سوريا وتبرعات المقربين من الأسد

سوريا وتبرعات المقربين من الأسد

شهدت سوريا في الأسابيع الأخيرة موجة من حملات جمع التبرعات البارزة، قُدِّمت على أنها تجسيد للاعتماد على الذات وروح التضامن الوطني. غير أن بعض التعهدات أثارت غضبا بدلا من الإعجاب، وهو ما لم يكن المنظمون يتوقعونه على الأرجح. لكن هذا الرد لم يكن مفاجئا، نظرا لأن تلك المساهمات جاءت من عائلة رجل الأعمال محمد حمشو، أحد أبرز المقربين من نظام الأسد وأكثرهم شهرة.

لم يكن أبناء حمشو متحفظين في ظهورهم، إذ حضروا شخصيا حفل إطلاق صندوق التنمية السوري الذي شارك فيه الرئيس أحمد الشرع وعدد من كبار المسؤولين، وأعلنوا خلاله تبرعهم على الملأ. وقد أثار التبرع البالغ 2.1 مليون دولار، والذي قُدّم في ذلك الحدث وفي مناسبة أخرى بعد أسبوعين، إدانات واسعة إذ اعتُبرت التبرعات محاولة فاضحة لغسل سمعة العائلة التي لطختها اتهامات بالثراء من الحرب وخدمة مصالح ماهر الأسد شقيق الرئيس السوري السابق بوصفهم، واجهات مالية له.

وقد أعاد هذا الجدل إحياء التساؤلات حول كيفية تعامل السلطات الانتقالية مع الشخصيات المرتبطة بالنظام السابق، وما إذا كانت هناك صفقات تُعقد خلف الأبواب المغلقة بعيدا عن أعين الرأي العام. كما أن صمت الحكومة حيال منح عائلة حمشو مثل هذا الظهور العلني زاد من حدة الشكوك. فغياب الشفافية لا يقتصر على تقويض ثقة الجمهور، بل يهدد أيضا الرسالة التي تحاول السلطات إيصالها، وهي أن المرحلة الانتقالية تمثل قطيعة حقيقية مع ظلال الماضي.

بوابة التبرعات

اندلع الجدل مع إطلاق صندوق التنمية السوري في دمشق في الرابع من سبتمبر/أيلول، حيث جُمع خلال ساعة واحدة أكثر من 61 مليون دولار.

لكن أبناء حمشو سرقوا الأضواء وأثاروا عاصفة من الغضب فورا. فقد استحضر ناشطون من أحياء دمّرها قصف قوات الأسد كيف أن شركات مرتبطة بحمشو نهبت الحديد من المنازل المهدمة، في حين أشار آخرون إلى العقوبات الأميركية والأوروبية التي صنّفت حمشو منذ زمن طويل باعتباره ممولا رئيسا لقمع الأسد، محذرين من أن إعادة تأهيل مثل هذه الشخصيات قد تسمّم التعافي الاقتصادي الهش قبل أن يبدأ.

وما إن بدأ الغضب الشعبي يخفت، جاءت الضربة الثانية. ففي العشرين من سبتمبر، أعلن منتجع يعفور المملوك للعائلة عن تبرع جديد بقيمة 1.1 مليون دولار خلال حملة بعنوان "ريفنا بيستاهل". وقد أكّد ذلك ما كان كثيرون يشتبهون به: أن التبرعات لم تكن أفعالا عشوائية من حسن النية، بل جزء من حملة مدروسة لإعادة تأهيل اسم حمشو باستخدام ثروة بُنيت على معاناة السوريين لشراء الشرعية من جديد.

ولا يمكن التقليل من عمق ارتباط حمشو بعائلة الأسد. فإمبراطوريته التجارية، الممتدة من الحديد والبناء إلى الإعلام والإلكترونيات، ازدهرت بفضل علاقته الوثيقة بـماهر الأسد. وعلى مدى سنوات، لم يكن حمشو مجرد تابع مخلص، بل إحدى الواجهات المالية الأكثر ثقة لدى ماهر الأسد.

حصانة في الظل؟

أعاد الجدل الدائر إشعال النقاش حول النهج الغامض الذي تتبعه الحكومة الانتقالية في التعامل مع مقربي النظام السابق. فقد عمّقت التبرعات الأخيرة الشكوك التي أثارتها تقارير عن صفقات اقتصادية سرية تُبرم خلف الأبواب المغلقة.

وكشفت تحقيقات لوكالة "رويترز" في يوليو/تموز عن وجود لجنة نافذة وسرّية يقودها مقربون من الرئيس أحمد الشرع، من بينهم شقيقه حازم، تعمل بهدوء على استعادة وإعادة هيكلة الأصول المرتبطة بالأسد ومقربيه. وذكرت التقارير أن العملية كانت تتم غالبا مقابل منح الحصانة لرجال الأعمال المرتبطين بالنظام، لقاء التنازل عن الجزء الأكبر من ممتلكاتهم.

وكان محمد حمشو من بين الأسماء المذكورة في التحقيق. ووفقا لما أوردته "رويترز"، فقد تخلى عن نحو 80 في المئة من إمبراطوريته التجارية التي قُدرت قيمتها بأكثر من 640 مليون دولار، محتفظا بما يقارب 150 مليون دولار. كما سُمح لأفراد عائلته بالاحتفاظ بإدارة شركاتهم الخاصة.

ورسم تقرير "رويترز" صورة مقلقة: عملية إعادة هيكلة الاقتصاد السوري بعد الحرب تجري بكاملها بعيدا عن الأنظار، ويُهيمن عليها عدد محدود من النافذين من دون أي مظهر من مظاهر المساءلة أو الشفافية.

في المقابل، نفى مسؤولون في الحكومة الانتقالية عقد أي من هذه الصفقات. وأشار تقرير صادر عن مركز "نيو لاينز" إلى أن مصادر حكومية رفضت مزاعم "رويترز" ووصفتها بأنها عارية من الصحة، مؤكدين أن عملية الانتقال في سوريا تجري وفق مبادئ العدالة وسيادة القانون، لا عبر تفاهمات خلف الكواليس.

أعادت قضية حمشو إلى الواجهة سؤالا محوريا ما زالت الحكومة تتجنّب الإجابة عنه: كيف ستتعامل مع من راكموا ثرواتهم عبر الحرب والقمع؟

من خلال رفضها توضيح أسباب منح عائلة حمشو هذا الحضور البارز، خلقت السلطات فراغا امتلأ بالتكهنات. ويهدد هذا الصمت بتقويض ثقة الرأي العام ويثير الشكوك حول ما إذا كانت المرحلة الانتقالية تمثل فعلا قطيعة حقيقية مع الماضي، أم إنها تُبقي البلاد رهينة له عبر صفقات سرية مع النخب المتجذرة.
لا تزال أمام الحكومة فرصة لتصحيح المسار، لكنها تحتاج إلى تحرك حاسم. فالشفافية أمر جوهري، ويعني ذلك الاعتراف العلني بوجود أي اتفاقات مع شخصيات مرتبطة بالنظام السابق إن وُجدت، وتوضيح شروطها وأهدافها، وإخضاعها لرقابة مستقلة تضمن المساءلة.
لقد أعادت قضية حمشو إلى الواجهة سؤالا محوريا ما زالت الحكومة تتجنّب الإجابة عنه: كيف ستتعامل مع من راكموا ثرواتهم عبر الحرب والقمع؟ فالإجابة على هذا السؤال ستحدد ما إذا كانت المرحلة الانتقالية سيُحتفى بها كإصلاح حقيقي، أم سيُقوّضها استمرار الإفلات من العقاب.
ولا تقتصر رهانات هذا الملف على عائلة واحدة. فإذا أُسيء التعامل معه، فقد يُضعف ثقة الشارع ويُنفّر المستثمرين الدوليين ويُعرقل التعافي الاقتصادي. أما إذا عولج بشفافية ووضوح، فسيكون بمثابة إشارة إلى أن القيادة الجديدة في سوريا مستعدة لمواجهة الحقائق المؤلمة، وللتحول من الحكم عبر الصفقات إلى الحكم عبر القوانين.
إن الحكومة الانتقالية لا تستطيع التهرب من هذا الاختبار. ولتحقيق النجاح، يجب أن تواجهه مباشرة في وضح النهار، لا في الظل.

font change