facebook
عيسى مخلوف

عيسى مخلوف لـ"المجلة": السجال في العالم العربي متأخر عن الأسئلة الأساسية

يعد الكاتب والشاعر اللبناني عيسى مخلوف، علامة مضيئة داخل المشهد الإبداعي العربي المعاصر. ذلك أن كتاباته المتحررة من رطانة النقد الأكاديمي، تجعل القارئ يفطن إلى الإمكانات الفكرية التي يحبل بها صاحب "عين السراب" في خلق نوع من الفضاء المفتوح داخل النص، وفق آلية نقدية يضخّ عبرها مخلوف الكثير من الشعر داخل الممارسة النقدية.

في كتابه الجديد "باريس التي عشت: دفتر يوميات"، يشعر القارئ أنه أمام كتابة مختلفة، لكونها تتخلى على مستوى التفكير عن الترسبات المسبقة التي تعودنا على الاهتداء إليها للكتابة عن آداب وفنون الآخر، صوب شكل من الكتابة يقترب في ملامحه الثقافية من الفكر. بل إن صاحب "رسالة إلى الأختين" يتعمد في كل عمل جديد له الكتابة بجسده، حيث يرتطم العقل بالخيال واليد بالعين ويكوّنان معا نسيجا فكريا مذهلا يرجّ جسد القارئ ويربكه على مستوى القراءة، ويجعله حائرا بين النتف والصور والإشارات والعلامة التي يسعى مخلوف جاهدا، إلى مطاردتها داخل الأعمال الشعرية والنصوص النثرية واللوحات والتماثيل، لكنها تظل منفلتة وهاربة باستمرار، كما يقول رينه شار. هنا حوار "المجلة" مع الشاعر.

فزت هذه السنة بجائزة ابن بطولة لأدب الرحلة عن كتابك "باريس التي عشت: دفتر يوميات". في نظرك كيف يمكن أن نكتب حياتنا وسيرنا، انطلاقا من الآخر الذي يرافقنا في جرحنا الوجودي؟

أتأمل في سيرتي الذاتية وأكتشف، يوما بعد آخر، أنها ليست ذاتية تماما، وهي نقطة في أوقيانوس كبير. سيرة كل شخص منا لا تتكون بمعزل عن الظروف الخاصة والعامة، المرتبطة بطفولتنا وتنشئتنا، وبالزمان والمكان، وبالأحداث التي ترافقنا، وبالأشخاص الذين نتقاسم معهم حياتنا. إنها أيضا مختصر لمسارنا العلمي، وتجاربنا، وأسفارنا، وما قرأنا ورأينا وتحسّسنا على مدى الأيام. كتاب "باريس التي عشت" جزء من هذا التصور. وهو امتداد لكتابين آخرين هما "تفاحة الفردوس/ تساؤلات حول الثقافة المعاصرة"، و"ضفاف أخرى".

في هذه الكتب الثلاثة، تحضر الذات كما يحضر العام أيضا. تحولات العالم وانعكاس هذه التحولات على الأفراد، أي على كل منا.

في "باريس التي عشت"، رصدت واقع المدينة التي كانت في القرن التاسع عشر عاصمة الثقافة في العالم، وكيف تغيّرت اليوم في زمن العولمة والثورة التكنولوجية. لقد توقفت عند العقدين الأخيرين من القرن العشرين يوم وصلت إلى المدينة لمتابعة تحصيلي العلمي، وكانت في أوج ازدهارها الثقافي، وكيف بدأت تتراجع، كاستثناء ثقافي، تحت ضربات رأس المال والهيمنة الرأسمالية المتوحشة.

إلى أي حد تستطيع الجوائز العربية أن تشكل اعترافا حقيقيا بمجهودات المبدع؟

في العقود الأخيرة، تحولت الجوائز الأدبية في العالم العربي، وفي العالم أجمع، إلى ظاهرة قائمة بذاتها. ظاهرة ثقافية وسوسيولوجية واقتصادية معا. والبحث في إيجابياتها وسلبياتها من شأنه أن يكشف عن دورها الحقيقي في المشهد الأدبي والثقافي. في العالم العربي، أصبحت الجوائز، خصوصا الجوائز المخصصة للأعمال الروائية، دافعا إلى الإقبال على كتابة الرواية وعلى شرائها. في الغرب، حيث تباع مئات آلاف النسخ من الرواية الفائزة، أصبح الرهان المادي يتقدم على الرهان الأدبي والجمالي. قد تساهم الجوائز في الترويج لكتاب ما، وزيادة المبيعات، وهذا شيء مهم، لكنها غير قادرة على إنتاج كتاب واحد يشكل إضافة.

في كتاب مخصّص لـ"تاريخ الجوائز الأدبية"، تناولت الباحثة الفرنسية سيلفي دوكا الديناميات الجديدة في الحالة الأدبية المعاصرة وعلاقة الجوائز بها، وكيف يتحول معها الكتاب إلى سلعة وقيمة تسويقية قبل أن يكون عملا إبداعيا. كان الهدف من بعض الجوائز التي تأسست مطلع القرن العشرين، ومنها "جائزة غونكور"، الجائزة الأدبية الأولى في فرنسا، حماية الكاتب من الآثار السلبية لاقتصاد السوق، وإذا بهذه الجائزة تصبح جزءا من هذه السوق نفسها.

الذات والآخر

هل يمكن أن نعتبر كتابك "سيرة غيرية" أكثر من كونها "ذاتية" بحكم أنه عبارة عن كتابات حول أدباء ومفكرين وفنانين رافقتهم في ليل السؤال؟

نحن، في نهاية المطاف، محصلة علاقات وتجارب وأسفار وقراءات وأسئلة، ومحصلة تناقضات نسعى دائما إلى التوازن بينها، نفلح حينا ونفشل أحيانا. اندلاع الحرب الأهلية في لبنان دفعني إلى المجيء إلى باريس حيث تابعت تحصيلي العلمي. لكنه كان مجيئا اضطراريا، وقبل الأوان. خروجي من الأرض الخراب كان أشبه بالاقتلاع، وأصبح انتظار عودتي إليها، سنة بعد أخرى، أشبه بـ"انتظار غودو". كان لوجودي في باريس التي كانت، كما ذكرت، في أوج لمعانها، أثر كبير على تكويني الفكري والثقافي. ولقد أتاح لي عملي في مجال الإعلام التواصل مع عدد كبير من الكتّاب والمفكرين والفنانين من جميع الجنسيات.

Sébastien DUPUY / AFP
واجهة مدخل "كوليج دو فرانس" في باريس، مؤسسة للتعليم العالي والبحث، 1 شباط/فبراير 2025

وكانت هذه اللقاءات، يومئذ، إضافة إلى الندوات والمحاضرات، لا سيما محاضرات "الكوليج دو فرانس"، والحياة الثقافية الغنية في أوجهها المتعددة، بمثابة نبع لا ينضب. كما أتاح لي وجودي في فرنسا زيارة مدن أوروبية كثيرة، وزيارة متاحفها ومعارضها ومعالمها الأثرية، وبعضها أشبه بالمتاحف، كمدينة بروج مثلا، والذهاب بصورة سنوية إلى إيطاليا، ذلك المتحف الفني المفتوح، الذي ملأني بجمال فنونه وهندسته. والحج إلى فينيسيا وفلورنسا وروما، والمدن الصغيرة، مثل بادوفا، وكذلك أسيزي المطلة على سهول أومبريا الجميلة، بحثا عن أعمال الفنان جيوتو الذي، مع مرور السنوات، ما زلت أحتفظ بالانطباع الأول الذي أدهشني لدى رؤية جدارياته العظيمة، والتي أسست، إضافة إلى أعمال تشيمابوي، لفنون النهضة الإيطالية. كل هذا المشهد، بما فيه من مرئي ومكتوب ومسموع ومحسوس، ما كان ليحجب عن نفسي يوما دخان الحرب المندلعة في البلد الذي غادرته، وفي المنطقة العربية كلها وجرحها الأكبر فلسطين.

DOMINIQUE FAGET / AFP
رجل يجلس على الركام في بيروت الغربية المدمرة، 20 آب/أغسطس 1982، عشية وصول القوات الفرنسية ضمن القوة المتعددة الجنسيات إلى لبنان خلال الحرب الأهلية

ثقافة العين

هناك حضور لمفهوم النظر في الكتاب، باعتباره مدخلا لقراءة الجسد الإنساني في علاقته بالآخر والأدب والفن والفضاء. كيف وعيت ذاتك انطلاقا من سيرة الآخرين وأفكارهم وأعمالهم ونصوصهم ومواقفهم؟

العين التي ترى، ماذا نكون لولاها، وفي أي اتجاه نتجه؟ لذلك وضعت الكتاب كله تحت سماء هذه العين، وأردت أن تتصدر الكتاب عبارة لمارسيل بروست: "الرحلة الحقيقية الوحيدة، ينبوع الشباب الوحيد، لن يكون في الذهاب نحو مشاهد طبيعية جديدة، بل في امتلاك عيون أخرى، ورؤية الكون بعيني شخص آخر، بعيون مائة شخص آخر، ورؤية الأكوان المائة التي يراها كل واحد منهم، ويكونها".

 نعم، العين مدخل لقراءة الجسد الإنساني في علاقته بالآخر والأدب والفن والفضاء. من الفلاسفة الذين التفتوا إلى فكرة العين، وعلاقة العين بالجسد، أذكر جان بول سارتر الذي تناول، في كتابه "الوجود والعدم"، نظرة الآخر وتأثيرها فينا بشكل كبير. في هذا الكتاب، وفي الفصل المخصّص لـ"الآخر"، يناقش سارتر كيف أن نظرة الآخر تجعلنا نعي أنفسنا كموضوع، وأنها يمكن أن تمنحنا شعورا بالخجل أو بالوعي المربك بذاتنا. حين نشعر أن هناك من ينظر إلينا ويراقبنا، يتحول وعينا من تركيزه على الفعل إلى إدراك ذواتنا كما يراها الآخر. هذا جانب بسيط، من جوانب كثيرة لا تحصى. ما يعنينا، هنا، هو وعي الذات من خلال علاقتها بالآخرين، وأفكارهم وأعمالهم ونصوصهم، وهذا ما ركزت عليه في كتابي.

من الصفحات النيّرة التي تضيء رحابة الكتاب وتجعله كشفا مذهلا، حرصك على طرق باب الفن وجعله مختبرا لتحليل ومناقشة قضايا ذات صلة بالممارسة الفنية. إلى أي حد في نظرك يغدو الفن أفقا للفكر؟

الفن أفق للفكر، ككل إبداع. يفتح المدى ويحرض على الأسئلة، ويدفع في اتجاه الخروج من القطيع واكتشاف الذات تحت سماء جديدة. ليوناردو دافنشي كان يقول إن "الفنّ هو شيء ذهني". إنه، في هذا المعنى، رياضيات وحدس في آن واحد. تصوّر وهندسة وموسيقى داخلية. تجربتي بأكملها تقوم على هذا التزاوج بين الأنواع الإبداعية. إنها لعبة مرايا يلتقي فيها الأدب والفنون التشكيلية والموسيقى في مساحات رحبة لا تحدها حدود. لذلك فإن نصوصي الأدبية لا تخلو من موسيقى وتشكيل فني، ومن إصغاء عميق للفكر والفلسفة والعلوم.

ثقافة المنع

هل تعتقد أن مسألة المنع الذي رافقت مفهوم الصورة والتصور في التاريخ العربي الحديث، ساهمت في تحجيم هذا المفهوم الذي لا نكاد نعثر عليه داخل الفكر العربي المعاصر؟

لا ينحصر الموضوع في مسألة المنع التي تشير إليها، رغم أهميتها. إذا عدنا قليلا إلى الوراء، نلاحظ أن فترة النهضة العربية، بين منتصف القرن التاسع عشر والعقدين الأولين من القرن العشرين، كانت ومضة عابرة. مع الحرب العالمية الأولى، دخل العالم العربي مرحلة جديدة، تحوّل فيها المشروع النهضوي إلى شيء آخر: صراعات سياسية، وحركات استقلال، ونزعات قومية، وتراجع الزخم الفكري لصالح النضال السياسي. والسؤال: إلى أين وصل العالم العربي، والأوضاع الداخلية والخارجية تزداد صعوبة وتعقيدا؟ في هذه البقعة من العالم، لا يزال السجال متأخرا عن الأسئلة الأساسية التي طرحتها النهضة، ومنها ما يتعلق بالنظام الاجتماعي، والدين والمرأة واللغة.

 سبب ذلك هو غياب الفكر النقدي الذي لا يستقيم من دون تراكم علمي، ومن دون منهج معرفي جديد قادر على تجاوز البنية السابقة جذريا، لا السعي إلى تعديلها فقط. في الإطار الجديد، لا تبقى الأمور على حالها، بل تصبح المفاهيم البائدة غير صالحة. وبذلك يتم الانتقال من إطار معرفي قديم إلى إطار جديد يفرض معاييره الخاصة.  هنا، وليس في مكان آخر، تتحقق القفزة النوعية في أنماط التفكير والمعرفة، ليس في الفنون والآداب فحسب، بل أيضا في جميع المجالات.

Martin BUREAU / AFP
زبائن يجلسون على شرفة مقهى "كافيه دو فلور" في باريس مع إعادة فتح المقاهي والمطاعم بعد تخفيف قيود كورونا

الحداثة في الغرب، اتخذت مسارات أخرى، من عصر النهضة الأوروبية إلى التحول الاقتصادي-التكنولوجي، والثورة الصناعية التي كانت محطة حاسمة في تجسد الحداثة التي لم نلمح منها، في العالم العربي، سوى القشور. إلى ذلك، لم تكن الحداثة في الغرب أحادية الجانب، بل كانت ثورة طالت مختلف الحقول والميادين، بخلاف ما حدث في العالم العربي الذي يشهد ضمورا ثقافيا قل مثيله. ختاما، كيف تكون اللوحة الفنية، إذن، وسيلة للتفكير في غياب الفكر النقدي والنهج العقلاني؟

font change

مقالات ذات صلة