تروي "الشتاء الكبير" للكاتب والشاعر اللبناني أنطوان الدويهي (منشورات "دار المدار" و"الدار العربية للعلوم"، بيروت 2025) آلام وعذابات "الحياة الداخلية" لراويها الفتى في سن السابعة عشرة، على خلفية مجتمع محلي يغرق في طقوس القتل والموت والحصار السوداوية في بلدة تدعى موريا.
لكن لا بد لقارئ ملم بحوادث اشتهرت وكانت مثيرة ومفاجئة في تاريخ لبنان الاجتماعي والسياسي المعاصر، أن يستذكر - فيما هو يقرأ الرواية - حوادث الثأر العائلي الدامية (على مثال عشائري) التي نشبت في العام 1957 ببلدتي مزيارة أولا وزغرتا تاليا، شمال لبنان. وخصوصا إذا كان القارئ يعلم أن زغرتا هي بلدة الكاتب الدويهي التي جعلها، مع تلك الحوادث المأسوية والمفجعة، إطارا مكانيا وزمنيا لروايته الجديدة. وكانت لتلك الحوادث تبعاتها في تاريخ لبنان المحلي والإقليمي.
العزلة والعنف والحب العذري
ما يرويه راوي "الشتاء الكبير" من أحداث وقعت في بلدته الروائية موريا، يطابق في وجه من وجوهه ما حدث فعلا وواقعا في بلدة الكاتب الروائي، زغرتا. وانشطرت البلدة أحياء جماعات عائلية موسعة، ونشأت بينها خطوط تماس شبه حربية، وراح أهلها يتبادلون إطلاق النار والقتل الثأري اللذين استمرا شهورا. وظلت الثارات الزغرتاوية تنبعث وتتناسل وتتجدد في أوقات وأماكن متفرقة ومتباعدة، وصولا إلى مدينة طرابلس القريبة (طينال في الرواية، وهو في الواقع اسم مسجد مشهور في طرابلس). وفي الرواية كان ينقل جرحى الثارات العائلية إلى مستشفيات طينال على ظهور البغال عبر طرق خلفية من أحيائهم المحاصرة في موريا.
يقيم الراوي في "الحي القديم داخل موريا الغربية المحاط بأسوار غير مرئية أقوى من كل الأسوار". لكن ليس "لدى ساكنيه شعور بالانغلاق والعزلة، إلا على موريا الشرقية التي تبادلهم العداء". أما المدار الروائي في "الشتاء الكبير" فهو آلام وعذابات الراوي الفتى حينما لم يكن تجاوز الـ17 من عمره. ولا رغبة لديه في مغادرة حي موريا القديم: "لا يمكنني تصور حياتي خارجه"، يقول. ويعلل ذلك بأسباب ثلاثة احتمالية ويكتنفها الغموض: تعلقه بـ"طبيعة المكان شبه الدائرية، وشبه المغلقة". وتعلقه أيضا بـ"فصول العنف وطقوس الموت التي رافقتني منذ قدومي إليه" طفلا صغيرا.
أما السبب الثالث - والأرجح أنه الأقوى - فهو: "ولهي بهند" المقيمة "في ناحية أخرى من موريا". وهو يسميها هندا لأنه لا يعرف اسمها ولا اقترب منها، بل "(ظللت) أرنو إليها من بعيد (صامتا) حين تظهر على تلك الشرفة". ثم يصف ولههه بها بـ"الرهيب (...) ولا أمل لي في الخلاص منه". إلى أن يتساءل: "هل نذرت لهذا العذاب وحدي من دون سائر البشر؟". والعذاب ليس "عذاب فراق هند" التي رحلت فجأة مع أهلها، "بل هو عذاب حضورها الحقيقي الدائم، المضني (...) وراء هدوئي وصمتي (...) ولا أحد يدري به قط".