النهضة الاقتصادية في سوريا الجديدة... أولوية الاستقرار السياسي والأمني

مسارات محددة

المجلة
المجلة

النهضة الاقتصادية في سوريا الجديدة... أولوية الاستقرار السياسي والأمني

في الحقيقة إن الولوج إلى طريق التنمية لبلاد خرجت توا من حروب استمرت لسنوات، ترتكز على منطلقات أساسية لإقامة نهضة اقتصادية متوازنة وشاملة، تحددها المسارات التالية:

أولا: قضية الاستقرار السياسي والأمني، بمعنى أن تسيطر الدولة من خلال مؤسساتها الأمنية على الوضع العام في البلاد، وإن ظهرت بعض الجوانب غير الواضحة. والاستقرار كلمة مطاطة، قد تستغرق الكثير من التحليل والتأويل، والكثير من الرغبة في السيطرة بمعناها الواسع، وقد تعني النزوع للسيطرة الأمنية وفقا لما تعارفنا عليه خلال السنوات المنصرمة، ومن عهد الانقلابات العسكرية، والتزام المجتمع بما يقرره الانقلابيون. وهذه كانت تجارب فاشلة، لم تُدرس بما فيه الكفاية، لأن الاستقرار ليس في التسلط ومنع المجتمع من الحركة في القول والفعل، ولا في توجيه الاتهامات الجزافية لمن يرفع عقيرته لانتقاد مشهد معين، أو سلوك ذي صفة تدميرية، ولا في توجيه الاتهامات الجزافية للسلطة ومراقبتها في حركاتها وسكناتها، وضرورة أن ينتطح هذا أو ذاك وكأنه يدير دفة المشهد، برؤية قد تكون صائبة وقد تكون خائبة.

وعندما نقول الاستقرار المجتمعي، فلا يعني ذلك أن المجتمع يجب أن يكون على سوية واحدة من الفهم والتحليل والاعتبار، لأن تعبير المجتمع هذا تعبير ميثولوجي، لأن للمجتمع عدة أوجه وعدة تطلعات وعدة تساؤلات. ومن يدقق جيدا يجد أن هذا التعبير حمّال أوجه، لأن المجتمع تتنازعه عدة اتجاهات، منها:

- أيديولوجية مستحكمة متوارثة، وهي واجبة ولازمة ولا يجب الاستهانة بها أو التوجّه نحو السيطرة عليها وإلا دخلنا في صراع مجتمعي نحن في غنى عنه.

- رؤية سياسية نخبوية، ذات توجهات تبحث عن مكان لها في المجتمع، وبالتالي في السلطة. وهذا حق لها لا يمكن إبعاده أو إزاحته بقرارات أو إصدار أوامر، وهو تعبير سياسي واقتصادي واجتماعي لا بد من وجوده، لأنه يحقق التعادل العام في المجتمع.

- الانجذاب نحو الخارج بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، لأن العالم الخارجي يؤثر ويتأثر، وهذه قضية معروفة وزادت وتيرتها خلال الخمسين سنة الأخيرة.

الدعوة لدمقرطة المجتمع بشكل انتسابي أو رغبوي هي محاولة عبثية، وليس لها في الواقع من مصير مؤكد، لأن المجتمع في النهاية هو من يقرر شكل النظام السياسي وأدواته ومفرداته

- المشاركة لأنها تعتبر قادرة على الوفاء بما يحتاجه المجتمع، وتلك قضية مهمة، ومن حق الأشخاص في المجتمع، وخاصة الذين يعتقدون أن لهم تأثيرا هاما سواء بما اكتسبوه من شعبية أو علم أو خبرة، وهذه يجب أن لا يتم تجاهلها أو استعمال سياسة الكبت والتضييق على هذه الطموحات التي تصب في صالح الاستقرار السياسي. لأن الإنسان خلقه الله ليتصرف والناس مخبوءة تحت ألسنتها، وبالتالي من يمتلك الحجة والقدرة والدراية من حقه أن يخدم في الاتجاه الصحيح، وهذا لا تحدده السلطة، ولكن يفرضه المجتمع، لأن المجتمع، هو التجمع للرأي والرأي الآخر، أو أن من يعترض عليه أن يقدم البديل.

- إن صيرورة المجتمع نحو الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي محكومة بما يلي:

1- الحرية في القول والعمل والتجمع والتظاهر.

2- أن يتم ذلك وفقا للقوانين والعادات والتقاليد والتشريعات. والفوضى بشكل عام غير مبررة، وإن اتبعها من اتبعها.

- الانطلاق من الفهم الواسع للاستقرار المجتمعي. وكل مواطن خلية وطنية، له الحق في المشاركة، وكل المواطنين مواطنون جيدون ولا يوجد في القاموس هذا وطني ممتاز وذلك جيد وثالث غير ذلك. وعهد تقسيم المجتمع والناس إلى مواطن على سلم الدرجات والتصنيفات السابقة، كان من "الكبائر" التي مارستها أجهزة القمع التسلطية لأنها تنزع نحو السيطرة والتسلط لتجعل المجتمع يُساق بعصا السلطة التي ليس لها مفاهيم وطنية بقدر ما كانت حزبية ضيقة، أو شللية، أو عائلية منتفعة، وقد عشناها بكل صبر وثرنا عليها وأعطى المجتمع الكثير من أهله وممتلكاته ومكانته وصبره الشيء الكثير.

رويترز
مقر مجلس النواب السوري في العاصمة دمشق، 21 ديسمبر 2025

- إن الدعوة لدمقرطة المجتمع بشكل انتسابي أو رغبوي هي محاولة عبثية، وليس لها في الواقع من مصير مؤكد، لأن المجتمع في النهاية هو من يقرر شكل النظام السياسي وأدواته ومفرداته. والمطلوب دائما الاستمرار في تحسين الوضع السياسي والاقتصادي وبلورة الطرق التي تؤدي إلى زيادة الإحساس بالاستقرار وتوكيده. والدولة هي البناء الفوقي للمجتمع، وهي أداته الإدارية، والحكم الرشيد من عدمه. والدولة في التحليل النهائي هي النظام البيروقراطي الذي يتحكم في مفاصل الحكم، ولا يلغي المجتمع، لأن الصيرورة التاريخية والمستقبلية لأي نظام حكم تتقرر من خلال الأدوات والسياسات الناظمة لمسيرة النظام السياسي الاقتصادي الاجتماعي والثقافي والحقوقي الذي يستمد مشروعيته من المجتمع الذي ينتمي إليه. وهو تعبير شعبوي غير مكتمل النضج، والاستقرار السياسي في التحليل النهائي هو مفهوم نسبي، تحدده الأدوات التي تعلن عنه أو تلغيه، واستمرارية النظام السياسي واستقراره تتحكم فيهما العوامل التالية:

- مستوى الثقة المتبادلة بين ما أفرزه المجتمع وهم الحكام والإدارات الحاكمة والهيئات المنتجة. وهذه الثقة لا تتولد بشكل أوتوماتيكي، إلا في مرحلة الحوافز المعنوية، كما حدث في سوريا بعد 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، حيث تم الانتهاء من النظام السابق صاحب الممارسات الخاطئة التي أدت إلى أن تتحول الدولة بكافة أركانها إلى دولة وقعت في خصومة مع الشعب، وبالتالي فإن التعافي منها شكل حالة جماهيرية التفّت حول المحررين الجدد، وكانت هذه نقطة فاصلة بين عهدين قديم وجديد، لكن بدأت المطالب تزداد يوما بعد يوم وكأن المجتمع أفاق على حالة وجدانية تتطلب كل ما كان المجتمع محروما منه طوال سنين مملة وطويلة وما رافقها من عسف وقتل وإجرام وتهديم للمجتمع وضرب وحدته الوطنية وأُخضع للتنازع بين أطرافه وإدخال القوى الأخرى من خارج المجتمع لتلعب دور الغالب على إرادته الكاملة، مستفيدة من رغبة النظام البائد في التمترس حول مفاهيمه ومطالبته بالبقاء دون الإحساس الأكيد بمطالب المجتمع في تحقيق الحد الأدنى من متطلباته الحياتية. وهكذا تم الانهيار الكبير في الثقة بين "من يحكم" و"مَنْ يُحكم"، وهو الشعب، وانعدام الثقة هذه لم تكن وليدة اللحظة، ولكنها كانت على محور زمني طويل من المعاناة وتراكمات استمرت لسنين بل لعقود.

التوقعات كبيرة بحجم الآلام التي مشى فيها المجتمع كله المثخن بالجراح والخيبات لسنين بل لعقود طويلة، وأدركت الدولة الجديدة السورية أن المطلوب منها أشياء كثيرة

وإذن كانت العلاقة، وقد سمّيت بـ"لا علاقة"، وهي مفروضة من كتلة السلطة التي سميت زورا وبهتانا الدولة، وهي لم تكن كذلك، بل هي شيء آخر ليست له تسميات في القاموس السياسي، الاقتصادي، الاجتماعي، والثقافي والحقوقي.

ثانيا: من هنا ورثت الدولة الجديدة كل هذا الكم من المشاكل ومن النوازع ومن التمنيات، لأن اليوم الآخر هو الأجمل، وأن التوقعات كانت كبيرة بحجم كل الآلام التي مشى فيها المجتمع كله المثخن بالجراح والخيبات لسنين بل لعقود طويلة، وأدركت الدولة السورية الجديدة أن المطلوب منها أشياء كثيرة: فالتحرير تم إنجازه، وسقطت الدولة القديمة. ولكن بقيت لها ركائز قائمة تطمح إلى أن تعيد الذي كان، ولكنها لا تستطيع إلا بحركات يائسة، وتحركت كوامن كانت قائمة ولكنها متوارية أو ظاهرة لتفرض أجندتها، ولكنها كانت يائسة. فحدث ما حدث، ولكن مسيرة الدولة الجديدة بدأت بخطى وئيدة وثابتة، فدخلت إلى مضامين جديدة وتطور نوعي، ولكن لم يرافق ذلك التوضيح من أجهزة الإعلام ومثقفيها لأن الخبرة هنا تلعب دورا، والتغييب يلعب دورا آخر. وإذا كانت السياسة العامة للدولة، أية دولة، هي انعكاس لواقع أو لسياسة اقتصادية، فإن الدخول في ذلك كان يحتاج إلى صبر وتخطيط وإعادة هيكلة، وكل ذلك يحتاج إلى وعي مجتمعي وزجه في هذه الاتجاهات. على أنَّ قاعدة اتخاذ القرارات كانت وما زالت ضيّقة، ولم تتوسع لأسباب ذاتية أو موضوعية، وهكذا كان الدخول.

ثالثا: في مجال التنمية الاقتصادية الرافع الاجتماعي لكل ما تقدم من استقرار، فإن المسافة والمساحة لديها تفصيلات كثيرة وكوادر قادرة وفاهمة، ولديها نزوع نحو ذلك، ففي بناء الدول، ليس المهم أن يكون القائد أو القيادة لديها الفهم الشامل للأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والرؤى لتحقيق ركن البدء والدخول في القضايا التالية:

- بناء الدولة وكوادرها، وشكل النظام السياسي، الاقتصادي، الاجتماعي. أن تكون واردة ومتطورة ومعروفة جيدا.

رويترز
سوري يرفع العلم اثناء الاحتفالات بسقوط النظام السابق، دمشق 13 ديسمبر 2024

- إعادة هيكلة الدولة والاقتصاد على وجه الخصوص خلال مدة زمنية بين 3-5 سنوات مثلا.

- وضع خطة استثمارية شاملة، وهذه تحتاج إلى خبراء في الإحصاء والاقتصاد والاجتماع والقانون، ودرس الأولويات والتصورات والاستفادة من التجارب التي حدثت في بلاد أخرى، وهذه الخطة تكون مبنية على فهم شامل لمتطلبات الاقتصاد الوطني، والأولويات من الأهم فالمهم، والتركيز على القدرات الإنتاجية وإعادة إسكان السكان في مناطقهم، وتحريك عجلة التنمية على كل المستويات من دون تأخير، وهنا أركّز على العامل السكاني لأن السكان هم العامل المهم في هذا الأمر، إذ إنهم يشكلون حالة مجتمعية في الريف والمدينة، وهذه تشكل طلبا كليا، وهذا بدوره يدفع إلى التمكين من العرض الكلي (أي الإنتاج)، والمقابلة هنا اقتصادية وتنموية على حد سواء، والسكان يشكلون الطلب الكلي، والسكان- وهم المنتجون- يشكلون أيضا الدافع نحو الإنتاج، وبالتالي العرض الكلي. وهذا ما حدث في معظم البلدان التي خرجت من حروب مماثلة ولم تنتظر الكتلة السكانية قدوم المساعدات كي تتوجه نحو التنمية المجتمعية.

إذا كان في مستطاع الدولة زج القطاع الخاص في مفاصل العملية التنموية وضمن المخطط التنموي، وتوجيه هذا القطاع لخدمة الأهداف الكبرى والعملية التنموية الشاملة والمتوارثة، فذلك يكون أجدى

إن إعادة السكان إلى قراهم ومدنهم وأريافهم، هو العامل الحاسم والأولي نحو تنمية الكتلة السكانية التي كانت منتشرة، والقسم الأعظم منهم أحدث تحولات هامة في بلاد الاغتراب، وهم يطمحون للتوطين في مناطقهم الأصلية وبداية المشوار الذي يرغبون فيه نحو مزيد من الولاء للوطن والأرض الذي كان في المخيال العام وهما، وها هو يتحقق، ولكن يجب أن يكون واقعيا. فالخيام لا زالت منصوبة وقاطنوها يستشعرون الغربة داخلها، وهم يرنون لقراهم وأريافهم وقد تحررت. ما الذي يحول إذن بينهم وبين عودتهم، وهذا جوابه: (البيت!) وهذا البيت الذي غادروه منذ 14 عاما، ماذا حل به وقد أتت القذائف والبراميل المتفجرة فأحالته إلى ركام. هذا الركام لا زال جاثما لم تحركه أية قوة، وكأننا نعشق الأطلال ليبدأ الشعراء النعي والنواح والبوح.

قضيتنا، أن تعاد الحياة من جديد لهذه الأماكن المدمرة في بلادنا وما أكثرها، والحياة لن تعود من دون السكان وأهل هذه الدِّيَرة والأمكنة.

إذن خريطة الاستثمار تبدأ من هنا، تأسيس قرى نموذجية، وأحياء نموذجية وبيوت اقتصادية لعودة آمنة ومضمونة لكتلة سكانية تزيد على عشرة ملايين من البشر، فيها مدارس وفيها مستوصفات، وفيها أماكن للعبادة، وفيها شوارع وخدمات وكهرباء وماء وصرف صحي... إلخ. والدولة الجديدة في سوريا تحاول، ومع محاولاتها تلك تتعرض إلى ما يشبه تحويل الاهتمام إلى قضية ربما أكبر أو أصغر. والقضية الكبرى هي مسألة الوحدة الوطنية، وإبقاء الدولة السورية مركزية تتبع لها الأقاليم (المحافظات) وفق نظام مرن للإدارة المحلية له كل الصلاحيات لإدارة الحياة العامة للسكان من النواحي البلدية وخلافه، وتبقى الإدارة المركزية هي المشرفة على شؤون الناس في جميع الأنحاء.

.أ.ف.ب
مزارعون يقطفون نبتة الزعفران، في حقول شمال مدينة إدلب 23 نوفمبر 2024

رابعا: القضية الهامة التي تقع على عاتق الدولة المركزية هي الإفصاح بشكل لا لبس فيه حول المنهاج الاقتصادي المتبع، وهل خطوات الإصلاح الحقيقي واضحة، وكيف يمكن أن يكون شكله ومحتواه، ومن أين نتجه وإلى أين؟

إذن المنهاج الاقتصادي يدلل بوضوح على شكل ومسيرة النظام السياسي الاقتصادي، وهو إما أن تديره الدولة بنفسها، وهذا كان سابقة فاشلة طوال عدة عقود من السنين بسبب الإدارة والأيديولوجيا الضيقة، لأن الدولة كنظام بيروقراطي ليس لديها المرونة لتحريك عجلة الاقتصاد واتخاذ القرارات التي لا تحتمل التأجيل، ومن مساوئه أن يعتمد على جهاز من الموظفين في معظم الأحوال غير مؤهلين، وبالتالي ليس لديهم المتابعة والدراية لتحقيق المطلوب، وهذه قضية عانت منها كل الدول التي دخلت إلى التنمية بالتدبير والترقيع في معظم الأحيان، وافتقدت قضية التنمية الزخم المأمول منه.

وإذا كانت بعض الدول قد نجحت مرحليا في زيادة نسب النمو وزيادة حجم الإنتاج وقيمته، فقد كانت في مرحلة ما سُمّيَ آنذاك "الحوافز المعنوية"، وهي قضية حماسية يقوم بها من يؤمنون بذلك، ثم تلاشى بفضل سيطرة البيروقراطيين على المسيرة تلك مما أفقدها زخمها وتحولاتها الإيجابية.

التنمية في كل مراحلها وتوجهاتها بحاجة لميزانيات للإنفاق على المشاريع (التكاليف الثابتة)، وهي كبيرة بكل المقاييس

وعلى النقيض من ذلك، فالتوجه نحو القطاع الخاص الذي يملك القدرة على المبادرة والسرعة في اتخاذ القرارات وحل المشاكل التي تعترض طريق المشروع والعمل على خفض التكاليف ما أمكن وزيادة الإنتاج، ولكن ضمن شروط الربحية التي يأملها صاحب المشروع، وقد تأتي هذه الربحية على حساب النوعية والقدرة على المنافسة.

خامسا: وإذا كان الأمر كذلك، فإن التركيز على القطاع الخاص الداخلي والأجنبي الاستثماري قد يُفقد عملية التنمية مسألتين هما:

- التوازن المطلوب والنظر للمسألة التنموية التي من الضروري أن تكون مترابطة ومتكاملة وذات سلسلة وتتابع من الإنجازات يدفعان نحو بلورة مشاريع لها ترابطات أمامية وخلفية، ولها مزايا لا تتحقق إلا ضمن برامج الدولة المركزية، لأنها هي التي تطل على الموضوع التنموي باطلاع واضح على صيرورته ومآلاته. وإذا كان في مستطاع الدولة زج القطاع الخاص في مفاصل العملية التنموية وضمن المخطط التنموي، وتوجيه هذا القطاع لخدمة الأهداف الكبرى والعملية التنموية الشاملة والمتوارثة، فذلك يكون أجدى وليس في الإمكان مصادرة توجهاته نحو تحقيق الإنتاج الأفضل في مفصل من مفاصل البرنامج التنموي وتحقيقه الأرباح له وللدولة معه، ويجب أن لا يُنظر للقطاع الخاص نظرة عدائية بحجة أنه يبحث عن الربح فتلك هي مهمة أو مآل أي مشروع، ولو كان تابعا للدولة، فقد ولى عهد عدم التدقيق في النتائج وحسابات الأرباح والخسائر. والمشروع الخدمي والإنتاجي يجب أن يربح، وبالتالي، فإن الربح- زيادة على ما يوضع في خدمة المشروع، وتنامي الأرباح- يوسع دائرة العمل الاقتصادي ولا تقصره أو تحد من طموحه.

وتلك هي المسيرة الصحيحة والرؤى الواضحة لذلك.

سادسا: أساسيات التوجهات الاقتصادية الإيجابية والسلبية ترتكز على كيفية وضع خطة إعادة الهيكلة، وكيفية إيضاح الخطط الاستثمارية، ونؤكد على الإيضاح من عدمه، واستمرارية تطور هذه الخطط على محاور زمنية، لأن الاستثمار لا يتوقف عند حد معين، وهو متوالٍ ومتواتر، وهذه صفة الاستمرارية من التوسع الأفقي، إلى التوسع العمودي، إلى اعتماد المعايير الجديدة في التطوير الرقمي والصيغ التابعة له كالذكاء الاصطناعي، وإنتاج مقادير هامة من الحوكمة الشاملة والإيضاح والشفافية في البداية، ومع التنفيذ، ومع النتائج، تلك قضية كبرى تعطينا الدلائل على قوة المنهج وقوة الإحساس بالمسؤولية وقوة نشر ما نقوم به بشكل واضح وشفاف، لأن هدف التنمية في التحليل الأخير، المجتمع والناس في البلاد.

.أ.ف.ب
طفل سوري يقوم بجمع الحديد والمعادن من مواقع بناء، شمال محافظة الرقة 15 أكتوبر 2022

ومن هنا، فإن طريق التنمية المتوازنة والمستمرة، طريق صعب وليس من السهولة بمكان. ويعتمد على حسم التوجهات والاستمرارية بها، كما لا بد من مراعاة مسائل شائكة تعترض هذا الارتباط: همها وأساسها هو الإنسان، وأقصد الموارد البشرية المدربة والقادرة على قيادة العملية التنموية، فمن دون هذه الموارد يبدو الوصول إلى النتائج مجرد تمنيات، فالتنمية، الإنسان أولا، هو قائدها وهو المستفيد منها، وإذا كان من الواجب أن ندرك هذه الحقيقة، بالإضافة لدراسات الجدوى الاقتصادية والمنفعة من هذه التنمية وتقويمه بشكل حقيقي ومتابعة، وإيلاء التتبع لمواجهة الإخفاقات والاختبارات التي تحدث. وغالبا ما تحدث وإيجاد الحلول السريعة لها بشكل مثابر ومتتابع.

سابعا: التنمية في كل مراحلها وتوجهاتها بحاجة لميزانيات للإنفاق على المشاريع (التكاليف الثابتة)، وهي كبيرة بكل المقاييس، وهذا الإنفاق الاستثماري، يزيد من حجم الكتلة النقدية سواء بالعملة الصعبة أو بالعملة المحلية، مما يؤثر بشكل مباشر على حجم الكتلة النقدية المخصصة للاستثمار، بالإضافة لتكاليف شراء المواد الأولية والمواد الوسيطة وطرق استيرادها وشرائها من الأسواق المحلية، فضلا عن النفقات الجارية كالرواتب والأجور والسلف وتوابعها.

الدولة السورية الجديدة، جادة في سلوك التنمية الشاملة والمتوازنة في كل القطاعات الإنتاجية والخدمية، والمؤشرات الدالة على ذلك كثيرة، ولكن كل ذلك يحتاج إلى صبر ومثابرة

كل ذلك يزيد من حجم الكتلة النقدية المتداولة، وبالتالي يرفع مؤشرات التضخم، وعادة ما تلجأ الدول إلى سياسة التمويل بالتضخم لنقصٍ في المدخرات لديها، وهذا شيء خطر يفاقم من المؤشرات التضخمية ويرفع من مستوى المديونية الداخلية والخارجية. ويأتي دور السياسة المالية المتناغمة مع السياسة الاقتصادية. ولا بد من التطرق إلى مسألة الضرائب، وهذه حصيلتها جزء لا يتجزأ من إيرادات الميزانية التي قد تصل إلى (30-40) في المئة من الميزانية.

والضرائب نوعان، ضرائب مباشرة وهي ما يتعلق بالضرائب المتعلقة بذوي الدخل المحدود، ومفرداتها كثيرة ومنتشرة وتسمى ضريبة الدخل المقطوع، وحصيلتها لا يستهان بها لأنها تتناول كل ما يقوم به السكان من نشاطات اقتصادية أو تجارية على مستوى الوحدات الصغيرة والمتوسطة وكلها تخضع لضريبة الدخل المحدود (المقطوع)، ويفرض دفعة واحدة على النشاط الاقتصادي والتجاري والخدمي الذي يمارسه الناس آخذين بعين الاعتبار ضرورة التقويم الصحيح، بالإضافة للرسوم والضرائب على المساكن والمحلات والعَرَصات... إلخ.

أما الأشخاص الذين لديهم شركات ووكالات ومصالح كبيرة فهؤلاء تنطبق عليهم "ضريبة الأرباح الحقيقية"، وهي تدرس بعناية، ويكلف المكلف بإيجاد دفتر لمدخراته ومخرجاته وأرباحه السنوية، وتُفرض الضريبة على الأرباح وفق نمط معين يراعى فيه الدقة والنزاهة في الإشراف والتحصيل (الضريبة التصاعدية على الأرباح وفقا لقانون الضرائب المعمول به في كثير من الدول)، وللأسف فإن التهرب الضريبي لهذه النشاطات كبير ومغيب، والأجهزة المكلفة بتحصيل هذه الضرائب، وعلى كل المستويات، أن تكون على مستوى المسؤولية، لأن التهاون في ذلك أو التدليس، يفقد الدولة والميزانية أموالا تحتاجها الدولة، لذلك قيل إن "الموازنة هي جيب" المواطن توضع في الخزينة العامة للإنفاق منها، ويجب عدم المبالغة في فرض الضرائب، لأن هذا يكون سببا في التهرب، وعلى أية حال فإن جهاز مكافحة التهرب يجب أن يكون على مستوى من الاختصاص والنزاهة، وأن لا يكون صورة طبق الأصل عن أجهزة القمع وغير ذلك.

.أ.ف.ب
سوري يقف بجوار بقايا منزله المدمر في قرية الحواش التابعة لمحافظة حماة، في 22 مايو 2025

على أنني أنحاز هنا لعدم اقتطاع ضريبة الدخل من رواتب وأجور العاملين في الدولة والقطاع الخاص لأسباب معروفة ومقدّرة، حيث إن الموظفين والعمال والمستخدمين يتقاضون أجورا تكاد لا تسد رمق معيشتهم وأسرهم.

وفي هذا المجال، لا بد أن نراعي ضبط مسألة الرسوم و"المكوس" الجمركية على المستوردات وتخفيضها أو إزالتها عن الصادرات لتنشيط حركة الصادرات، وإيرادات الجمارك وما يماثلها مهمة للخزينة العامة وللدولة. ويجب أن يراعى تحصيل بعض الرسوم والمكوس بالعملة الصعبة أو ما يعادلها لزيادة وفورات القطاع الأجنبي لدى الدولة. كما أن تشجيع الصادرات وتحسينها يكون من جهة بحماية المنتج المحلي بشروط السوق والضرائب على المواد الوسيطة للإنتاج، وزيادة الضرائب والرسوم الجمركية على  السلع الكمالية (ولست من مشجعي الحماية الدائمة) من المنتجات القادمة من الخارج عن طريق زيادة الضرائب على المنتج الأجنبي، أو التقليل من استيراد السلع الشبيهة بالإنتاج المحلي شريطة أن يكون المنتج المحلي لا يقل جودة عن الأجنبي، وأن لا تستغرق هذه الحماية طويلا حتى يتم التحسين والتطوير المأمول، وإذا أردنا أن نحد من الاستيراد علينا أن نتوجه للحد من استيراد السلع الكمالية، وليس كلها، والسيارات الفارهة المكلفة، وأدوات التجميل المكلفة، وغيرها كثير.

إن الدولة السورية الجديدة، جادة في سلوك التنمية الشاملة والمتوازنة في كل القطاعات الإنتاجية والخدمية، والمؤشرات الدالة على ذلك كثيرة، ولكن كل ذلك يحتاج إلى صبر ومثابرة وحسن تدبير، على أن يكون ذلك وفق منهاج للتطوير مدروس ومعمول به وقابل للتطبيق.

ووفقا لما تقدّم لا بد من تطوير النظام المصرفي وتحسين أدائه في الإيداع والسحب، وبإشراف مباشر من المصرف المركزي، واستعمال الأدوات الحديثة في ذلك، وكذلك أنظمة الصرافة.

font change

مقالات ذات صلة